هذا النص هو الفصل الثاني من نوفيلا “كافكا البغدادي” التي ستصدر قريباً عن “محترف أوكسجين للنشر”
غرفةٌ فندقيةٌ بلا بابٍ، بسقفٍ متشقّقٍ، فيها كرسيٌّ بثلاث أرجل، وسرير سُرق من أحد السجون. في أعلى الحائط على اليمين، كتب أحدُ النزلاء السابقين كلمة «ليش». لا نعلم إن كانت الكلمة مجرّدَ سؤالٍ وجودي، أم أن لهذا النزيل كلماتٍ أُخرى لم يستطع كتابتها. في كل يوم ينتظرُ «ك» عند الساعة العاشرة صباحاً الجرذَ الذي يشاركه الغرفة ليعطيه بعض الطعام، وليقف أمامه ويؤدي النصَ الذي حفظه. سأله:
«تعرف هاملت؟»
حدّق في الجرذ منتظراً الجواب، بعد برهةٍ أكمل:
«هاملت مسرحية لشكسبير! يبدو أنك لا تعرفها!»
قفز على السرير ليمثّل للجرذ مقطعَ «أكون أو لا أكون». لم يكن منظر «ك» أفضل حالاً من الجرذ بكثير، شعرٌ منكوش، وعينان جاحظتان أقرب إلى التبلّد، أقرب إلى الجنون المتهوِّر. ملابسهُ رثةٌ وعظام وجههِ بارزةٌ جرّاء سوء التغذية. عند أقرب نظرة يمكنك أن تقول، وبدون أن تكون مخرجاً محترفاً، إنه الأنسب ليلعب دور أحد يهود الهولوكوست. ينام في الحادية عشرة ليستيقظ بعدها بأربع ساعات. يخرج من الفندق، يمشي لخمسة كيلومترات متجهاً إلى المسرح. في الطريق الطويل من الفندق إلى المسرح يعيدُ «ك» العبارة ذاتها مئات المرات، العبارة التي أعاد ترديدها أمام الجمهور في الأشهر الأربعة الماضية، وبالهوس ذاته: «النجوم تصحبني كل يومٍ إلى القاع».
***
قبل أربعة أشهر، أي في يومهِ الأول، وبينما كان جميعُ العاملين والممثلين يشكِّلون دائرةً كبيرةً، يتوسّطها المخرج، كان المسرح هادئاً وشبه مظلم، وقد تمركزت الإضاءة على المخرج. وقبل أن يتكلّم، دخل «ك» بهيئةٍ غريبةٍ، وصوتٍ متعبٍ، وأنفاس لاهثة، بعد أن قطع المسافةَ بين الفندق والمسرح ركضاً.
قال: «شفت الإعلان، أريد أن أمثّل».
أجابه المخرج:
«أنتَ متأخر. الإعلان قديم. غداً العرض الأول للمسرحية».
«أمامك أعظم ممثل… أعظم ممثل أنتجه هذا البلد الخربان، اعطني فرصة!»
«لن أعطيك. اطلع برّه وإلا سأطلب الأمن».
تجاهل «ك» المخرج وكأنه لم يقل شيئاً، وقال:
«سأمثّل دور الريّس».
تبدّلت وجوه الممثلين وفريق العمل من السخرية التامة إلى الجمود. بدأ «ك» بتغيير صوته والمشي بشكلٍ دائري حول الموجودين. لم يكن أداء «ك» جيداً، حاول بعض العمال الإمساك به، لكنه أفلت منهم. بدت معالم الاضطراب تتضخم بعد كل ثانية. قال: «سأمثّل دوراً لا تخافونه بقدر خوفكم من الدكتاتور، سأمثّل الله!»
صرخ المخرج بصوتٍ ملأهُ الارتباك:
«خلص خلص! ستمثّل».
أخذ السيناريو الخاص بالمسرحية، وقال:
«احفظ هذه الجملة».
***
فتح «ك» عينيه على مالك الفندق يهزه ويقول:
«مكالمة… اتصال لك».
