الحديقة الخلفية للمنزل جميلة
العدد 233 | 14 تموز 2018
بيان أسعد مصطفى


(حواس)

تقرر الفتاة أن تسكن داخل الشجرة، عدما ترى نملة تحاول أن تحمل قشة بضعف حجمها لكي تثبت لمجموعة النمل أنها الأقوى. تموت الفكرة المأخوذة عنها، ثم تموت هي بعد ذلك.

ترى الفتاة الظلامَ داخل الشجرة فتُخرج ساقها اليسرى ويدها اليسرى ونصف وجهها الأيسر وتبقى عالقة بين الداخل والخارج.

يراها الحطّاب ويحتار في وجود الشجرة إلى الآن في الغابة الفارغة، يحتار في نهاية الفتاة…فيقطع ظلَّها.

***

قبل أن يصافح الشاب صديقته المقرّبة، يمسك في الصباح فنجان القهوة، يصافح صديقه في العمل، يمسك سماعة الهاتف ويطلب أرقاماً كثيرة، ويطبع أيضاً أوراقاً كثيرة، يظل يعبث بساعته، يفك أزرار قميصه المتعرّق، يرتدي قميصاً آخر غيره، يسقي الشجرة الجديدة في بيته، يلمس أوراقها، يغلق بيده اليسرى الباب، وبيده اليمنى يصفف شعره. وعندما يصافح صديقته ينتقل كل ما علق من تلك الأشياء إلى يدها.

في الليلة السابقة، كانت الأشياء أكثر تعقيداً؛ وهي تخطر على البالِ دون أن يزيل بيده اليسرى زهر اللوز العالق على قميصها، و يزيح بيده اليمنى خصلة الشعر عن عينيها، ويصل (وهو يصافحها) دفئها إليه. 

***

الذبابة لا تأبه بطنينها المزعج، تطير قرب النافذة المغلقة، تظل تقترب منها وتضربها، وتطير في أنحاء الغرفة كاملة، يراها الأصم صُدفة فيشفق عليها، ويفتح لها النافذة، وحينها يرى العصفور في الخارج وهو ينقر يد طفلته، ويتمنى أن يسمع صوتهما.

***

فقد اللاجئ شهيته، وصار يتذوق موائد الطعام التي تجيء في ذهنه، المليئة بطعم الوطن.

صار المواطن يتذوق طعم المرارة في بلاده أكثر.

***

تفقدُ الورود التي في الكتاب رائحتَها، ولكنّ عبقها يظل عالقاً في الذاكرة.

صفحات رواية (العطر) مليئة برائحة عطر فريدة.

الفتاة التي تقرأ الرواية تلمس عنقها بين الحين والآخر، فتنقل عطرها إليها.

 

 (خيانة)

كان يخبرها دائماً أنّ أكثر ما يحبه فيها أنها تنحو إلى قلم الرصاص والورق البسيط في كتابة أشيائها. ولأنه كان يعلم أنها في يومٍ ما قد تملأ جسدَها بقصيدةٍ من غيره محاها.

         

(سرقة)

تلك الزجاجة التي كان يتشبث بها، المغلقة جيداً، التي خبّأ بها شمساً لليلةٍ يقضي فيها وحيداً. حين لمعت في ذهنه فكرة أن يسرق قمراً من شرفة جاره وقعت منه…سطعت كل الأشعة في عينيه حتى أعمته.

 

(احتراق)

كلّ ما في الأمر أنه انتشر… تكوّم على ذلك السفح… رسم للقمر شاربين وعتّمه. كان قد تكدّس أيضاً فوق الفحم على رأس “النرجيلة”، وعلى رأسها…حول معصميها، وخصرها، وعنقها، وساقيها… الدخانُ الصاعدُ من قلبه وهو يحترق.

 

 (حُب 1)

أن تجد وأنت تأكل “الفيتوتشيني” شخصاً وسيماً ينظر إليك باهتمام… كانت هذه بداية أغلب قصصها، قصة حب غريبة تبدأ دائماً من “الفيتوتشيني”، لهذا السبب كانت تحبه.

الآن بعد خمس سنوات من “الفيتوتشيني” تجد نفسها وجهاً لوجه أمام كثير من الموتى، وكثير من الحمقى أيضاً…تنظر إلى أعينهم الفاغرة باهتمام؛ أعينهم التي تقول: إنّ “الفيتوتشيني” هو من يصنع كل تلك الحروب.

