الشعر مهنة دينية 1/2
العدد 209 | 04 نيسان 2017
ديريك والكوت


أجرى هذا الحوار المدهش إدوارد هيرش ونشر في شتاء 1986 في مجلة “باريس ريفيو” العدد 101، أي قبل أن ينال شاعرنا العظيم ديريك والكوت جائزة نوبل عام 1992، وبالتأكيد قبل أن يفارق الحياة في 17 آذار 2017..عليكم به:

ذهبت لزيارة ديريك والكوت في مسقط رأسه في جزيرة سانت لوسيا أواسط شهر يونيو/حزيران من العام 1985. وتعتبر جزيرة سانت لوسيا إحدى جزر الأنتيل ويندوارد الأربعة في شرق الكاريبي، وتواجه الجزيرة ذات الجبال الصغيرة المحيط الأطلسي من جهة والبحر الكاريبي من الجهة الأخرى. ومكثنا أنا ووالكوت لمدة أسبوع في منزلين متجاورين مكونين من طابق واحد في منطقة “هانت بيتش كوتاجيز” التي تبعد بضعة أميال عن مدينة كاستريس حيث يوجد ميناء للسفن، وحيث ولد وترعرع. وخارج منزلينا الكبيرين الملفتين إلى حد ما، تم تثبيت بضع طاولات وكراسٍ حجرية على حقل من العشب، وفي الخلف صف من أشجار جوز الهند وبعدها وعلى بعد بضعة أمتار، ثمة ما أسماه والكوت “مسرح البحر” الكاريبي. ويشعر المرء في سانت لوسيا بشكل دائم بحضور البحر، حضور طبيعي وحتمي، وهو ما أثر بشكل عميق في إحساس والكوت بكونه من سكان الجزر، وشاعر من “العالم الجديد”.

وأتاح لي وجودي في بيت مجاور لمنزل والكوت، ولو لأسبوع واحد فقط، فهم كيف استطاع أن يكون منتجاً غزيراً في أعماله على مدار السنين. كان عاملاً استثنائياً، وغالباً ما يبدأ يومه حوالي الساعة 4:30 صباحاً ويقضي أربع أو خمس ساعات من العمل المتواصل، في الوقت الذي يكون فيه معظم الناس قد بدأوا يومهم للتو. على حامل الأوراق الصغير، وبجانبه آلة كاتبة محمولة صغيرة زرقاء، أنهى مؤخراً رسم زوجته نورلين بقلم الرصاص، وعدداً من اللوحات المائية الجديدة التي سيتم توظيفها كقصص مصورة في النسخة السينمائية من مسرحية “بانتومايم” (كان يكتب النص السينمائي)، كما أنهى للتو مسودة السيناريو الأصلي حول إحدى الفرق النحاسية، إضافة إلى مقالة مطولة حول غزو جزيرة غرينادا (حملت لاحقاً عنوان “قلب الظلام العتيق الطيب” “Good Old Heart of Darkness”)، ومخطوطة جديدة لمجموعة من القصائد تحت عنوان “شهادة أركنساس”The Arkansas Testament. وفي الوقت الذي جرت فيه المقابلة، كان بصدد تنقيح فيلمين آخرين وكان على وشك الانتهاء: نسخة سينمائية من مسرحيته “زلزال هايتي” Haitian Earth (التي كتبها في سانت لوسيا في العام السابق)، وفيلماً وثائقياً سيعرض على التلفزيون هذا العام حول الشاعر هرت كرين. ولبعض الوقت، ينتاب المرء شعور بأنه بالكاد يجد الوقت لكتابة الشعر، الذي كان له نصيب الأسد من شهرته، بين جميع المشاريع الأخرى التي كان يعمل عليها.

تحادثنا على مدار ثلاثة أيام، وكان حوارنا يبدأ في وقت متأخر من فترة العصر أو أول المساء، ويستمر إلى أن يخيم الظلام. جلسناعلى الطاولة الموجودة خارج منزلينا، حيث كان بوسعنا سماع هزيز الريح في أشجار جوز الهند والأمواج المتكسرة على الشاطئ. رجل صلب في منتصف الخمسينات من العمر، كان في الثياب نفسها التي ارتداها خلال فترة العصر على الشاطئ، حافي القدمين، يلبس سروالاً بنياً قصيراً وقميصاً قطنياً رقيقاً. وغالباً ما كان يترك منشفة بحر مخططة ملفوفة على كتفيه، وقبعة بحر مصنوعة من أكياس الدقيق وضعها برشاقة ودفعها قليلاً نحو الأمام على رأسه. بدا وكأن هناك دائماً سيجارة في يده، أو على وشك إشعال واحدة.

هيرش:

أود بداية أن أطلب منك التحدث عن خلفيتك العائلية. فقد كانت وبطرق عديدة غير تقليدية بالنسبة إلى سانت لوسيا. فعلى سبيل المثال، نشأت كشخص ينتمي إلى الطائفة الميثودية على جزيرة غالبيتها من الطائفة الكاثوليكية. كما تبدو ميول عائلتك تنحو وبشكل غير عادي إلى الفنون.

