الشعر اللا مقفى ذو الإيقاع اللا منتظم
العدد 184 | 16 كانون الأول 2015
برتولت بريشت


عندما كنت أنشر شعراً لا مقفى كان بعضهم يسألني عما دهاني لأسمي شيئاً من هذا القبيل شعراً، وقد سمعت ذلك بشكل خاص عندما نشرت “قصائد ساخرة”. إن هذا السؤال له ما يبرره لأن الشعر إذا تخلى عن القافية فإنه على الأقل سوف يحافظ على إيقاع ثابت. لكن كثيراً من أعمالي الشعرية الأخيرة لا تخلو من القافية فقط بل تفتقر أيضاً إلى إيقاع ثابت منتظم. (…) صحيح أنها تخلو من الإيقاع المنتظم لكنها لا تخلو من الإيقاع على أية حال (حتى ولو كان هذا الإيقاع متغيراً أو ناقصاً أو إيمائياً). 

 (…) 

احتوت مجموعتي الشعرية الأولى في معظمها أغاني وأناشيد تعتمد على صيغ شعرية موزونة نسبياً. وقد بذلت جهدي لأن تكون جميعها قابلة للغناء ولكن بأسلوب بسيط حيث قمت بتلحينها بنفسي. ولم يكن ضمن هذه المجموعة سوى قصيدة واحدة غير مقفاة لكنها ذات إيقاع منتظم، أما القصائد المقفاة فكان معظمها بدون إيقاع منتظم. وعلى سبيل المثال فقد ضمت “أنشودة الجندي الميت” التي تتألف من تسعة عشر مقطعاً تسعة إيقاعات مختلفة في الشطر الثاني. 

بعد ذلك أوليت اهتمامي للنثر الرفيع عند آرثر رامبو الذي استعمله في “صيف في جهنم” كي أستفيد منه في مسرحيتي “في أدغال المدن”. وعندما أردت كتابة مسرحية “حياة إدوارد الثاني ملك إنكلترا” درست الوزن الشعري المسمى “يامبوس”. واكتشفت آنذاك كم أن إلقاء الممثل يزداد قوة عندما يستعمل الأوزان “الوعرة” التي تستعصي على القراءة في ترجمة شكسبير القديمة. التي قام بها كل من “شليغل” و”تيك” بدلاً من الترجمة السلسة التي أعدها “روته”. كم برز صراع الأفكار قوياً في المنولوجات الكبيرة وكم كانت غنية تلك الهندسة الشعرية!  كانت القضية بسيطة، فقد كنت بحاجة إلى لغة رفيعة وكان يحول بيني وبين غرضي زلاقة ونعومة وزن اليامبوس ذي التفعيلات الخمسة. (…) كنت بحاجة إلى الإيقاع ولكني لم أرغب في القرقعة المعهودة. 

كانت المسرحية نسخة عن مسرحيات عصر اليزابيث الأولى وكانت إذا صح القول تجربة تكنيكية. وبذلت جهدي لإبراز بعض التراكمات وإظهار التبدل الذي يطرأ على أحوال البشر وتناوب المد والجزر في الأحداث التاريخية أو ما يسمى “بالمصادفات” فيها. وكان على اللغة أن تساير كل ذلك وتبرزه. 

وقد استطعت أن أتصرف بحرية أكبر عندما كنت أكتب أوبرا ومسرحية تعليمية ولحناً غنائياً لموسيقيين حديثين. وقد تخليت في هذا العمل عن وزن “اليامبوس” نهائياً ولجأت إلى استعمال إيقاعات ثابتة ولكن غير منتظمة. وقد ثبت أنها صالحة للتلحين (بدرجة كبيرة) كما أكد لي ملحنون من مختلف المذاهب وكما استطعت أن أتأكد بنفسي من ذلك.

وفي الفترة التالية انصرفت بشكل متزايد إلى كتابة قصائد لا مقفاة ذات إيقاع غير منتظم بالإضافة إلى كتابة أناشيد وأغاني شعبية مقفاة ذات الإيقاع المنتظم.

(…)  

وقد طورت آنذاك تكنيكاً خاصاً من أجل النطق (سواء نطق النثر أو الشعر) وأسميت ذلك التكنيك بالإيمائي. 

ويعني ذلك أن يقوم هذا التكنيك على تلاؤم اللغة تماماً مع إيماءة الشخص المتكلم. لنأخذ مثالاً على ذلك: تقول إحدى آيات الكتاب المقدس “أقلع العين التي تكدرك”. إن هذه الجملة تخضع لإيماءة الأمر لكنها ليست إيماءة خالصة لأن تعبير “التي تكدرك” يخضع لإيماءة مختلفة لا تظهر بالوضوح الكافي وهي إيماءة التعليل. ولو أردنا التعبير عن هذا المعنى تعبيراً إيمائياً خالصاً لقلناه بالصيغة التي وضعها لوثر: “إذا كدرتك عينك فاقلعها!”. 