 

(حُبّ 2)

أمالت رأسها إلى الجهة اليسرى، حملقت به كأنها تشهق، رجعت إلى الخلف، أزاحت شفتها السفلى إلى اليمين عندما قال: “أحبكِ”.

 

(حُبّ 3)

الشاب الذي أعجبته “الغابة النرويجية” أحبَّ فتاتين؛ الأولى أصابها الجنون بعد أن فهمتْ كل شيء، والثانية أكملتْ حياتها معه وهي لا تعرفه.

الفتاةُ التي أعجبتها “آنا كارنينا” أمضت حياة كاملة لا تحبّ أحداً.

 

(وحدة)

تلك الصبيّةُ التي كانت تغريها فكرةُ الانتحار أمامه بعد إخباره بحبها، فكرةٌ مرّت في بالها حين تلاشى قلبها، كانت تريد أن تجعلها فانتازيا ليكتبها…أو على الأقل لا تغيب عن باله. هو الذي لا يحبها..الذي يخافها أكثر…وتدركُ ذلك. حين قالت: أحبكَ، امتلأت بالحياة واليقين… فأدارت وجهها إليه… بقيت قريبةً منه…وحيدةً جداً.

 

 (فزّاعة)

مع الوقت، أكلتْ الفزّاعة صوتَ الفلاح، وصارت تملي عليه أن يشتري لها كلما زاد المحصول فستاناً جديداً.

 

(وعد)

أضاعت خلخالها في حقيبتها الواسعة، وحين وجدتْ حبيبها أخبرتْه أنّ الحياة ضيّقة عليهما وأنها ستحبه في غير هذه الحياة.

 

(حرب)

استسلم الجنديّ بعد الحرب الطويلة إلى النوم مقيّداً يديه (بين رجليه)، ورأى في الحلم طيوراً تملأ السماء بعدد من قُتلوا.

 

(حضور)

كان يريد أن يراها حتى في حلمه، وعندما جاءته حلماً غاب إلى الأبد!

 

 (ألم)

الوحيد…كان يصرخ من الألم، لم يخَفْ أن يختفي الناس من حوله بسبب صراخه؛ فهو وحيد، ولكن صوته الذي اختفى وبقي الألم.

 

 (مزاج)

وقعت الوسادة، هبّت رائحة عطر ثقيلة من النافذة، انطفأ الضوء في الزاوية الخلفية، انتهى مزاجُ الرسّام.

 

 (حافة)

ما عادت الحافّة تعني لها شيئاً، الفتاةُ التي انتحرت من الطابق الثامن والعشرين، لأن ساعة يدها توقفت على فكرةِ أنّ الحديقة الخلفيّة للمنزل جميلة!

 

 (سرّ)

الشجرة التي راودتها فكرة السير وشوشت صديقاتها…في الصباح استيقظ الحطّاب على صوت تكسّر كرسيّه الذي أحدث صدىً هائلا ًعمَّ قلبَه!

 

 (مغادرة)

المرأةُ التي غادرت كلَّ شيء جلستْ على مدخل المدينة تبصق قشور “البزر” في أي جهةٍ تراودها.

 

 (شرود)

هناك شيء ما تفكر به المرأة الوحيدة أمامي، شيء يشبه الصمت الذي يسبق أي شيء خطير ووجيز

كالطريقة المناسبة للانتحار أو تحليل خاص بها للأوضاع السياسية الحالية، من الطريقة التي تنفث فيها الدخان، فيصعد عالياً جداً كدخان القطار، وكثيفاً كأنه أجزاء نفسها العميقة، لولا أن ضحكت أثناء الاتصال هاتفي، أحدثت ضحكتها صخباً هزّ المقهى، وعدنا إلى بعضنا البعض؛ كلٌّ شاردٌ فيه إلى أبعد حد!

 

(فحم)

الرجلُ الذي يبيع الفحم، الذي أصبح وجهه ركناً من أركان المكان، كلّما فكّر في شيء احترق قلبه.

 

 (تعب)

السترةُ المعلّقة في المحلّ للبيع تنظر إلى شبيهتها على جسد الفتاة السائرة بجانبها وتقول: كم هي متعَبة!

 

 (قطرات)

الفتاةُ التي يصل شعرها إلى نصف ظهرها إذا ابتلّ ترتعش… فتنمو من القطرات ورود وأشجار.