والكوت:

خلفيتي العائلية تشتمل في الواقع على والدتي فقط، فقد كانت أرملة، إذ رحل والدي شاباً، لربما عندما كان عمره واحد وثلاثين عاماً. ثم كان شقيقاي التوأمان وشقيقتي. كان لدينا عمتان أيضاً. لكن الأسرة القريبة تكونت من والدتي وشقيقي وشقيقتي وأنا. أتذكر من طفولتي المبكرة والدتي التي كانت معلمة، مما جعل أجواء المنزل حافلة بالشعر. وأتذكر رؤيتي للوحات رسمها أبي، وقصائد نظمها، ولوحات بالألوان المائية معلقة في غرفة الجلوس، لوحاته الأصلية، وسلسلة رائعة من الكتب، كان هناك الكثير من الكتب لديكنز وسكوت، والكثير من دواوين الشعر. كان هناك أيضاً فونوغراف قديم من ماركة “فيكترولا” والكثير من الأسطوانات الكلاسيكية. ولذلك فقد اهتمت عائلتي على الدوام بالفنون. ونظراً لإنتمائنا إلى الطائفة الميثودية التي تعتبر أقلية في جزيرة فرنسية أغلب سكانها من الكاثوليك، فقد شعرنا أيضاً بأننا محاصرون بعض الشيء. فقد كانت الكاثوليكية المدعومة من قبل الكهنة المحليين الفرنسيين في سانت لوسيا ضيقة الأفق ومتحاملة وتحاكي القرون الوسطى، نوعاً صارماً من الكاثوليكية تقريباً. وكانت العقيدة التي يتم تعليمها تقضي بزج جميع البروتستانت في غياهب النسيان. ولذلك كنا في حالة دفاعية عن مكانتنا، لم تحتدم الأوضاع أبداً، لكننا شعرنا بضرورة البقاء يداً واحدة. كان هذا أمراً جيداً بالنسبة لي، أيضاً، أن أكون قادراً على طرح الأسئلة كبروتستانتي، وأضع السلطات الكبرى في موقع الارتياب والتشكيك. لم يجرؤ أحد في جيلي وفي عمري على التشكيك بالسلطة المطلقة والكاملة للكنيسة. حتى في المدرسة الثانوية، كنت أخوض مع زملائي نقاشات رائعة حول العقيدة الدينية، كان هذا أمراً جيداً، أعتقد أن الكتاب الشباب يتعين عليهم التشكيك بالعقيدة.

هيرش:

في مقالة حملت عنوان “مغادرة المدرسة” “Leaving School”، تقول إن الأدوات التي وفرتها هوايتا والدك، الشعر والرسم، جعلت إحساسك الخاص بامتهان الفن أمراً حتمياً. هلّا وصّفت عمله الإبداعي وتأثيره عليك؟

والكوت

لا تزال والدتي التي شارفت التسعين من العمر الآن، تتحدث باستمرار عن والدي. كنت مدركاً طيلة حياتي للحزن الذي تشعر به جراء غيابه وفخرها الشديد بسلوكه والطريقة التي عاملها بها. كان في مقتبل العمر عندما نال مرض التهاب الخشاء منه، وهو التهاب في الأذن. كانت الأدوية المتوفرة في ­­سانت لوسيا حينها أوّليّة ومفعولها محدود للغاية، أعرف أنه كان يتوجب الذهاب إلى بربادوس لإجراء عمليات جراحية. لا أتذكر الموت أو أي شيء من هذا القبيل، لكنني أشعر بحضوره على الدوام بسبب الأعمال التي تركها. وقد رسم صورة ذاتية له بالألوان المائية ووضعها ضمن إطار بيضاوي، في جوار صورة ذاتية لأمي، لوحة زيتية جيدة جداً بالنسبة إلى رسام هاوٍ. أذكر أنني رأيت مرة ستارة مسرح خلفية تتضمن مشهداً عادياً جداً لضوء القمر، رسمه لإحدى الفقرات في عرض كانت ستقدمه مجموعة اعتادت إحياء حفلات موسيقية وجلسات عزف وأشياء من هذا القبيل. ولذلك فقد كان الفن حاضراً دائماً. ولكن هذا لم يجعل مني طفلاً حزيناً أو مريضاً بالكآبة، عوضاً عن ذلك، وبشكل ما، قدم لي حافزاً وشعوراً قوياً بالاستمرارية. وشعرت بأن ما تم أخذه منه بطريقة ما كان امتداداً أكمله أنا.

هيرش:

متى كانت المرة الأولى التي اكتشفت فيها قصائده؟

والكوت:

القصائد التي أتحدث عنها ليست مجموعة شعرية، أتذكر بعض كلمات الأغاني المضحكة التي ظهرت باللهجة المحلية لسكان أميركا الجنوبية خلال برنامج ما كان يقدمه على الأرجح. كان هناك أشياء صغيرة ساخرة وذكية، لا تحضرني أية قصيدة ذات طبيعة جدية. الأعمال الفنية التي صنعها كانت أكثر ما أتذكره، وأذكر رسمه لنسخة جيدة بالألوان المائية للوحة ميليه “جامعات بقايا الحصاد” The Gleaners والتي وضعها في غرفة الجلوس. كانت اللوحة الأصلية زيتية وأتذكر إلى الآن إدراكي التام لمدى دقة النسخة. كان يتمتع بإحساس مرهف إزاء الألوان المائية. واكتشفت لاحقاً أن صديقي هارولد سيمونز الذي كان رساماً محترفاً، قد حظي بتشجيع وثيق من والدي كي يكون رساماً. ولذلك هناك دائماً استمرارية وتواصل لارتباطي بأشخاص عرفوه وأشخاص يفتخرون كثيراً بأنهم أصدقاؤه. كانت أمي تخبرنا ذلك، وهذا ما شعرت به.

