“الأحزان الصغيرة ثرثارة، أما عظيمُها فأبكم”
*سينيكا
14/10/2023
إليك
بمرارةٍ في القلب لن تزول…
حاولتُ أكثر من مرَّة الكتابة، وهذه العبارة للفيلسوف لوكيوس سينيكا تمنعني من ذلك، فأعود وأمحو، لأن عظيمَ ما يحدث من أحزان مترامية هو أبكم بما لا يدعو مجالاً للشك ويصعب استيعابه. وحين أحاول تفتيت الأحزان لتصغر قليلاً وتمنحني فرصة للكتابة، أجدُني ممزّقاً معها، مردوماً تحت كومة أنقاض، بلا قدرة على التنفس، ضعيفاً، هشاً، بلا حول ولا قوة، ولكنني أرى… حتى وأنا ميّت أرى. نعم أرى بعينين هما عدسة كاميرا توثق في الذاكرة كل شيء، كل هذا الدمار والرعب، وكأنها بداية لحرب تطهير عرقي وإبادة جماعية لأكثر من مليوني إنسان يعيشون منذ سنواتٍ طويلة في أكبر سجن مفتوح في العالم. هي مجزرةٌ على مرأى من حكّام العالم (الحر) الذين يكشفون كل يوم عن انهيارهِم الأخلاقي وزيف مقولاتهم الإنسانية ومعاييرهم المزدوجة ووقاحتهم الإعلامية وهي تزيّف الأخبار وتنشر صوراً مفبركة يتداولُها، بدموع مزيّفة هي الأخرى وخرقاء، كبارُ القادة، بينما تبدو المقارنة ضرباً من الجنون، ومئات الأطفال والنساء والشيوخ والعزل من المدنيين يسقطون شهداء تحت نيران قصف هستيري لم يشهد مثيله قطاع غزة، يصنف كجريمة حرب دموية مكتملة الأركان.
أمامي على المكتب كتاب الروائي الجزائري الطاهر وطّار «الشهداء يعودون هذا الأسبوع»، أتوقف ملياً عند رمزية العنوان لأن ما بداخله من مآسٍ وطنية وخيبات في جزائر ما بعد الاستقلال لا تعنيك. كما لا يعنيني إلّا العنوان، أتشبث بهِ وبمدته الزمنية على أمل ألّا تكون أطول من أسبوع… أسبوع كان طويلاً ومؤلماً وحارقاً كرصاصةٍ حاقدة تمزّق كل ما يعترض طريقها: البشر والشجر والحجر. رصاصة تبدأ صغيرةً ثمَّ تتحوَّل إلى قذيفة، إلى صاروخ، إلى قنبلةٍ تأتي على كل شيء دون تردد وبلا تصنيف أو تفرقة، فكلُّ ما يقع تحتها هو هدف صائب، طالما أن الكثيرين يغضّون البصر، لا يرون ولا يسمعون ولا يقولون شيئاً، بل أسوأ من ذلك، يصوغون الأكاذيب والمبررات ويصوّبونها مثل أي رصاصة أو صاروخ أو قنبلة.
كيف لك أن تُحصي الأحياءَ التي دُمّرت ومُسِحت بالكامل؟ عدد الشهداء والجرحى؟ حصيلة الصحفيين الذين اغتيلوا واغتيلت عائلاتهم؟ كيف لنا أن نبكيهم معاً واحداً واحداً بالاسم والصفة والعمر والحلم الذي توقف في مستهل الحكاية. أعيد وأكرر أنهم ليسوا أرقاماً كما تخبرنا شاشة التليفزيون وشريط الأخبار العاجلة في أكثر من محطة وقناة… محاولين الاحتفاظ بملامحهم، بكلماتهم الأخيرة، بصراخهم المبحوح… أسئلة كثيرة جارحة وناقمة ومؤلمة، لا إجابة لها أمام بوابّات الجحيم التي تنفتح للأسبوع الثاني بغارات همجية لا تُبقي ولا تذر.