 

 (ظل)

هنالك ظلٌ أخضر في الغابة، إنّه الحطّاب.

 

 (وداع)

 تمرر يديها على وجهه ببطء وصمت، يركّز نظره في عينيها فحسب. هناك حزن بالغ فيهما يقوده إلى مكان بعيد جداً. تغمضهما لدقيقتين كاملتين محاولةً تذكّر آخر كلمة ستقولها له للأبد.

 

(حافة)

إنها تقف على الحافّة دائماً، حافّة البكاء!

 

 (صدَفة)

أحياناً أضع الصدَفة على أذني، وبدل أن أسمع صوت البحر أسمع روحي.

 

 (صورة فوتوغرافية)

أنا صورة فوتوغرافية التقطها مصوّر محترف أثناء بحثه عن فهد وحيد قرر أن يهرب إلى الجبال. لم أبق في ذهنه كثيراً، فوقعت على العشب، وإلى الآن يتساءل الغرباء عن فحواي.

 

 (زئبق)

الزئبقُ يسيرُ وأنا أسير وراءه يسيرُ… يسيرُ… وأنا وراءه مثل جنديّ لم ترهقه البلاد. ذهبنا إلى التلال، إلى السهول، إلى الجبال، إلى السحاب… يسير وأنا أتبعه…يسير وأنا أتبعه… ويتمدد الوجع في رأسي. كانوا يقولون إنه سينتهي. يتوقف. يموت…ولكنهم أخطؤوا، فقد ظل حتى النهاية. وأنا لا أعرف في أي مكان توقفت!

 

 (مطر)

يسيل الكحل من عينيها إذا تذكّرهما. في المكانين بحرٌ أسود.

إذا رأت وجهه في الغيم أَمطر.

 

(تزامُن)

أغلقُ عينيّ. ينفتح بابٌ في الخارج،

 أحلمُ فتصفق الريحُ باب غرفتي.

***

يمشي الحمام على الإسفلت وينظر إليّ.

أطير، جناحاي قلبي ولا أرى أحداً.

***

في الحديقة أمام الأرجوحة تكتب العجوز وصيتها وتبتسم، وهناك يموت الطفل في بيته مذعوراً من أصوات القصف.

***

يرتجف سطح النهر إذا وقع عليه مطر لطيف، ونحن نحترق شوقاً في انتظار غيمة سوداء.

***

تغيب رائحة الورد وأنا أسقيه ماءً كثيراً.

يظل الرجل الوحيد يسقي ذاكرته.

***

تقطع الغزالة مسافة لتهرب من النمر ولكنه يجدها.

نمدّ أيدينا لمساعدة الطغاة ثم لا نجد الأرض.

***

يرتدي قميصه الجديد وينظر في عينيه الحزينتين.

تتعرّى الأشجار غير مكترثة بأحد.

***

يرمي الطفل حجراً.

 تتحطم رؤوسنا كلما تفتحت الأفكار.

***

يجمّل الإطارُ الصورة،

وبملامحنا المشوّشة نركض في المدى.

 

(ابتسامة)

يدرك الوجه المرسوم على الجدار أنه لن يجد مثل ابتسامته بيننا.

 

 (حصاد)

بعد أن ينام الحصّاد تمشي السنابل إلى جانب الجنود وعلى موائد اللاجئين، ترفع هاماتها، تستطيل أمامنا تأتي في أحلامنا أيضاً على هيئة ناشطي سلام… وعندما يستيقظ تكون قد عادت، فيأتي إليها آبهاً بنا ويحصدها.

 

 (ليل ونهار)

أنتَ أضعتَ الليل في حقيبتي، وأنا احتفظتُ بالنهار في نظارتك الشمسية.

 

 (وحدة)

الوحيد كان يصرخ من الألم…لم يخَفْ أن يختفي الناس من حوله بسبب صراخه؛ فهو وحيد، ولكن صوته الذي اختفى وبقي الألم.

 

 (فوضى)

وسط الفوضى؛ حيث يُوقع المطر أوراقَ الأشجار والجدران المهترئة، يسقط على قطع معدنية يُحدث ضجيجاً لافتاً، العصافير تخفق بأجنحتها في رأسي وتهرب من أمامي إلى عدة اتجاهات… المكان مُطفأ، بنيّ أكثر، تتحرك فيه الأشياء بطريقة غريبة. وعيناي مثبتتان في عينيه.

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من الأردن.