هيرش:

في قصيدتك التي تضمنت سيرتك الذاتية وامتدت على طول كتاب كامل وحملت عنوان “حياة أخرى” Another Life، أوضحت بأن هناك رسامان اثنان لعبا دوراً محورياً في تطورك: مدربك هارولد سيمونز، واسمه هاري في القصيدة، وصديقك دانستن سانت أومر، والذي أعدت تسميته جريجروياس. هل من الممكن أن تحدثنا عن أهميتهما بالنسبة إليك؟

والكوت:

هاري علمنا. كان هناك لوحات، وكان هناك موسيقا في الاستديو الخاص به، ومن الواضح أنه كان صديقاً جيداً لأبي. وعندما عرف أننا نحب الرسم، قام بدعوة أربعة أو خمسة أشخاص منا لزيارة الاستديو والجلوس على شرفته. قدم لنا الأدوات وطلب منا أن نرسم. الآن، قد يبدو هذا عادياً في إحدى المدن، في مكان آخر، ولكن في ريف صغير جداً وفقير مثل سانت لوسيا، كان هذا استثنائياً. شجعنا على قضاء فترة العصر من أيام السبت في الرسم، وأحاطنا بنماذج من رسوماته، فقط لنكون هناك في خضم أجواء كتبه وموسيقاه وتحت إشرافه الشخصي. كان السكون والتفاني الذي تعنيه حياته في الاستديو قدوة رائعة. لم يكن التأثير ذا وقع فني كبير، بالطبع، تعلمت بعض الأشياء منه فيما يتعلق بالتقنيات، كيف نرسم سماء جميلة ونرطب الأوراق بالمياه وكيف نرسم الدوائر وكيف نرسم بشكل صحيح ونركز على اللوحة، وكل هذه الأمور. ولكن كان هناك العديد من الأشياء إلى جانب الرسم، أهم نقطة كانت وجود القدوة، نموذج الرجل الذي يمثل فناناً محترفاً. بعد فترة، تخلى الشباب الأصغر سناً عن الرسم، وغادرت أنا ودانستن سانت أوم. اعتدنا الخروج والرسم سوية. واكتشفنا الأمر في الوقت ذاته.

هيرش:

هل كان لديك فنان مفضل في ذلك الوقت؟

الرسام الذي اعتقدت فعلاً أنه بإمكاني التعلم منه كان سيزان- تجسيد إلى حد ما لألوان وتدرجات البرتقالي والأخضر والبني التي تبرز في شهر الجفاف في سانت لوسيا. اعتدت النظر من سطح المنزل إلى مطار فيجي حيث الأبنية الضخمة، وكنت أرى أسطحاً برتقالية باهتة والقرميد والأشجار والجرف، والأزرق الزاهي وفكرت كثيراً بسيزان. ربما بسبب صرامة المكعبات والأعمدة وغيرها، كما لو أنه عرف المناظر الطبيعية في سانت لوسيا، وقد تعتقد لوهلة بأن لوحاته تجسد سانت لوسيا. هناك رسامون آخرون بالطبع مثل جورجيون، ولكني أعتقد أن تفكيري بسيزان أثناء الرسم قد مدني بالكثير من القوة.

هيرش:

ما الذي يمكن أن تقوله عن التجربة التنويرية التي تم وصفها في قصيدة “حياة أخرى”Another Life، والتي بدت وكأنها تؤكد مصيرك كشاعر وتمتّن الروابط التي تجمعك مع جزيرتك حيث مسقط رأسك؟

والكوت:

هناك أمور يتجنب البشر قولها في المقابلات الصحفية لأنهم قد يظهرون مغرورين أو عاطفيين أو مغرقين في مسائل روحية. لم أفصل أبداً بين كتابة الشعر والصلاة. كبرت وأنا على قناعة بأنها مهنة، مهنة دينية. ما وصفته في قصيدة “حياة أخرى” حول وجودي في الجحيم وشعوري بنوع من التحلل الذي حدث، يعتبر بمثابة تجربة متكررة بالنسبة للكتاب الأصغر سناً. شعرت بعذوبة الكآبة، أو شعور الفناء، لنقل بعذوبة الخلود، شعور من الامتنان لأن ما تشعر به يعتبر هبة وأيضاً بالامتنان لجمال الأرض، جمال الحياة من حولنا.عندما يكون هذا الشعور جارفاً عند الكتاب الشباب، فقد يدفعونك إلى البكاء. إنها مجرد دموع جليّة، ليست تكشيرة أو شعوراً بالانقباض، إنه مجرد انجراف قد يحدث. يشعر الجسد بأنه يذوب بما يراه. ويستمر هذا الذوبان في الشاعر. قد يتم كبته بطريقة ما، ولكن أعتقد أننا نشعر طيلة حياتنا بشعور الذوبان، بأن كينونتي أو “أنا” ليست مهمة، وهنا تكمن النشوة. لا يحدث هذا كثيراً عندما نتقدم بالعمر. هناك ذلك الدرب المذهل الذي تحدث عنه تراهرن حيث قال إنه يرى الأطفال مجوهرات متحركة إلى أن يتعلموا الأساليب القذرة للعالم. هذا ليس روحانياً.

بشكل أساسي، كما قال ييتس: “مثل هذه العذوبة تسري في الصدر، أن نضحك على كل شيء وكل شيء ننظر إليه مبارك”. إنها هناك دائماً، إنها مباركة، تحول، امتنان بالفعل، وكلما خبأ الشاعر ذلك، كلما كان أصيلاً في طبيعته. لطالما انتابني شعور بالامتنان، لم أشعر أبداً بمشاعر المساواة لها من حيث كتاباتي، ولكنني لم أشعر أبداً أنني أقل منها. ولذلك،كنت في ذلك الطريق الخاص الموجود في قصيدة “حياة أخرى”، أسجل لحظة خاصة.