مشاهد لأطفال يخرجون والترابُ يغطي أجسادهم المليئة بالجراح، يبكون بأصوات مرتفعة ليقولوا “لم نمت بعد”، فتاة تقول وهي تبكي “أنا بس بدي ألعب”، شيخ يخرج من تحت الأنقاض كأنه يعود من الموت مغبراً ويقول: “فش إشي، فش إشي”، بكاء أب على ابنه الوحيد وهو يشيّعه بعبارة “أنت شهيد يا ابني، أنت عريس في السماء”… حتى بكاؤك المكابر أسمعه، يجتاحني كليلٍ طويل حالك بلا كهرباء، بلا ماء، بلا دواء ولا معدات علاج والأشياء كلها على وشكِ الانهيار. أنهارُ مثلك في اليوم مرّات عديدة وأحاول الصمود كطفل يتشبّث بقميص أبيه الممزّق وقد أصيب بجرح بليغ. أحاول الصمود ككل الذين يتمّ تهجيرهم منذ اليوم الأول نحو جنوب القطاع وهو أمر شبه مستحيل في منطقة حرب مكتظة بالناس. رجل منهك أمام الكاميرا، قضى أربعين عاماً وهو يبني بيتهُ الذي انهار في ثوان معدودة، يقول مبحوحاً والغصة تذبح الكلمات في حلقه: “فدا فلسطين، فدا فلسطين”، شابٌّ يسحب الدخان من سيجارته ويعدّ ضحايا قصف الليلة الماضية، والذين تجاوزوا الخمسة عشر فرداً من عائلة واحدة، يكرر أيضاً: “فدا فلسطين، فدا فلسطين”، طبيبة تخرج من المستشفى تردد الشهادتين وهي تخبر ابنتها: “أبوك استشهد، أبوك استشهد”، أمٌّ تبكي أبناءها الذين استشهدوا دون أن يأكلوا شيئاً… عائلات بأكملها، من عدّة أجيال، لم يعد لها أثر في السجل المدني…
عبارة “ما رح نتحرك من هون” تتردّد ومعها يتردّد عتاب وأسىً، بتلك الآه التي تخرج من الأعماق، ومناشدات إغاثة يبدو أن جزءاً كبيراً من العالم لا يسمعها، فلا قدَر يغيّر جغرافيا الأوطان، ويجيب على سؤال لماذا نحن؟ وهنا؟ لماذا ندفع الثمن دائماً؟ أولسنا نفعل منذ 1948؟ وكيف لنا أن نتخلى عن هذه الأرض التي ارتوت بدمائنا ولم تكتف؟ هل يحق لنا أن نسأل ونسائِل كفلسطينيين؟ طالما أن السؤال والمساءَلة لا يعنيان أحداً، في هذه المجازر الوحشية، إلّانا؟
يقول غسان كنفاني: “إن الصمت هو صراخ من النوع نفسه. أكثر عمقاً، وأكثر لياقةً بكرامة الإنسان”.
هذا النص المفكك لك، كصمت صارخ في محنتك.
15/10/2023
تعوّدتُ أن أكتبَ لاحقاً، مؤمناً أن الكتابة الأبقى تحتاج إلى صمت أطول، وهذا التأجيل يأتي من العجز عن فعل التدوين اللحظي، فما ينهال من مشاهد وأخبار وتصريحات وجنون مستعر، يكبّلني، لتبدو الكلمات في غير محلِّها، ويبدو النص مفككاً، بأسطر هي أشبه بالشظايا، وفقرات كبيوتٍ مهدّمة، وما بينهما أنفاس متقطعة كمن فقد القدرة، نهائياً، على قول شيء يستحق القراءة.
لعلّه الشعر، هو ما يجعلني أواصل الكتابة، أنا القادم من تلك المنطقة المعتمة، الذي يكتبُ بحزن متراكمٍ جراء عطب كبير تركه، بخدوشٍ لا تمّحي في الروح قبل الجسد، “الوطن”. هذا الوطن الذي نؤمن فيه بالقضايا العادلة والمصيرية للشعوب المقهورة، نؤمن فيه بالحب والقدرة على التغيير، ويلقّننا دروساً في الإقصاء والتهميش واللامبالاة، لنتحوّل إلى أرقام في طابور طويل للمنفيين والسجناء والمكمّمة أفواههم.
اليوم أكدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” استخدام إسرائيل قنابل الفسفور الأبيض في قصفها قطاع غزة المكتظ بالمدنيين، وللتذكير فقط فإن هذا النوع من القنابل عبارة عن سلاح يعمل بامتزاج الفسفور مع الأوكسجين. والفسفور الأبيض عبارة عن مادة شمعية شفافة وبيضاء ومائلة للاصفرار، وله رائحة تشبه رائحة الثوم ويصنع من الفوسفات، وهو يتفاعل مع الأوكسجين بسرعة كبيرة منتجاً ناراً ودخاناً أبيضَ كثيفاً، وفي حال تعرّض منطقة ما بالتلوث بالفسفور الأبيض يترسّب في التربة أو قاع الأنهار والبحار ويلتصق حتى بأجسام الأسماك، وعند تعرّض جسم الإنسان للفسفور الأبيض يحترق الجلد واللحم فلا يتبقى إلّا العظم!
