وجد حازم صعوبة كبيرة في النهوض صباحاً، كان مزاجه سيّئاً للغاية، و لم يكن لديه أي رغبة في الخروج.. ” في الخارج هناك ملايين الاحتمالات.. إنّه مكان خطير للغاية.” فكّر وهو ينتزع نفسه من السرير ليذهبَ إلى الـ gym. لم يحبّ يوماً هذا النوع من الرياضة، لكنّه كان مدركاً لفوائدها العظيمة لدى كلا الجنسين في تكبير العضلات و تدوير المؤخرات، و تحويل الكثير من الغضب من طاقة انفعالية إلى طاقة حركية، عدا عن قدرتها المثبتة على تقليل نسبة الشحوم و الأوهام على حدٍّ سواء.
” بإمكانك فعل ما هو أفضل من ذلك. ادفع بقوة أكبر. الألم جيّد.. تذكّر ذلك دائماً.” قال المدرّب مشجّعاً.
” الألم جيّد، الألم جيّد.” كرّر حازم في رأسه بينما كان يرمي الأوزان على الأرض و يحاول تناسي تمزّق عضلاته و احتراقها.
_ ” الألم جيّد!! أليس هذا ما يقوله الفلاسفة و العشّاق إضافةً إلى المدرّبين في صالات الـ gym؟” قال لنفسه مستهجناً غرابة الفكرة. الفلاسفة يرَون في الألم مصدر الإبداع والطريق إلى الحكمة، والعشّاق يعرفون أنّه مِلحُ الحبّ و أرضه الخصبة، و المدرّبون في الـ gym يتفقون أنّ الألم يعني عضلات أٌكبر وكرشاً أصغر.
“فلتحلّ اللعنة إذاً على وجودنا الخرائي برمّته طالما اتّفقت فيه أساسات تكويننا المتناقضة – العقل والعاطفة والقوّة- على أمرٍ واحد من قبيل أن الألم شيءٌ جيّد.” أنهى التمرين المنهك الممل لليوم، وخرج مغموماً بعد هذا الاستنتاج.
ذهب إلى بائع القهوة، فوجده ميّتاً على هيئة ورقة نعيٍ ملصقة على جدار الكشك المغلق. انتبه أثناء قراءته لها أنّه لم يعرف اسمه يوماً رغم السنوات التي أمضاها يشتري منه فنجان القهوة كل صباح، ورغم عشرات أو مئات الأحاديث السريعة التي تبادلاها كل يومٍ تقريباً.
مرّت في رأسه ملامح الرجل الخمسيني الوسيم، ذو الذقن البارزة والعينين الغائرتين، والوجه الحليق دائماً مع جبهة عريضة تعلوها بعض التجاعيد، أمّا شعره فكان رماديّاً كثيفاً بتسريحة بسيطة لكنّها أنيقة بما فيه الكفاية.
” أنا لا أقدم للآخرين ما لا يمكنني تناوله.” تذكّر حازم جواب القهوجي حين سأله عن سرّ إصراره الذي جعله كشك القهوة الوحيد في المدينة الذي يقدّم القهوة المغليّة بالطريقة المنزلية، بينما يستعين الجميع بشيءٍ رديء شبيه بالقهوة سريعة التحضير مجهولة المصدر والمكوّنات.
