اعتبر بريشت الدرامية أرسطية، حينما يتم بوسطاتها إحداث “التماهي” في العروض المسرحية “بغض النظر عن استعمال قواعد أرسطو لهذا الغرض أو عدم استعمالها. وعلى هذا يمكن حسب تعريف بريشت اعتبار كل الأصول الدرامية – باستثناء دراميته– ارسطوية، لأن “التماهي” يحدث بوساطة كل وسائل الفن المركبة، حتى إذا حدث في أوقات مختلفة وبأساليب مختلفة ولأغراض متباينة. وإنه لمن الصحيح حقاً أن يتم بحث “التماهي” و”التغريب” وفقاً لبناء الأعمال المسرحية: غير أن “التماهي” و”التغريب” وحدهما لا ينتجان هذا البناء مع ذلك.
ثمة عنصر جوهري آخر في كل درامية مجتمع الطبقات هو مفهوم القدر الذي ينتمي إلى العناصر المركبة للدراما وإن اختلفت طريقته – ونسمي هنا مفهوم القدر عند أرسطو ومثله عند شكسبير كقواعد لنوعين من الأصول الدرامية المختلفة فعند الإغريق عينت (المويرا) “ربة القدر” سير الحكاية بشكل قسري مثلما فعلت المعاناة الحتمية عند شخصيات شكسبير العظيمة، أما عند بريشت فيختلف الأمر لأنه لا يحدد “القدر” الوافد إلى الناس من قبل قوى خارجية أو بوساطة فعل الشخصيات نفسها وعبر مجريات الأحداث، إنما يحددها قوانين المجتمع الاقتصادية – الاجتماعية الواقعية. (…)
لم يدخل بريشت بالدرجة الأولى في التناقض مع القواعد التي وضعها أرسطو في “فن الشعر” – وهي مدهشة لزمنه مثلما هي اليوم – إنما مع وظيفة المسرح في فترة الرأسمالية المتأخرة. وان ما يرتبط بالغرض النهائي للمأساة الارسطوية هو من جهة “التماهي” في العرض المسرحي، ومن جهة أخرى مفهوم القدر الذي يحدد الحدث. كما أن “التماهي”، وفق وجهة نظر بريشت، يحول دون نقد المجتمع المعروض – أن هذين المفهومين مصاغان من قبل أرسطو ولو أنهما اليوم يستعملان وفق صيغة معدلة، لكنهما ما يزالان فاعلان لأن المأساة بهذا تثير ” الشفقة والخوف (…) ويؤدي التطهير الخاص فيها He Catharsis إلى مثل هذه الانفعالات”.
كما أن التفاوت واضح بين هدف الأصول الدرامية الارسطوية وبين تلك الخاصة ببريشت، إذ إن الأخير يريد أن يضع المتفرج من خلال مجرى كل الحكاية في مجال السيطرة على الواقع المصور. وواضح كذلك، أنه لا يمكن بلوغ الهدف ذي الأساليب المختلفة بمعزل عن سياق الحكاية. ومن أجل إظهار وظيفة “التماهي” العميقة والمحددة للمعرفة، يجب بحث ارتباط هذه الوظيفة بسياق الحكاية، التي تنتظم مواقفها المنفردة بطريقة تقود إلى الغرض النهائي الأرسطي. وفي حال بلوغه، يحدد نتيجة العمل.
يمكن تطوير التفاوت في آراء بريشت وأرسطو من خلال التطابق (عندهما) في الجوهري. كتب أرسطو: “روح المأساة هي الحكاية” وكتب بريشت: “أن الحكاية عند أرسطو ونحن هنا نفكر مثله – هي روح الدراما”.(…)
لم بعاصر أرسطو، الذي عاش من 384 إلى 322 قبل الميلاد، كتابَ المأساة، الذين يمكن لنا وفق أعمالهم فحص مضمون قواعده: فقد ولد أرسطو بعد أشيلوس بمائة وأربعين سنة وبعد موت يوربيدس بثلاثين سنة. وتضم في تاريخ اليونان المائتان سنة – من ولادة أشيلوس إلى موت أرسطو تطوراً اجتماعياً تاريخياً عظيماً. وان انعكاس (هذا التطور) في أعمال كتّاب المأساة، الذين يقيمهم أرسطو، أدى إلى تكوين أساطير تنتمي إلى بيئات أساطير مختلفة من أجيال السادة القدامى، وكان هذا (التكوين) يختلف بعضه عن بعض إلى حد كبير، سواء على الصعيد الفلسفي التاريخي أو على صعيد الوسائل الفنية.
