إنه كابوس فيكتور أوربان الأسوأ: “يستيقظ أندرس، وهو رجل أبيض، في إحدى الصباحات وقد اتخذت بشرته لوناً بنياً داكناً لا لبس فيه.” هكذا يستهل محسن حامد روايته الجديدة “الرجل الأبيض الأخير” في محاكاة مقصودة لافتتاحية فرانز كافكا في”التحول”.
منذ أبهر المشهد الأدبي لدى نشر روايته “دخان العث” عام 2000، أظهر حامد قدرة ورغبة بالتصدي للمسائل الكبيرة والخلافية بما فيها الحرب على الإرهاب والهوية والفساد والفقر. وهو يتعاطى في روايته الأخيرة مع شأن كبير آخر وهو “البياض”.
يتوسل “البياض” معالجة روائية ومقاربة بعدسة كافكاوية. إذ غدا مجازاً أو حتى أسطورة نسقط عبرها كافة أشكال القلق والخوف بشأن العالم والمكان الذي نشغله فيه. وهو ما يصح على كافة أطراف الجدل بشأن العرق. فبالنسبة للعنصريين، “البياض” هو تعبير عن كل من الفخر والفقد، وتجسيد لإحساس بالتفوق والفرادة ولكن أيضاً تمثيل لعالم في طور الأفول.
سببت تصريحات رئيس الوزراء الهنغاري أوربان السخط مؤخراً لرفضه “الخلط العرقي” بين الأوروبيين وغير الأوربيين. فبحسب قوله، توقفت الدول التي حدث فيها مثل هذا الخلط عن كونها “أمم”. فإمحاء “البياض” كان أيضاَ تقويضاً لــ”الحضارة الغربية” المعرضة لـ “فقدان قوتها وأدائها وسلطتها وقدرتها على الفعل”. زعم أوربان أن “الغرب بمعناه الروحي إنزاح إلى وسط أوروبا” لأنه هناك فقط تنوجد أمم بيضاء بحق، وسواها من أوروبا هي “ما بعد غربية” فحسب.
فبعد أن كانت المناداة بـ “البياض” قائمة عل التفوق ماضياًـ، يتعلق بها البعض اليوم كزورق نجاة في عباب المجهول. يكثر الحديث في أوساط اليمين المتطرف عن ضرورة الدفاع عن “الأوطان” البيضاء وعن الخوف من استبدال الشعب الأبيض. إلا أن الأمر لا يقتصر عليهم بل يتعداهم إلى الأوساط المحافظة التقليدية القلقة على نحو كبير من تحول البيض إلى أقليات في مدن أوروبا. إن كان البياض بالنسبة للعديد من العنصريين والمحافظين استعارة لعالم يأفل، فهي غدت رمزاً للسلطة والإمتيازات بالنسبة للمناهضين للعنصرية الذين بلورهم غالباً مناخ الهوياتية القائم راهناً.
لربما نظر مناهضو العنصرية سابقاً إلى مهمتهم على أنها محاربة للعنصرية، ولكن يقدمها كثر اليوم كمجابهة لـ “البياض، أو على الأصح غدت مناهضة العنصرية ومجابهة “البياض” مشروعاً واحداً فحسب.
يتأصل التركيز على “البياض” بالنسبة للعديد من مناهضي العنصرية أيضاً في الشعور بالتشاؤم من إمكانية القضاء على العنصرية. فكما يقول تا ناهسي كوتس في كتابه “بيني وبين العالم”، “ليس للزلزال المثول أمام القضاء ولا للطوفان الانحناء أمام مضبطة الاتهام” في سياق الحديث عن احتمالات القضاء على العنصرية.
قد يكون كوتس كاتب المقالات الأفرو أميركي الأكثر شهرة في عالمنا المعاصر، وهو بحسب وصف الراحلة توني موريسن، “من ملأ الخواء الفكري الذي ابتليت به إثر وفاة جيمس بولدوين”. ولكن على خلاف بولدوين، والذي لم يفقد الأمل قط بإصلاح المجتمع، ينتاب كوتس اليأس تجاه تماثل استحالة مواجهة العنصرية واستحالة درأ زلزال أو إعصار عبر سن القوانين.
