“عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، عاد أبي من فلسطين، وقد كنا في برلين. عاد بعد سنوات إلى عتبة دارنا، عيناه متعبتان، عظامه منهكة. نظرت إليه أمي ولم تقل شيئاً وتركته يدخل”، بهذا السرد تفتتح باري القلقيلي فيلمها “السلحفاة التي فقدت درعها”، وبه أيضاً سنمضي إلى ما تأسس عليه هذا الفيلم، كونه مبني على علاقة مخرجته بوالدها، ومسعى باري نبش حياته، دفعه لأن يخرج عن صمته، أن يروي لها حياته وقصصها، هزائمه وكوابيسه وأحلامه، والتي ستكون معبراً للفلسطيني المهجّر، وحياته نهب الشتات والظلم، وكومة أحلام محطمة بالحرية والعدالة.
ينبني فيلم “السلحفاة التي فقدت درعها” على الخاص، أي علاقة الابنة بأبيها، “أريد أن أحميه من نفسه، من أمي تمرر المكنسة الكهربائية بين قدميه، من الاسرائيليين الذين هجَّروه”، لكن هذا الخاص لن يكون أبداً كذلك، لا بل إن ما نصفه بالخاص هنا سيكون معبراً نحو التاريخي والسياسي، وكل ما له اتصال بالمهجّر الفلسطيني، المقتلع من أرضه وحلم العودة لا يفارقه أبداً، لا بل إنه وكلما تقدم في العمر كلما ازداد هذا الحلم ضراواة، وعليه لن يكون موسى القلقيلي، إلا تكثيفاً لما عاشه ويعيشه الفلسطيني في الشتات، وموسى جاء ألمانيا عام 1964، إنه “القلقيلي” أي من قلقيلية الذي تزوج ألمانية، وأنجب أولاداً حملوا الجنسية الألمانية، وها هي ابنته التي عشقت فلسطين وناهضت اسرائيل من دون أن يروي لها شيء، تقدم وثيقتها الشخصية، ووثيقة شعب بأكمله أيضاً، إنه فيلم شخصي لدرجة يضيء على الشتات الفلسطيني في أوروبا، عبر موسى نفسه، وعلاقة ابنته الألمانية به.
يتحرك الفيلم في ثلاثة مستويات، لنا أن نصف المستوى الأول بالعائلي، حيث الأب يشغل القبو والأم تشغل العلية، على ما يبدأ به الفيلم ، يمضي الأب ثم يعود، كسلحفاة تعود إلى قوقعتها، وهذا العائلي سيمتد ليشمل عائلة موسى القلقيلي وهي تروي قصصها وشهاداتها، كيف هُجِّروا وما إلى هنالك من حياة موسى، كأن تروي أخت موسى كيف تناوبت هي وإياه على الحمار حين هجروا من فلسطين، وكيف كان والدها يمنحها وقتاً أكثر من موسى، كون الأخير كان ذكراً مفرط النشاط والحركة، وهنا سنكون أمام توثيق للمأساة الفلسطينية وفق عائلة القلقيلي، وهذا يقود إلى المستوى التاريخي، وليمتد هذا التاريخي إلى الراهن حيث سيكون قسم من الفيلم “فيلم طريق” ونحن نلاحق باري ووالدها متنقلين بين فلسطين والأردن ومصر، وبالتالي المعابر، وما هي عليه الحياة الراهنة في فلسطين وموسى يسعى لأن يعاود العيش هناك، وصولاً إلى مستوى شخصي المتعلق بشخصية الأب نفسه وما حل به، من جراء ما عاشه وعاصره، حيث تجلس باري إلى جانب أبيها على الأرض، وليس أمامهما إلا “لمبة” عارية، بحيث تتركز الإضاءة على الأب، وما أن تقول له مع بداية الفيلم أخبرني عنك حتى يجيبها: “عن أي من هؤلاء سأتحدث، عن العامل، عن الأكاديمي، عن العازب، عن المتزوج، عن المهاجر..”، فهو كل هؤلاء، هو أيضاً من كان ناشطاً سياسياً في السبعينيات مع التروتسكين والماويين الألمان لنصرة القصية الفلسطينية، هو من توجه إلى سورية ليتدرب هناك على العمل النضالي وعاد يجر الخيبة، هو من يكره الاسرائيليين، لكنه يكره الألمان، ويكره حتى العرب.
فيلم “عند فارقت السلحفاة درعها” له جماليته الخاصة، حميمته وقسوته، إنها مقاربة وثائقية لكومة انكسارات وخيبات، وبالتأكيد أحلام مشروعة لسلحفاة تتوق لأن تعود إلى درعها الأول، وابنة تتعقبه لتوثق كل هواجسه وأهوائه وما تبقى له من آمال.
________________________
الصورة من أعمال معرض للتشكيلي السوري ثائر هلال أقامه عام 2012 تحت عنوان In Army We Trust.
*****
خاص بأوكسجين