 (…)

أتذكر ملاحظتين من الحياة اليومية كان لهما أكبر الأثر في استعمالي للإيقاعات اللا منتظمة. أما أولاهما فكانت عند سماعي الهتافات المرتجلة في المظاهرات العمالية والتي طرقت مسامعي لأول مرة عشية أحد أعياد الميلاد. فقد سار موكب من البروليتاريين عبر الأحياء الراقية في الطرف الغربي من مدينة برلين وكانوا يهتفون: “نحن جائعون”. وكان إيقاع ذلك الهتاف كما يلي: 

WIR   HA   BEN  HUN  GER

وفيما بعد سمعت هتافات أخرى من هذا النوع كانت الكلمات فيها أكثر تطابقاً وانتقاء وكان أحدها يقول: 

HELFT   EUCH  SEL  BER  WAEHLT   THAEL  MANN

(سا عِدوا  أنفسكم، انتخبوا  تيل  مان)

 

أما الملاحظة الثانية التي استوحيتها من الشعب بخصوص علم الإيقاعات فقد كانت نداء أحد الباعة الجوالين في برلين والذي كان يبيع أمام أحد المخازن التجارية كتباً تتضمن كلمات وأغاني وأوبرات، وكان ينادي على الشكل التالي: 

TEXT BUCH FUER DIE O PER FRA TE LA WEL CHE HEU TE A  BEND   IM  RUND FUNK GE HOERT WIRD.

(كتاب  كلمات لــــ او  برا  فرا تي لا، اللــ  تي سه  تسمع  مه ساء الـــ  يوم  من الـ  إي  إذاعة). 

وكان الرجل يبدل من صوته باستمرار رفعاً وخفضاً لكنه كان يحافظ بإصرار على نفس الإيقاع. 

وباستطاعة كل إنسان أن يلاحظ تكنيك باعة الصحف في تلحين نداءاتهم. 

(…)

من خلال مثل هذا التقطيع للأبيات نرى أن بالإمكان تعويض التفعيلات الناقصة أثناء النطق من خلال مد التفعيلة السابقة لها أو من خلال اللجوء إلى الوقف. كذلك فإن تقسيم القصيدة إلى أبيات يساعدنا في ذلك كثيراً(*).

(…)

لا بد لي من الاعتراف بأن  التعامل مع البيت الشعري بمثل هذه الحرية يشكل إغراءً شديداً باللجوء إلى اللا شكل حيث أن جودة الإيقاع لم تعد مضمونة هنا كما هو الحال في الإيقاع المنتظم (علماً بأن الالتزام بالعدد المقرر من التفعيلات لا يعطي بالضرورة إيقاعاً جيد). على أن البرهان على جودة الطعام لا يتم إلا من خلال التذوق. 

 (…) 

إن الأذن البشرية تشهد بلا شك تبدلاً فيزيولوجياً “في الوقت الحاضر”. فعالم الأصوات من حولنا قد تبدل بدرجة كبيرة وما على المرء إلا أن يأخذ في اعتباره أصوات الشارع  في المدن الحديثة. وقد ظهر في فيلم سينمائي أمريكي، حيث يقوم في أحد مشاهده راقص بالرقص على أصوات آلات المعامل، كيف أن هناك قرابة مذهلة بين أصوات العالم الحديث وبين موسيقى الجاز بإيقاعها الراقص. إن الجاز يعني رفداً واسعاً للموسيقى الحديثة بعناصر من الموسيقى الشعبية، بغض النظر عن التشويه الذي يلحق بموسيقى الجاز في عالمنا السلعي. لذلك فإن أثر موسيقى الجاز في تحرير الزنوج أمر واضح تمام الوضوح. 

(…)

 

قمت بكتابة “قصائد في الهجاء” من أجل إذاعة ألمانيا الحرة. وكان المقصود منها نثر جمل متفرقة بين مستمعين بعيدين ومتفرقين. لذلك كان من الضروري استعمال (شكل مقتضب جداً)، أبسط الصيغ (وأكثرها إيجازاً) دون أن تتأثر بنفس الوقت بتشويش الإذاعات المعادية إلى حد كبير. من هنا فقد وجدت أن استعمال القافية غير وارد في هذا المجال لأن القافية تجعل القصيدة مكتملة بذاتها كما تجعلها تمر مرور الكرام على آذان المستمعين دون أن تترك الأثر اللازم. 

(…)

وهكذا توصلت إلى أن الشعر اللا مقفى ذا الأوزان اللا منتظمة صالح جداً في هذا المجال.  

 

1939             

_____________________________________   

أحمد الحمو: كاتب وباحث وأستاذ جامعي من سورية، حاصل على دكتورة في الفلسفة من “جامعة فرايبورغ” في ألمانيا. من ترجماته “غوته وألف ليلة وليلة” و”مختارات من الشعر في ألمانيا الديمقراطية”. من مؤلفاته: “علم اللغة العام”.

*****

خاص بأوكسجين