هيرش:

كيف تكتب؟ على ضوء المعادلة التي ذكرتها حول الشعر والصلاة، هل للكتابة طقوس بطريقة أو بأخرى؟

والكوت:

لا أعرف عدد الشعراء الراغبين بالاعتراف بطقوسهم التحضيرية الخاصة التي يتبعونها قبل الانكباب على كتابة شيء ما على الورق. ولكن أتخيل أن جميع الفنانين والكتاب في اللحظة التي يبدأون فيها يوم عملهم أو ليلة عملهم يمتلكون تلك المساحة الفاصلة بين البدء والتحضير، ومهما كانت قصيرة، فإن هذه اللحظات يشوبها التضرع والخشوع، وبمعنى ما تعتبر طقساً من الطقوس. ويمتلك الكتاب المتفردون حالات مختلفة ومواقف مختلفة، وحتى سلوكاً بدنياً مختلفاً عندما يقفون أو يجلسون أمام ورقة بيضاء، وبمعنى ما، من دون القيام بذلك، فإنهم يرسمون إشارة الصليب، أقصد، إنها مشابهة لعادة الكاثوليكيين عند الغوص في المياه، المرء يؤدي إشارة الصليب قبل الانغماس بالماء. أي محاولة جادة لتجريب فعل شيء جدير بالاهتمام هي طقس من الطقوس. لم أنتبه إلى ماهية أدواتي الخاصة، لكني أعرف أننا لو اعتقدنا أن القصيدة ستأتي رغم ضجيج الآلة الكاتبة، أو الصخب القادم عبر النافذة جراء الازدحام المروري، أو أي شيء، فإنك تقوم بالتراجع، بالانسحاب إلى نوع من الصمت ينأى بك عن كل ما يجري حولك. الشيء الذي تستمر به ليس تجديد هويتك وإنما في الواقع تجديد لطمس هويتك، ولهذا فإن الشيء الذي أمامك يصبح أكثر أهمية منك أنت. وعلى نحو متساوٍ، وقد يكون قول ذلك تبجحاً بعض الشيء، أحياناً عندما أشعر بأنني قمت بعمل جيد، فإنني أصلي، وأقول شكراً. ليس في معظم الأحيان، بالطبع. لا أقوم بذلك يومياً، لست راهباً، ولكن إن حدث شيء ما فإنني أقول شكراً لأنني أشعر أنها بحق ضربة حظ، نوع من البركة الخاطفة التي حدثت لشخص ما. بين البداية والنهاية والكتابة الحقيقية بينهما، ثمة نوع من الغيبوبة التي تأمل دخولها حيث كل جانب من ذهنك يعمل بالوقت ذاته لضمان مواصلة الكتابة. ولكن لا يوجد سبيل لاستدراج تلك الغيبوبة.

مؤخراً، وجدت نفسي أستيقظ في وقت أبكر من ذي قبل، مما قد يكون إشارة على أزمة متوسط عمر متأخرة، وأنا قلق بعض الشيء، أعتقد أن هذا جزء من الطقوس، أذهب لصنع كوب من القهوة، فأضع القدر وأدخن سيجارة. وحتى الآن، لست واثقاً تماماً إن كنت أنهض بحكم العادة لصنع القهوة أم للكتابة. ربما أنهض في ذلك الوقت المبكر لأدخن، وليس لأكتب.

هيرش:

في أي وقت تستيقظ؟

والكوت:

يختلف موعد الاستيقاظ. أحياناً يكون الوقت مبكراً للغاية وتكون الساعة الثالثة والنصف، وهو، كما تعرف، أمر غير مستحب. متوسط موعد الاستيقاظ يكون قرابة الساعة الخامسة، يتوقف هذا على عمق نومي. ولكن في تلك الساعة، على مدار ذلك الوقت من اليوم، تكون الحياة رائعة في الكاريبي. أحب الظلام البارد وجمال وعظمة شروق الشمس وهي تبزغ. أعتقد أن بإمكاني القول، وخاصة من الموقع الذي أنا فيه، أن الظلام الباكر وشروق الشمس، والاستيقاظ وتناول القهوة والعمل على أي شيء تكتبه، جميعها طقوس إلى حدٍ كبير. ولربما أذهب أبعد من ذلك وأقول إنها أمر ديني. طقوس لديها أدواتها والظروف المحيطة بها. ويمكنك أن تشعر بروحك وهي تمشي.

هيرش:

مؤخراً، سمعتك تقول إن الميثودية قد أثرت عليك بشكل عميق، كيف ذلك؟

والكوت

بطريقة خاصة، أعتقد أن الميثودية لا تزال في داخلي بطريقة بسيطة للغاية ومباشرة وعنيدة، ويعجبني الحافز الهادئ والبرغماتي الكامن في معتقد مثل الميثودية ويتجسد هذا السبب في الجانب العملي للسلوك. ولا أقصد هنا الأصولية المتعصبة، وأعتقد أن أفضل كلمة للتعبير عن ذلك هي أدب السلوك، فأدب السلوك والإدراك هما ما تعلمته من كوني أنتمي إلى الميثودية. على الدوام، كان المرء مسؤولاً أمام الرب عن مكنوناته الداخلية وليس أمام هرم هائل من الملائكة والقديسين. وبطريقة ما، أظن أنني حاولت أن أقول ذلك في بعض قصائدي المبكرة. ثمة دائماً شعور قوي من مهنة النجارة في البروتستانتية، من حيث صنع الأشياء بطريقة بسيطة ونفعية. في هذه المرحلة من حياتي وعملي، أفكر في نفسي وكأنني نجار، كشخص يصنع الإطارات بطريقة بسيطة ومتقنة. أنظم كثيراً الشعر الرباعي، أو دأبت على ذلك، وأشعر بوجود شيء عادي للغاية في ذلك، كما تعرف، خالٍ من أي غموض، أحاول التخلص من الغموض قدر الإمكان. ولذلك أجد نفسي ميّالاً للكتابة والتقطيع بطريقة بسيطة للغاية، مقتضبة جداً، معبّرة كثيراً، شعر رباعي يتطلب تحفيز كافة القدرات لضبط الإيقاع. ويبدو أي شكل آخر مزخرفاً، استرسال في ذلك المكعب الجوهري الذي يشكّل القصيدة بالفعل. ولذلك يمكننا القول إن للحرفة طقوساً مشابهة لطقوس النجار، يضع أرضاً مسحاجه ويقيس مقاطعه الشعرية ويرتبها بطريقة متساوية.