ويبدأ طومسون دراسته ذات الدلالة الخبيرة (اشيلوس وأثينا) بجملة: “أن المأساة اليونانية كانت واحدة من الوظائف الخاصة للديمقراطية الأثينية. وكانت ترتبط في شكلها وفي مضمونها، في صيرورتها وفي انهيارها بتطور العضوية الاجتماعية، التي انتمت إليها”.(…)
والآن فإن من بين أكثر من /300/ مأساة كتبها اشيلوس وسوفوكل ويوربيديس وأعمال لا تحصى لمؤلفين آخرين فقدت، لكنها كانت جميعها معروفة من أرسطو ومنها استنتج قواعده، وصلنا فقط /32/ مسرحية. ولا تتوفر في أي من الدراما المعروفة لدينا كل المعالم المثالية المطلوبة من أرسطو، وهذا لم يكن ممكناً، بسبب ارتباطها بعلاقات اجتماعية متباينة، أثرت بدورها في مضمون وبناء هذه الأعمال وميزت بينها.(…)
ويعقب بريشت على هذه الدرامية: “إذا ما أحيط المرء علماً بمادة الفنون السردية والعرضية، فانه يكشف كيف أن المواضيع العظيمة كالحرب والمال والبترول وسكك الحديد والبرلمان وأجور العمل والأرض هي نادرة نسبياً، وغالباً ما تقتصر على خلفية زخرفيه أو تكون باعثاً للتأملات”.(…) ولا تجد حقيقة الاستلاب (تقلصات النفس، وانحراف الحياة الداخلية) بتأثير من الحرب والمال والبترول وما إلى ذلك، لا تجد أي عرض لها في مثل هذه الأعمال، كما تستمر فيها العلاقات الإنسانية الغيبية.
وتفقد ردود فعل الأبطال تأثيرها الاجتماعي لأنها تتطابق والمغزى الاجتماعي بشكل واه. ولا تحتل الأحداث الشكل الأرسطي، إما انعكاساتها في حياة الأفراد الداخلية، كما يعكس سياق الحكاية تلك المواقف الخاصة بالحياة الداخلية للبطل. والنماذج هي غالباً يائسة ووحيدة، ويرتبط أفق نظر المتفرج بأفقها. ويقدم سترندبرغ مسرحية “الآنسة “جولي” قائلاً: “كون المأساة التي كتبتها تترك تأثيراً حزيناً على الكثيرين، فهذا ذنب هؤلاء أنفسهم”. ويعتبر مضمون المسرحية، الذي تقيم فيه بنت النبيل علاقة مع خادم”مشكلة صعود أو طلوع اجتماعي”. فالعالم هنا لا يعرف التقدم إلا بالنسبة للأفراد، ولا يكون بوسع ناس هذه الدرامية تغيير المجتمع ونجدهم عند أبسن يخافون العالم، حتى ولو بدا هذا العالم بصورة ماض يتسلل إلى الحاضر أو حتى ولو حلم فرد في حياة أفضل في أحسن الأحوال، كما عند تشيخوف فان تنظيم مواقف الحكاية يحجب مع هذا أية استنتاجات اجتماعية.(…)
ويوضح الممثل في مسرحية بريشت “ابتياع النحاس”: “بودي أن أنبه، إلى أن كل العجلات ستتعطل، إذا ما أرادت يد البروليتاريا ذلك”، لكنه يتابع “غير أنه في هذه اللحظة يسير ملايين العمال بدون عمل. أما العجلات فتتعطل، رغم أن هذه اليد القوية لا تريد ذلك أبداً”.
_____________________________________
قيس الزبيدي: مخرج ومصوّر وباحث سينمائي مقيم بين برلين. تخرّج من معهد السينما في بابلسبورغ (ألمانيا الديموقراطية) عام 1969 حيث درس التصوير والمونتاج. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: “بعيداً عن الوطن”، و”فلسطين سجل شعب”، و”شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب”، و”وطن الأسلاك الشائكة”. وقدّم روائياً “الزيارة” 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و”اليازرلي” 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض، ولم يعرض كاملاً إلا عام 2010. له العديد من المؤلفات النقدية والبحثية منها: “فلسطين في السينما”، و”المرئي والمسموع في السينما”، و”مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم”، و”مونوغرافيات في الثقافة السينمائية”.
*****
خاص بأوكسجين