يحجب نفسه خلف اسم مستعار: «بلتزار». شابّ في مقتبل العمر. شخصيّة ذات شهرة واسعة في الأوساط الجامعيّة الفرنسيّة آنذاك. بدافع ودّ وصداقة وعرفان، خصّني بعمل أنيق وثريّ للغاية، كان قد انتهى من تأليفه، وهو عبارة عن مادّة أدبيّة موضوعها الدّموع.
نَشْرُ الأثر برمّته سيشوّه في داخلي ميلي الفطريّ للهزل وحتما سينأى بي عن عالم الدّعابة الخفيف الذي أحبّه. لذا سأكتفي بتلخيصه محاولاً قدر الإمكان الحفاظ على نكهته النّادرة وفرادة الإبداع الذي يحفّه.
كان السيّد بلتزار – لنحافظ له على هذا الاسم ما دامت تلك رغبته – أستاذ فلسفة شعاره الأسمى: «لا تحصل الفائدة إلاّ بطرح الأسئلة». كان يطرح الآلاف منها، لكن أبدا لم يكن يهتمّ بالبحث لها عن إجابة، كأنّ إشاعة الحيرة غاية في حدّ ذاتها.
قال لطلبته يوما في آخر المحاضرة:
– هل بينكم من تساءل يوما وهو يبتلع دموعه: لمَ طعمها مالح؟
انتهى الوقت، وانصرف الأستاذ، وكان ذلك هو آخر عهد له بتلاميذه.
ثمّ انطلق بلتزار الشابّ فورا يبحث عن تفسير مقنع للمعضلة، متّخذا منها قضيّة تحدّ وتسلية في آن، أقسم أن يفكّ الّلغز مهما كلّف. فورا انكبّ بلتزار على العمل. فتّش مكتبات بأسرها، قلبها رأسا على عقب. اطّلع على جميع مراجع «وونت» لفزيولوجيا النّفس، و دروس «بويزو» لميكانيكا جريان السّوائل، وقصائد «لؤلؤ ودمع» للشّاعر النّرويجيّ العبقريّ «بيجورسن» ،لينتبه في النّهاية إلى أنّ رهانه بكر وأنّ أحدا لم يتناوله بالدّرس من قبل لا من قريب ولا من بعيد.
عقول سطحيّة مائعة أجابت في تلك الفترة بأسلوب رخو كسول:
– عجبا. الدّموع مالحة لأنّها تحتوي نسبة عالية من الأملاح القلويّة..
نعلم ذلك أفضل منكِ أيّتها الرّؤوس السّخيفة. القضيّة لا تكمن في كيمياء الدّموع ومقادير المكوّنات. جوهر السّؤال أعمق من بذلك بكثير: لِمَ منح نظام الطّبيعة المعقّد، المتقن المتفهّم لحاجات أعضائه وعناصره الدّموعَ مذاقاً مالحاً دون المذاقات الأخرى؟ هذا ما يجدر بنا السّعي للعثور عليه.
اتّبع بلتزار منهجيّة إقصاء ما لا يتماسك به اليقين بعدما اتّضح له هدفه بدقّة، وحدّث نفسه:
لنبرهن أوّلا حتميّة أن يكون للدّموع مذاق ما، ثمّ تباعاً سنبيّن أنّ كلّ مذاق عدا المالح لن يقدّم سوى كوارث تتخطّفها الرداءة من يد الفظاعة.
بالتّأكيد للدّموع طعم ما وإلاّ هل كان في وسعك مثلا أن تتخيّل أمّا تذرف فوق جثّة ولدها دموعاً سمجة كالماء لا حرقة فيها؟
لا، وألف لا.. ما رأيكم؟ هل يصحّ ذلك؟طبعا لا.
إذن للدّموع طعم، وهو مالح بالقطع.
كيف تكون حامضة؟ هل فكّرتم عندئذ ما الّذي كان سيحلّ ببعض شخصيّات المجتمع الراقي من احتقان لو أنّ عشيقاتهم المشاغبات رششن على وجوههنّ- تغنّجاً- حامضاً أزوتيّاً أو حتّى حارقاً؟ بالإضافة إلى أنّهن تعلمن جيّداً خطورة ذلك على غشائهنّ البصريّ الحسّاس. الخيانة الزّوجيّة ظاهرة طبيعيّة ثابتة، ومن غير المعقول أن تقف الطّبيعة عقبة أمام قانون كونيّ.
كما لن تكون الدّموع مرّة بأيّ شكل من الأشكال. فقد استمدّ تراثنا الأدبيّ العظيم من الدّموع المرّة مادّة استعارة واسعة. خصوصا أنّ عباقرتنا ما انفكّوا يزخرفون كتاباتهم بمسألة المرارة على سبيل المجاز. لن يكون هناك مجاز أو ما يذكّر ببلاغة لو أنّ الدّموع مرّة بالفعل، بالتالي لن يتعدّى الأمر مجرّد وصف بدائيّ للأشياء. وسيحرم رواتنا بالتأكيد من كلّ مجد أو شهرة وسيخسرون صفة الفنّ وفرص إمتاعنا. ومن يدري لعلّ صديقنا «أونيي» العظيم لا يدين بأروع صفحاته الأشدّ وقعا على النّفوس إلاّ لاكتشافه المبكّر بأنّ مضغ المسائل وتكرارها السّخيف هو أكثر آفات البشريّة فتكا بالأدب على الإطلاق.. فهل كان نظام الطّبيعة متقن الصّنع ليقف عثرة أمام الّلغة الفرنسيّة؟
غير مقبول أيضا أن يكون للدّموع مذاقا حلوا. وإلاّ لما توقّف الأطفال عن البكاء ساعة. وسنكتفي بضرب الصّغير «إميل» بدل مدّه بقطعة نقديّة لاقتناء الحلوى. بل سيكون ذلك ادّخاراً مثاليّا على حسابهم.. هل تصدّقون أنّ من الحكمة أن تسلب الطّبيعة من الآباء قدرتهم على التّربية؟
هكذا واصل السيّد بلتزار عمله بصورة منطقيّة صارمة. شارحاً خطوة بعد أخرى بثقة وسلاسة عجيبين كيف أنّ مذاق الدّموع لا يحتمل أن يكون شبيهاً بطعم الجبن ولا الزّيت ولا الفلفل ولا التّبغ …
في النهاية كانت خلاصته حقيقة واحدة من أجمل ما حبّره كاتب فرنسيّ طيلة العشرين عاماً الماضية.
___________________________
Les larmes من مجموعة Deux et deux font cinq
*****
خاص بأوكسجين