هيرش:

تقول في قصيدة “حياة أخرى” أنك في نهاية المطاف تخليت عن الرسم كمهنة وقررت التركيز على الشعر. ورغم ذلك، يبدو أنك تعمل على لوحات بالألوان المائية من جديد، ما الذي جرى؟

والكوت:

ما حاولت قوله في قصيدة “حياة أخرى” هو أن القيام بالرسم لا ينطوي على فعل فكري يمليه العقل، وإنما على فعل بدني إلى حدٍ كبير يتماهى مع حسية فرشاة الرسم. لطالما شعرت بأن نوعاً من الجانب الفكري- نوعاً من الترتيب المسبق، نوعاً من النقد للشيء قبل إنجازه- يتدخل دائماً في قدرتي على رسم لوحة. وأنا إلى حدٍ ما في حالة من التدريب المتواصل. وأعتقد أنني بارع في الألوان المائية، أنا فوضوي بدرجة أقل. أعتقد بأنني أستطيع رسم لوحة زيتية معقولة. لربما كان بوسعي ذلك، لو أنني شرعت، لكنت رساماً جيداً بعض الشيء. يمكنني القبض على الحسية. أعرف الإحساس، لكن بالنسبة إلي يفتقر الأمر إلى الكمال ببساطة. أنا راضٍ بأن أكون رساماً جيداً إلى حدٍ ما بالألوان المائية. ولكنني لا أقبل أن أكون شاعراً جيداً بعض الشيء. هذا شيء مختلف جداً.

هيرش:

صحح معلومتي إن كنت مخطئاً، هل فعلاً نشرت باكورة قصائدك “صوت سانت لوسيا”“The Voice of St. Lucia،” ، في عمر مبكر وأنت في الرابعة عشرة من عمرك؟ قرأت أن القصيدة أثارت زوبعة محلية معتبرة من الجدل.

والكوت:

كتبت قصيدة تحدثت فيها عن معرفة الرب من خلال الطبيعة وليس من خلال الكنيسة. كانت القصيدة متأثرة بميلتون وطرحت الطبيعة كوسيلة للتعلم. أرسلت القصيدة إلى الصحف المحلية ونُشرت. طبعاً، رؤية عملك منشوراً إنطلاقة رائعة لأي كاتب شاب. ومن ثم قامت الصحيفة بنشر رسالة اشتملت على رد أحد الكهنة (من خلال قصيدة!) وجاء فيها أن ما قلته كان تجديفاً وأن المكان الأفضل لمعرفة الرب هو الكنيسة. وبالنسبة لفتى شاب، أن يأتي مثل هذا الرد من رجل ناضح أكبر عمراً، كاهن كان إنجليزياً، وأن أكون محط اتهام بالتجديف، كل هذا كان بمثابة صدمة بالنسبة لي. القصاص الأكبر كان أن الرد جاء على شكل قصيدة. كان القصد بالطبع تعريفي بأنه كان قادراً إلى حدٍ كبير على كتابة الشعر. كان شعره على شكل مقاطع شعرية مكونة من بيتين بينما شعري كان حراً. وأتخيل لو أنني أقارن بين القصيدتين الآن، لرأيت أن قصيدتي كانت أفضل.

هيرش:

يعتقد معظم القراء الأمريكيين والإنجليز أن “ليلة خضراء” Green Night كان أول كتبك. ولكن قبل النشر خارج البلاد، كنت بالفعل قد طبعت ثلاثة كتيبات على نفقتك الخاصة في الهند الغربية “ويست إنديز”. كيف حدث ونشرت أول كتاب لك، والذي تضمن 25 قصيدة؟

والكوت:

اعتدت أن أكتب يومياً في كتاب للتدريب، وفي المرة الأولى التي كتبت فيها، كتبت بأصالة عظيمة. كل ما فعلته أنني كتبت بأقصى طاقتي وفق ما أحسست. وأذكر البهجة والراحة التي شعرت بهما، نوع من التقاط شيء والركون إليه، عند قراءة أودن وإليوت والجميع. قد أكتب في إحدى المرات مثل سبندر، وفي يوم آخر مثل ديلن توماس. وعندما شعرت أنني اكتفيت من القصائد التي أحببتها، رغبت برؤيتها مطبوعة. لم يكن لدينا دار نشر في سانت لوسيا أو في الكاريبي. كان هناك مجموعة من الكتب التي طبعتها فايبر وأبرزت كتاباً مثل إليوت وأودن، وأحببت حروف الطباعة وكيف بدت الكتب. وفكرت بأنني أريد كتاباً مثل ذلك الكتاب. ولذلك قمت باختيار مجموعة مكونة من خمس وعشرين قصيدة وفكرت، حسناً، ستبدو هذه جميلة لأنها تبدو وكأنها جاءت من خارج البلاد، ستبدو مثل كتاب منشور. ذهبت إلى والدتي وقلت لها: “أريد نشر كتاب من الشعر، وأعتقد أن هذا سيكلفني مائتي دولار”. كانت والدتي مجرد خياطة ومعلمة مدرسة، وأتذكر امتعاضها لأنها رغبت بفعل ذلك. تمكنت من الحصول على المبلغ، بطريقة ما، الكثير من النقود بالنسبة إلى سيدة تعتمد على راتبها. أعطتني النقود، وأرسلت المجموعة إلى ترينيداد وتمت طباعة الكتاب. عندما خرج الكتاب، كنت أبيعه للأصدقاء. وتمكنت من استعادة المبلغ. وبالنسبة لرؤية الكتاب مطبوعاً، فإن السبيل الوحيدة لفعل ذلك كان بأن أطبعه على نفقتي الخاصة.