تعود جذور هذا القنوط العرقي المعاصر إلى عمل الباحث القانوني ديريك بل. على الرغم من كونه مغموراً بالنسبة لكثر، إلا أنه يتصدر المؤثرين في بلورة التفكير المعاصر بالعرق، وبخاصة في الولايات المتحدة. فهو عراب ما عرف لاحقاً بنظرية العرق النقدية. فوفق قوله، العنصرية ” مكون متأصل ودائم وراسخ لهذا المجتمع.” فلن يحصل السود “على المساواة التامة” لأنه لا يمكن للبيض “ببساطة تصور المسؤولية الشخصية ولا التضحيات المحتملة … التي تتطلبها المساواة الفعلية لصالح السود”.
نادراً ما بلغ الذين ألهمتهم كتابات بل مستوى قنوطه. إلا أن التشاؤم قد بلور معظم التفكير الراهن بالعرق، وهو يغذي الانطباع بأن البياض هو منشأ العنصرية وهو العقبة الدائمة أمام القضاء عليها. صحيح أن هذه الظاهرة هي خصوصية أمريكية، إلا أن أثرها حاضر على هذه الضفة من الأطلسي. خذي مثلاً إصرار البعض أن العنصرية هي سبب خسارة ريشي سوناك سباق رئاسة حزب المحافظين، وهو زعم يفتقر لما يدعمه وتنقضه الكثير من الأدلة المغايرة.
سيبدو التغلغل في أعماق “البياض” لتشريح معانيه المختلفة وتحديد موضعه في عالم اليوم المضطرب وهجسه بالهوية، مهمة بالمتناول بالنسبة لروائي برؤيةٍ مثل التي يتمتع بها حامد. ولكن بالمجمل تكتفي رواية “الرجل الأبيض الأخير” بالسطح من دون غوص أو تشريح.
ليس أندرس بالأبيض الوحيد في الرواية الذي يتغير لونه، إذ سرعان ما “يدكن” الجميع. “الرجل الأبيض الأخير” الذي تتكنى به الرواية هو والد أندرس الذي يموت بالسرطان، وتسبغ الحبكة على مؤامرة “استبدال العرق الأبيض” دثاراً فانتازياً. فمع استبدال البيض بالسود، يتفكك المجتمع، وينزل “المقاتلون شاحبو البشرة” إلى الشوارع يعيثون عنفاً. إلا أن كل هذا يحصل عن بعد مع تركيز القصة بالأحرى على التغير الحاصل في علاقات أندرس وحبيبته أوونا ووالده المنازع ووالدة حبيبته، وهي من أنصار نظريات المؤامرة على شاكلة نظرية “كيو أنون QAnon” اليمنية المتطرفة. لا ينفك المرء يشعر بأنه لا يلج إلى باطن هذه العلاقات بل يكتفي بالنظر إليها من الخارج عبر نافذة مغبشة.
كتب حامد في ملاحظة لقرائه أرفقها بنسخ الرواية الأولى، “إن للأدب المتخيل قوة غريبة تمكنه من زعزعة التصورات الجمعية التي نرثها ونعيد استيلادها”. إلا أن المشكلة هي أنه ليس في الراوية ما يقوض “تصوراتنا الجمعية” فليس في طياتها ما يزعج أو يقلق القارئ على نحوٍ كبير.
تتمثل كافكاوية “الرجل الأبيض الأخير” بقذف شخصياتها إلى عالم يخلخل ما اعتادوه من أفكار وسلوكيات، إلا أن الرواية تتفارق عن أصلها الكافكاوي بعدم اللجوء إلى العالم السريالي الروائي لتكشف لنا عن شيء جديد وغامض ومتعب.
قد يفصح هذا لنا عن موقع “البياض”، وبشكل أعم موقع الهوية في العالم المعاصر. فكليهما أصبحا جزءاً متجذراً من كيفية تصورنا للعالم على نحوٍ ينعقد فيه لسان روائي موهوب وملتزم مثل حامد لدى محاولة توصيف هذا المآل. وهو ما يجب أن يؤرقنا.
———————–
عن “أوبزرفر”. عنوان المقال كاملاً: ” الضمير المستتر لهوسنا بالبياض: الخوف الدفين على مكاننا في العالم”
*****
خاص بأوكسجين