لم يكن الحزن هو ما يشعر به حازم، بل كان مزيجاّ من الذهول والاضطراب. ذهولٌ من بساطة الموت وسطوة حضوره، واضطراب شديد يصيبه دائماً إذا ما أرغم على تغيير أبسط روتين في أيامه المتشابهة إلى حدٍّ بعيد. كما أنّه لم يملك أن يوقف دفق الذاكرة المرتبط بالقهوجيّ. الرجل الذي كان واضحاً أنّه تعرّض للكثير من الهزائم لكنّ ذلك لم يجعله مهزوماً بحالٍ من الأحوال، حتّى عيناه اللتان تطفحان حزناً وخذلانا لم تتمكنّا يوماً من إرغامه على لعب دور الضحيّة. هو الذي لم يقل يوماً كلمةً واحدة عن صورة الشاب الموشّحة بشريط أسود والموضوعة على الطاولة دائماً بقربه، بل اكتفى بتعليقٍ غريب حين استشعر أن حازم ربّما أخذه الفضول هذه المرّة لدرجة قد تجعله يطرح أسئلةً عنها: ” الفضيلة الوحيدة ربّما للحروب هي أنّها تعرّي ضعف الآلهة بالكامل و تسقط عنها تهماً من قبيل القدرة الكليّة، أو انحيازها لطرفٍ دون الآخر، لذا فالحرب دائماً هي فرصة تاريخية لنسف كل ما هو موروث و مقدّس، فهو ليس مقدّساً إلّا في رؤوسنا.” قال الرجل بينما كان ينظر في عينيّ حازم نظرةً تعني أنّه لن يقول شيئاً آخر في هذا الشأن.
“هل ضاجعتَ امرأةً حقيقية في حياتك؟” قال القهوجيّ ذات مرّة و هو ينظر إلى كتاب كان في يد حازم.
” ما الذي تعنيه؟” سأل حازم مستغرباً.
” أقصد أنّ الكتب جيّدة فقط إن ساعدتك بطريقة ما على مضاجعة امرأة حقيقية، و إلّا فهي مضيعةٌ كاملة للوقت.” تذكّر حازم هذا أيضاً في الوقت الذي تنبّه فيه إلى كلمة-الأستاذ- تسبق اسم القهوجيّ في ورقة النعي.
” و ما هي المرأة الحقيقية؟.” سأل حازم بنبرة أقرب للتهكم.
” ما كنتَ لتسأل سؤالاً ساذجاً كهذا لو أنّك التقيتَها بالفعل.” ردّ القهوجي بسخريةٍ لا لبس فيها.
حين جاء حازم إلى هنا اليوم، لم يكن يفكّر بالقهوة، بل أراد فقط سؤال القهوجيّ عن الألم. هل هو جيّدٌ حقّا؟. لكنّ الكشك كان مغلقاً و الرجل لم يكن موجوداً، كان ميّتاً بكل بساطة وهدوء، بل و بكلّ غباءٍ ربّما.
لم يعرف كم مضى من الوقت وهو يقف محدّقاً كالأبله في الورقة اللعينة، لكنّه استفاق من ذهوله في لحظة ما وعاد إلى السيارة. “ماذا الآن؟” تساءل بينما جلس لا يعرف أين يذهب أو ماذا يفعل، فكلّ شيءٍ في كلّ يوم كان يترتّب أو يحدث تلقائياً بعد حديث سريع وفنجان قهوة عند صديقه الميّت.
انتفض فزعاً حين رنّ الهاتف فجأة بقربه، لطالما كره حازم الهواتف الخليوية، واعتبرها أكبر منتهكٍ للخصوصية في تاريخ البشرية. لكنّه أجاب هذه المرّة دون تردد رغم أن الاتصال كان من مجهول، و هو أمر لا يفعله أبداً في العادة.
” اسمع، أنا لا أريدُ منكَ شيئاً، و لا أتحدّثُ إليكَ أملاً في أن نعود سويّاً- ذلك لن يحدث على أيّة حال-. أردت فقط أن أقول أنّي أحبّك، لم أتوقّف لحظة عن ذلك، ولا يبدو أن هناك إمكانية لتغيير هذا الأمر.” جاءه صوت حبيبته الغائبة منذ سنة كاملة في أكثر التواقيت غرابة ولا منطقية.
_” هل سمعتَني؟ لمَ لا تقول شيئاً؟ أنا أحبك… قل شيئاً أرجوك.” ألحّ الصوت الرقيق.
ظلّ حازم صامتاً لبعض الوقت، وبعد تفكير عميق تدبّر أن يقول لحبيبته شيئاً من قبيل:” هل تعرفين؟… بائع قهوة لم يمت!”
*****
خاص بأوكسجين