هيرش:

كتب فرانك كوليمور مقالة أثنى فيها كثيراً على بواكير أشعارك. لا بد أنها تجربة تؤثر على توازن شاب في التاسعة عشرة. فقد كان محرراً في “بيم” المجلة الأدبية الكاريبية الأكثر شهرة، المجلة التي وصفها إدوارد برايثويت بـ “العراب الأعظم لأدب الهند الغربية “ويست إنديان”.

والكوت:

كان فرانك كوليمور قديساً عظيماً، تعرفت عليه من خلال هاري سيمونز. لم أقابل في حياتي رجلاً بهذا اللطف والرقة والمراعاة، شخص بعيد تماماً عن الأنانية. لا أنسى اي تفصيل من تجربة الذهاب إلى باربادوس للقائه. أن أحظى وأنا في ذلك العمر من شخص أكبر سناً بمعاملة غاية في العناية والحب كان شيئاً رائعاً. وقد تعامل مع جورج لامينج بالطريقة نفسها. ثمة أشخاص من هذا القبيل، أشخاص يحبون الآخرين، يحبونهم لعملهم ولأهمية عملهم. لم يكن في أي شكل من الأشكال ليوحي بأنه يتفضل على أحد. لا يعاملك أبداً على أنه مدير مدرسة يسدي لك صنيعاً. لقد كنت محظوظاً جداً بأن حظيت وأنا شاب بمثل هذه المعاملة من أشخاص أكبر مني سناً بكثير، أشخاص تعاملوا مع عقلي، كما لو كنت نداً لهم. لقد كان أفضل مثال على هؤلاء الأشخاص.

هيرش:

وصفت نفسك وأنت في التاسعة عشرة على أنك “شاعر جذل غزير الإنتاج، يعشق بجنون اللغة الإنجليزية”، وقلت ككاتب شاب، إنك رأيت نفسك امتداداً شرعياً لـ “النهج العظيم” الذي شكّلة كلٌّ من مارلو وميلتون. هل لك أن تحدثنا حول هذا الشعور الذي انتابك؟

والكوت:

جئت من مكان يحب العظمة، مكان يحب الإيماءات الكبيرة، لا يقطنه أناس متباهون، إنه مجتمع بلاغي، مجتمع الأداء الجسدي، مجتمع الأسلوب. وأقصى إنجازات الأسلوب هي البلاغة، البلاغة في الخطاب والأداء. ليس مجتمعاً متواضعاً، يتعين على المؤدي في الكاريبي أن يقدم أداءً بالجرعة الصحيحة من التباهي والزخرفة. فالموسيقي الذي يؤدي موسيقى الكاليبسو يوازي مصارع الثيران في الحلبة. عليه أن ينقل خطواته. يمكنه كتابة أفضل الأعمال في موسيقى الكاليبسو، ولكن إن كان يود إيصال موسيقاه، فيجب عليه إيصالها بشكل جيد، وعليه أن يسدد ضرباته للجمهور بكافة التقنيات التي يعرفها. التواضع غير وارد في الأداء في الكاريبي، وهذا شيء مذهل. من الأفضل أن تكون كبيراً لتقديم أعمال ضخمة عوضاً عن أن تكون متواضعاً وتقوم بإبراز أنماط تعمل من خلالها على تقديم نفسك عبر التضخيم، كمن يمشي على رؤوس الأصابع ليبدو أطول. وحتى لو كانت منصة خاصة، فهي في نهاية المطاف منصة. الصوت يعلو في القصيدة. إنه عنوان، حتى لو كان عنواناً للذات. وأروع عنوان يكمن في البلاغة. لقد ترعرعت في مكان يفرض بأنك لو تعلمت الشعر، فإنك تصدح به عالياً. الصبية يصرخون بالشعر بصوت عالٍ ويؤدونه ويقدمونه وينمقونه. إن كنت تود مقاربة ذلك الرعد أو سطوة الخطاب تلك، لا يمكنك فعل ذلك من خلال صوت متواضع ضئيل تتمتم فيه شيئاً ما لشخص آخر. لقد جئت من ذلك المجتمع حيث الإيماءات الضخمة. والأدب على هذه الشاكلة، أعني الأدب المسرحي على هذه الشاكلة، سواء كان إغريقياً أو أي شيء آخر. عامل الإنشاد في الشعر هو من العوامل التي لا أتمنى خسارتها لأنه جزء أساسي من الصوت المطلوب تأديته. إن كان هناك شعراء، فإننا نقول لهم: حسناً، أسمعني قصيدة. ما نقصده بشكل عام هو تمتم لي قصيدة، أنا لست من هذه المجموعة.

هيرش:

ثمة مسحة واثقة وقوية من الشعور بالامتياز في أعمالك الأولى. في إحدى القصائد التي كتبتها مؤخراً “منتصف الصيف” Midsummer، كتبت “أربعون عاماً مضى، في طفولتي على الجزيرة، أحسست / أن هِبة الشعر صيّرتني من المختارين، / وكل تجربة كانت تؤجج نار الإلهام..”