لم يتلقَ أيَّ اتصالٍ منذ سنوات! من نبرة صوتِه الخشنة علم أنه المخرج، قال له:
«تعال بسرعة إلى المسرح».
وأنهى المكالمة.
ركض «ك» إلى الغرفة، فارتدى ملابسَه المعتادة، القميص الأبيض المائل إلى الصفار، البنطلون الأسود الفضفاض، والحذاء الرمادي المرقَّع. وكانت هذه أول مرة يقصد المسرح، وهو لا يردد عبارته المسرحية.
لقد انسحب أغلبُ الممثلين، رواتبهم لم تكن تكفي لشراء نصف حذاء، ومع كل انسحاب يفكِّر «ك» في دورٍ لا يقتصر على ثوانٍ معدودة. عبارة «ك» لم تكن محوريةً، بل كانت إطالة من قبل كاتب المسرحية لتصل إلى ثلاث ساعات عرضٍ. بعد الأسبوع الأول فقد كلُّ الممثلين الحماسَ عدا «ك» الذي كان مصدّقاً بعبارته. لم تكن مجرَّدَ جملةٍ يلقيها أمام جمهورٍ قليلٍ، بل كانت قدره الذي أحب، الجملة التي خلقه الله من أجلها. لم يكن الكومبارس «ك» مجرَّدَ كومبارس بعينيه اللتين تسببان التوتر لكل من يحاوره وبحركات جسده الواثقة. الجملة التي قالها للمخرج لم تكن مزحةً، آمن بأنه أعظمُ ممثلٍ أنجبه هذا البلدُ الخربان. وصل إلى المسرح، وعند دخوله لغرفة المخرج رآه ينظرُ إلى الأرض، قال:
«وقع حادث للبطل، تأجّل عرض اليوم، أنت ستصبح البطل اعتباراً من الأسبوع المقبل».
هناك الكثير من الحوادث غير المفهومة. القدر يتراجع إلى الوراء دائماً، لكن في هذه الحالة قرر القدرُ أن يصبح حلماً، أن يثور ويركض لجهةٍ غير معلومة.
لم يعطِ المخرجُ أيَّ تبريراتٍ لـ «ك»، لماذا هو بالذات؟ توقّف وجهه المليء بالحركة مستقراً على شكلٍ واحد. ظلّ واقفاً في مكانه يتصفّح النصَّ الضخم، وقبل أن يخرج قال المخرج:
«انتبه! وزير الدعاية سيكون حاضراً».
***
حفظ النصَّ في خمس دقائق قبل دخوله خشبة المسرح، ولم يشارك إلا بروفة واحدة قبل العرض. بدت علامات الإرهاق واضحةً على وجهه. المسرح شبه ممتلئ. نصف الحضور من المسؤولين، يتقدّمهم وزيرُ الدعاية بشاربٍ عريضٍ، ووجهٍ مكتنزٍ كأنه نسخةٌ رديئة من الدكتاتور. عندما فُتِح الستارُ بدأ الممثلون بالدخول. ما هي إلا أربع دقائق، حتى أحسّ «ك» بفقدان التوازن، ثلاث دقائق، تقلّص عنده مجالُ الرؤية، دقيقتان، لم يسمع فيها ما قاله مساعد المخرج، دقيقة، ظل متجمداً في مكانه. سيطرت علاماتُ القلق على العاملين خلف الكواليس، دفعوه إلى خشبة المسرح. ظلّ واقفاً ينظر إلى الجمهور، رفع رأسه وقال:
«تعرفون هاملت؟»
«ك» بملابس عصرية يمثِّل مونولوج شكسبير مع إضافاتٍ لم يفكِّر فيها شكسبير، ولا حتى الشيطان يمكن أن يكتب ما قاله «ك» في تلك الليلة. أكمل مونولوجه، وظلّ يكرِّر جملته: «النجوم تصحبني (كما ذُكِرت أول مرة) كل يوم إلى القاع»، قبل أن يسقط أرضاً، ويُغمى عليه.
*****
خاص بأوكسجين