16/10/2023
الفلسطينيون اليوم، رغم كل المآسي المستمرة منذ عقود طويلة، يفككون الكثير من السرديات الغربية، ويسقطونها من علٍ… يثبتون أن الإعلام الموجه بات مزحة ثقيلة تُفضح في زمنٍ قصير، وما هذا التعتيم خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي في “ميتا” إلّا أحد جوانب لعبة قذرة، كانت وستظل تمارس على المستضعفين، وحتى على المشاهير الذين عبروا عن مواقفهم بإدانة العدوان الإسرائيلي على غزة، وعلى الفلسطينيين في أراضيهم المنهوبة والمحاصرة، بل في كل مكان لمن رأى الاعتقالات والمتابعات والتهجم على من يدينون ما سمّوه علناً وفي أكثر من بلد “إبادة جماعية”. ولا شك أن هذه المساندة الشعبية عبر مدن العالم ساهم فيها إعلامٌ “بديل” ملفت للانتباه، والذي ينقل الصورة كما هي، دون بكائيات، ولا تعتيم متعمّد.
وإن كنت أكتب لك الآن، وحقيقة أن الألم لن يطال سواكم، إلا أنها كتابةٌ تزيح كل ستار يحجب الرؤية سواء اليوم أو غداً. مع أن الغد المنتظر يبدو بعيداً جرّاء هذه المأساة التي إن طالت ستخلّف جرحاً عميقاً بحجم ما تهدّم من بيوت فوق رؤوس قاطنيها، وما صار قوائم إسمية لشهداء أعدادهم الكثيرة لن تجعل منهم أرقاماً، بل حيواتٍ تروى، وذاكرة إنسانية تفضح كل هذه البشاعة التي لا يمكن اختزالها في خبر صحفي أو مقالٍ أو كتابٍ أو سيناريو فيلم أو مسرحية أو قصيدة، بل ستراقُ لأجلها بحار من الحبر الأسود في وجه عالم تشوّهت ملامحه بلا رجعة، ولم تعد يده المغموسة في الدماء بيضاء كما يدّعي.
17/10/2023
كنت في الصباح أعدُّ تقريراً إذاعياً عن مظاهرات 17 أكتوبر 1961 التي خرج فيها جزائريو المهجر لمساندة ثورتهم التحريرية ضد المستعمر الفرنسي في سنتها ما قبل الأخيرة، حين هاجمتهم قوات الأمن الفرنسية في باريس وألقت بعشرات الأحياء مكبّلين في نهر السين، وقتلت منهم العشرات بلا رحمة، ورحّلت وسجنت الآلاف.
تقول العبارة المكتوبة على جدار النهر: “هنا أغرقنا الجزائريين”.
وهناك، في غزة أحرقت صواريخ العدو مستشفى المعمداني، مخلفة مئات الشهداء من الجرحى والمرضى والمدنيين الذين كانوا يحتمون من القصف الجائر والوحشي… فماذا بعد المخيمات والمساجد والبيوت والمدارس ومراكز الإيواء ومواقع الصحفيين وسيارات الإسعاف والمستشفيات ومقرات الأونروا؟ لا مكان آمن لأحد.
في يومٍ واحد، وإن كان الفارق 62 سنة، تجسدت قصيدة روبرت فروست حول نهاية العالم التي تتراوح أسبابها بين “النار والجليد”، “وإن كان له أن يهلك مرّتين” فقد فعل!
18/10/2023
منهكٌ من السهر ومتابعة الأخبار بعينينِ متورّمتين، أفكر في مسيرة الغد، المصرّح بها أخيراً بشكل رسمي في الساعة الحادية عشرة صباحاً في كل ساحات الجزائر، بعد ضغوط شعبية للتنديد بما يتعرّض له الفلسطينيون في قطاع غزة من همجية مستعرة… وإن كان يوم الخميس ليس يوم عطلة إلّا أن الأمل في خروج حشود كبيرة يظل قائماً، بالنظر للمنع الذي جعل من أي محاولة للتظاهر مهما كان سببها مدعاة للقمع.
يأتيني من النافذة صوت تلاميذ المدارس في بلدتي “الديس”، خرجوا في مسيرة عفوية في حدود منتصف النهار، أفتحُ فيديو وأصورهم وهم يردّدون “بالروح، بالدم، نفديك فلسطين”… تمنيتُ لو كنت لحظتها تلميذاً معهم، وهم يرتدون مآزر بألوان زرقاء وزهرية كأحلامهم التي لم تزل طازجة ولم يحن وقتُ ذبولها بعد.
القصف يطالُ الآن، في هذا الليل العميم، كل الأحياء والبيوت المجاورة للمشافي في القطاع.
الاجتياح البري، وصايا الأطفال المكتوبة، أياديهم وقد أصبحت بطاقات هوية، نفاد الماء والغذاء والوقود، انقطاع الكهرباء والإنترنت، تأخر المساعدات، مواجهات الفلسطينيين في الضفة الغربية مع قوات الاحتلال والتي خلفت، إلى حد الآن، عشرات الشهداء والمعتقلين…
هل سيكون كل هذا بمثابة “تفصيل ثانوي” آخر في سردية فلسطينية لم ولن تنتهي؟
هل يتحوّل الموتى إلى آيسكريم؟
يتساءل طفلٌ صغير
وهو يرى الرجال يضعون أباه، لأول مرّة، في ثلاجة آيسكريم
بدل ثلاجة الموتى.
أرسل لي صباحاً أخي عماد هذا المقطع الذي كتَبه البارحة، ورحتُ أتأمّله مليَّاً، وأنا أتساءل مثل الطفل ويجيبني برتولت بريشت:
هل سيكونُ هناكَ غناءٌ في الأوقاتِ المظلِمَة؟
نعم، سيكونُ هناكَ غناءٌ عن الأوقاتِ المظلِمَة.
من قصيدته “إلى الذين سيولدون بعدنا”، أضيف سطراً واحداً في دعوةٍ متجدِّدة للكتابة، للكلام، للّاصمت:
“لأن الصمت يطوّق جرائم لا تُحصى”. أو كما يقول بريشت.
19/10/2023
أحتفظ بصورةٍ واحدة من مسيرة اليوم في ساحة “النصر” بالمسيلة:
طفلُ يشيرُ إلى علم فلسطين المرسوم على زندهِ وعروق رقبته بارزة من شدّة الصراخ – التعليق: في عروقنا…
كل العبارات المناهضة لما لم يعد يسمى حرباً بل إبادة جماعية، موجودة في لافتاتٍ مكتوبة بخط اليد، مرفوعة في سماء زرقاء صافية. ويحدثُ أن تُرى، كما هي في غزة، سماءٌ مليئة بالدخان ورائحة الكبريت وغبار المباني المسوّاة بالأرض جراء آلاف الأطنان من المتفجرات… سماءٌ برائحة الموت.
منذ قليل، قصفٌ جائر لمباني الكنيسة الأثرية في حي الزيتون بقطاع غزة، بعد لجوء مئات النازحين إليها مسلمين ومسيحيين أغلبهم من النساء والأطفال؛ أودى بحياة الكثيرين ومنهم من لا يزال تحت الركام، ناهيك عن عشرات الجرحى والمصدومين.
حسب تقارير صحفية فإن كنيسة برفيريوس للروم الأرثوذكس هي ثالث أقدم كنيسة في العالم، ويعود تاريخ بنائها إلى بداية القرن الخامس ميلادي، تقع بالقرب من مستشفى المعمداني الذي تعرّض لأبشع مجزرة أول أمس، فيما دماء الشهداء لا تزال طازجة والأشلاء تملأ ساحة المستشفى.
إنها قوة العار، التي تستفرد بالعزل وبالضعفاء، تعيدني إلى أكثر من بلد في هذه الجغرافيا المغضوب عليها، كأننا ندفع ثمن تمسكنا بالحياة والحرية والكفاح لأجل أن نكون بشراً عاديين في عصر الظلمات… هو امتداد لأشكال التعسف، والتدمير، والاستحواذ، والسلب، والمصادرة، والتهجير، والفصل العنصري، والقتل، والاعتقال، وكل ما من شأنه أن يزيد من قدرة الظالم على فعل أي شيء دون حساب.
لم أكن أريد أثناء الكتابة إلَّا أن أغيّر عنوان هذا النص المفكّك. كان في البداية قبل انتهاء الأسبوع الأول كما هو في كتاب وطّار حرفياً: “الشهداء يعودون هذا الأسبوع”، لكنه تجاوزني، مدركاً أن الأسبوع قد ولى وقد تليه أسابيع طويلة… إدراك كنتُ أتمنى أن يكون خاطئاً جراء القصف الهمجي الإجرامي، وعدد الضحايا الذي يزيدُ كل ساعةٍ، كل دقيقة، كل ثانية، فما بالك بالأسبوع الواحد وما سيليه؟
القصف المحموم الآن على كل المدن والأحياء في غزة: الشاطئ، جباليا، الصبرة، الرمال، الزهراء، البريج، الشجاعية، الزيتون، خان يونس، تل الهوا، رفح، المغراقة، دير البلح…
أخيراً سأردد معك صرخةَ شابٍّ من غزة:
“والله لو كل دورنا راحت
لو كل أهلينا راحوا
لو كل مالنا راح ما نساوم…”
*****
خاص بأوكسجين