والكوت:

لم أفكر مطلقاً في الهِبة التي أملكها، عليّ القول “هبتي” لأنني أعتقد أنها هبة- مثل أي شيء قمت به على طريقتي من الألف إلى الياء. شعرت منذ فترة صباي أن لدي وظيفة واحدة تتجسد إلى حدٍ ما في الإفصاح والتعبير، ليس عن تجربتي الخاصة، وإنما عما أشاهده من حولي. عرفت منذ كنت طفلاً، أن هذا أمر جميل. إن ذهبت إلى إحدى القمم في مكان ما من سانت لوسيا، تشعر بالانتعاش في الحال وينتابك إحساس بالخلود في الوقت عينه- حضور المكان الذي أنت فيه. إنه شيء أساسي ولطالما كان كذلك. في الوقت نفسه، عرفت أن الفقراء حولي لم يكونوا جميلين بالمعنى الرومانسي كأناس مفعمين بالألوان لرسمهم أو الكتابة عنهم. لقد عشت، ورأيتهم، ورأيت أشياء لا أحتاج للذهاب بعيداً لرؤيتها. وشعرت أن هذه الأشياء هي ما أود الكتابة عنها. وأن وظيفتي ومهنتي تتجلى بما أشعر. إنه شيء قاله شعراء آخرون بطريقتهم الخاصة، حتى لو بدا الأمر تكبراً. قال ييتس هذا، جويس قال هذا. من المذهل أن جويس استطاع القول إنه يريد أن يكتب عن عِرقه، ويقصد عن الإيرلنديين. قد تعتقد أن جويس كان ليملك فكراً أكبر وعقلاً منشغلاً بالقارة بأكملها، لكنه واصل الإصرار على ريفيته وفي الوقت نفسه كان له العقل الأكبر ذي النطاق الكوني منذ شكسبير. ما يمكننا فعله كشعراء من حيث صدقنا هو أن نكتب ببساطة داخل المحيط المباشر الذي لا يزيد عن عشرين ميلاً فعلاً.

هيرش:

كيف يمكن لإحساسك باكتشاف موضوع جديد أن يندمج مع العوامل الرسمية لعملك؟

والكوت:

من الأشياء التي يتعين على الناس النظر إليها في أدب الهند الغربية هو التالي: إن ما حُرمنا منه يشكّل أيضاً امتيازاً لنا. كانت هناك متعة كبيرة في صنع عالم لم يُعرّف حتى هذه اللحظة أو ما بعدها. رغم ذلك، يرغب الخيال بحدوده ويبتهج في حدوده. ويجد حريته في تعريف هذه الحدود، بمعنى، أنك تريد أن تعطي تناظراً أكبر للحيوات التي لم يتم تعريفها. جيلي من كتاب الهند الغربية شعر بمثل هذه النشوة القوية في امتلاك امتياز الكتابة عن أماكن وأناس للمرة الأولى، وفي الوقت ذاته، كانوا مدعومين بتقاليد معرفة كيفية فعل ذلك- من خلال ديفو وديكنز وريتشاردسون. لقد جعلنا عالمنا تواقين للبنى، على نحو مناقض للرغبة بالانفلات بعيداً عنها، لأنه لم يكن هناك أعباء، أو فائض من الأدب في ذهننا. لقد كان جديداً كلياً.

الصحفي:

حسناً، إذاً كيف ترى نفسك وفقاً للتقاليد العظيمة للشعر في اللغة الإنجليزية؟

والكوت:

لا أرى نفسي هناك. أنا بشكل أساسي وبشكل مطلق كاتب من الكاريبي. اللغة الإنجليزية ليست حكراً على أحد. إنها ملك للمخيلة. ملك للغة نفسها. لم يراودني أبداً شعور بأنني مقيّد خلال محاولتي الكتابة بأعظم شعراء الانجليزية. أدىى هذا الآن إلى نقد إقليمي، قد يقول النقاد في الكاريبي إنك تحاول أن تكون إنجليزياً، والناقد الإنجليزي قد يقول مرحباً بك لقد أصبحت واحداً منا. هذان رأيان إقليميان على طرفي نقيض. ما كان الأمر محاولة ليكون المرء إنجليزياً. أنا شاعر كاريبي بشكل واضح. وأتوق بكل صراحة لصحبة شعراء أفضل من الكاريبي. أشعر بالوحدة بعض الشيء. لا أرى أن ما أفكر به قد يحدث، طاقة أقوى، انضباط أقوى، وحافز أقوى للشعر الكاريبي. هذا لأن الشعر الكاريبي موسيقي أكثر، فكل ثقافة لديها ما تركز عليه بشكل خاص، ومن الواضح أن الشعر الكاريبي، موهوب، وعبقري في موسيقاه. ولكن مجدداً الشعر الكاريبي الحديث يافع للغاية. وأعتبر نفسي في بداية تقليد ما، عوضاً عن كوني في نهايته.

هيرش:

هل تعتبر أن علاقتك مع الشعر الإنجليزي قد غيرتك على مر السنوات؟ مع تطور أعمالك، يبدو أنك وبشكل متزايد قد وضعت نفسك في صف شعراء العالم الجديد ابتداءً من وايتمان مروراً بسان جون بيرس إلى إيمي سيزار وبابلو نيرودا.

والكوت:

تحدث كارلوس فوينتس في مقابلة أجرتها معه مجلة “باريس ريفيو” حول التجربة الجوهرية في أميركا الوسطى، والتي تحتوي كامل الحوض الكاريبي – وهي منطقة خصبة للغاية. ويسهم في تجربة العالم الجديد هنا برمتها كل من ماركيز وبورخيس على حدٍ سواء، كما أسهم كتاب أمريكيون بصناعتها. في الحقيقة، الكثير من الشعراء الأمريكيين لا يتماهون مع معايير أميركا. ليس لأنه يتعين علينا كتابة ملاحم وإنما لأنه يبدو مكاننا الذي نحاول فهمه. في الأماكن التي لم تتحدد معالمها بعد، تأتي الطاقة مع المعرفة التي لم يتم وصفها بعد، لم يتم رسمها بعد. هذا يعني أنني أقف هنا كأحد الرواد. أنا أول شخص نظر إلى هذا الجبل وحاول الكتابة عنه. أنا أول شخص يرى هذه البحيرة، هذه القطعة من الأرض. هنا أنا مع هذا الامتياز العظيم بأن أكون شخصاً يمسك بفرشاة الرسم. جيلي من كتاب الهند الغربية، الذين جاؤوا بعد سي إل آر جيمس، شعروا جميعهم برعشة الشعور المطلق بالاكتشاف. تترافق هذه الطاقة مع كوننا ما نحن عليه، إنه جزء من مجمل الفكرة المتجسدة في أميركا. وأقصد بأميركا أي من ألاسكا ونزولاً إلى جزيرة كوراساو.

هيرش:

ما ردك على تأكيد الروائي في إس نيبول المتكرر- الذي استعاره من الروائي ترولوب- بأن “ما من شيء تم ابتكاره في الهند الغربية البريطانية”؟

والكوت:

ربما تتعين قراءة الجملة على النحو التالي: “ما من شيء تم ابتكاره من قبل البريطانيين في الهند الغربية.” ربما هذا هو الجواب. تطلّب جلاء البريطانيين ولا يزال يتطلب درجة كبيرة من الجهد الحثيث وإصلاح الضرر النفسي الذي نجم عن كسلهم ولا مبالاتهم. إن الدمار الذي يسببه الفقر الموجود في الكاريبي محبط للغاية. والطريقة الوحيدة للنظر إلى هذا الدمار ورسم شيء ذي قيمة ماثل في امتلاك عمق رائع من القوة والإيمان، ليس الإيمان بالماضي وإنما بالمستقبل القريب. وأعتقد أنني عندما أعود إلى هنا، ومهما كانت رؤية الأوضاع من حولي تسبب الإحباط والكآبة، أعرف أن عليّ الاتكاء على مخزون رهيب من الإدانة. والتخلي عن هذه الإدانة تعني خيانة جذورك، أن تشعر بأنك متفوق على عائلتك، على ماضيك. وأنا لست قادراً على فعل هذا.

هيرش:

لماذا شخصية روبنسون كروزو مهمة كثيراً بالنسبة لك؟

والكوت:

في وقت ما، كان لدي تصور عن فنان الهند الغربية على أنه شخص في حال يشبه حال السفينة المحطمة، وهذا كان ممتداً بما يشمل حياتي الخاصة والمجتمع على حدٍ سواء. كان شخصاً يتوجب عليه البناء (مجدداً) انطلاقاً من مفهوم قائم على كونه محطماً على هذه الجُزر. كتبت قصيدة حملت عنوان “المنبوذ” “The Castaway”. وأخبرت زوجتي بأنني سأبقى لوحدي خلال عطلة نهاية الأسبوع في مكان ما من ترينيداد. وافقت زوجتي. وبقيت في منزل شاطئي لوحدي وكتبت القصيدة هناك. لا أقول أنني أصل ومنبع فكرة كروزو. ولكن هذا وارد. الشواطئ هنا غالباً ما تكون خالية جداً- فقط أنت والبحر والخُضْرة من حولك، وتكون مع نفسك ولوحدك إلى حدٍ كبير. وتختلف القصائد التي كتبتها حول موضوع كروزو وتتنوع. وتتجسد أحد أكثر الجوانب الإيجابية لفكرة كروزو في أنه بمعنى ما، فإن كل عِرق جاء إلى الكاريبي قد تم جلبه إلى هنا تحت ظروف من العبودية أو الرفض، وهذا هو التعبير المجازي للسفينة المحطمة، حسب اعتقادي. ثم تنظر حولك ويتعين عليك ابتكار أدواتك الخاصة. سواء كانت هذه الأدوات قلماً أو مطرقة، فإنك تقوم ببناء محيط وواقع يحاكي ظرف آدم، تقوم بعملية إعادة بناء، ليس بداعي الضرورة وإنما أيضاً انطلاقاً من فكرة أنك ستكون هنا لفترة طويلة، وتنتابك مشاعر بحق الملكية أيضاً. بشكل عام، هذا ما أثار انتباهي. ثمة مفارقات أخرى، على شاكلة تلك التي عاشتها شخصية “فرايداي” بوصفه الشخص الذي تم تعريفه على الحضارة. في الواقع، ما يحدث هو العكس. الناس الذين يأتون إلى الكاريبي من المدن والقارات يمرون بعمليات من إعادة بناء الثقافة. ما يواجهونه هنا، إن استسلموا لما يرونه، قد يعلمهم الكثير، وأول شيء قد يتعلمونه هو القدرة الأكيدة على التكيف مع الأعراق التي تعيش جنباً إلى جنب، ولا سيما في أماكن مثل ترينيداد وجامايكا. والأمر الثاني هو محو فكرة التاريخ. بالنسبة لي، هناك دائماً صور من المحي في الكاريبي- في الأمواج التي تمحو بشكل متواصل الرمل بشكل كامل، في حقيقة أن هذه الغيوم الكبيرة تتغير بشكل سريع للغاية. هناك شعور دائم بالحركة في الكاريبي- الحركة الناجمة عن البحر والإحساس بأن المرء يكاد يسافر عبر المياه ولا توجد حالة من الثبات. حجم الوقت أكبر- ماهية الوقت تختلف تماماً في الجزر عما هي عليه في المدن.

لا نقيس حياتنا كثيراً وفقاً للساعة. إن كنت تعيش في مكان حيث تخلق وقتك الخاص، ما تتعلمه، حسب اعتقادي، هو الصبر والتسامح، وكيف تجعل من نفسك صاحب حرفة عوضاً عن أن تكون فناناً.

(يتبع في العدد المقبل)

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: