الجرد والكاغد
العدد 209 | 04 نيسان 2017
نجوى بن شتوان


كانت عمتي صبرية في المدينة لبعض الشؤون، حين عادت راعها الحريق الذي شبّ في الزرايب. كانت السلطات تقضي على الطاعون دفعةً واحدة بطريقتها. الموت يستشري وقد يهلك مستعمرتها إن لم تواجهه بحزم، لذا كان عليها أن تحرقه في مكانه. ذلك ما حدث ببساطة!

ألقت عمتي صبرية ما حملته لنا من فول وحمص، تصرخ من بعيد وهي غير مصدقة بالقضاء الذي نزل بالزرايب. كانت الزرايب تشتعل وبنغازي المسوّرة بسياجٍ كبير أمامهم تمتصّ الدخان ساهمة. قيل إنه الطاعون الذي حملته، وواجهته دموع السود يومذاك ببحرٍ من الدموع ينافس البحر الذي أمامها.

ألفت عمتي الزرايب على غير ما تركتها عليه ذلك النهار الحافل بالشؤم.أخذت تجري والخوف يسقط قلبها، ماذا يجري؟ لم يكن الظرف يسمح بأي تفسير، علينا أن ندرك ما نراه بأعيننا فقط ويربكنا ويصدمنا. لم يلحظ عمتي ممّن تزاحموا كالنمل عند مداخل الزرايب أحد. ففي مشهد القيامة ذاك بالكاد يدرك المرء نفسه.إنها النار الآتية على كل شيء وليست الماء أو الريح هذه المرة. لم تبالِ عمتي صبرية بالجنود المصطفّين وهم يمنعونها من الدخول، دفعتهم صائحة:

– ياويلكم، الجرد والكاغط!

لم يعد يبين من كيانها سوى جردها الرمادي المتطاير عنها، وصوتها الذي تحول إلى نواحٍ ذبيح، وقدميها الحافيتين المغبرتين. حاول جيوسبي اللحاق بها، فأمسك به رئيس البعثة وذكّره بأن القوم مطعونون. كانت عمتي عيده تبكي وتصرخ في الجنود:

–لا تسكبوا البنزين على المداخل. ستعود، أعطوها فرصةً فنصف الزرايب لم يحترق بعد.

ناشدت عمتي عيدة ضابطاً كبيراً، وطبيباً على ذراعه شارة الصليب الأحمر. هزّ الطبيب رأسه أنْ لا فائدة! وأنزل يديّها عنه بأسف ٍكبير. رفض الجندي الذي كان يحمل تنكة بنزين التوقّف ونفّذ أوامر ضباطه، صبّ التنكة وأغلق آخر جزء حيّ من الزرايب بالنار. حينها أدركت أنني أفقد عمتي صبرية في هذا التنّور المستعر، حثوت التراب على الأرض لأمنعها من أن تشتعل، هرع جيوسبي معي يذرو التراب على البنزين المسكوب، عمتي عيدة أيضاً وزنوج آخرون فعلوا فعلنا، بينما لجأ آخرون للبحر في هجومٍ كبير، يغرفون من مائه ما تيسّر لهم لإطفاء الحريق. كانوا يدافعون عن مكانهم المسحوق دفاعاً يائساً. لكنهم دافعوا وحسب.

من كل الاتجاهات غالب سكان الزرايب لإطفاء الحريق، تعبنا والنار لم تتعب. بدأ جيوسبي يجذبني للبعيد، تشبّث بذراعي وسحبني إلى الوراء ما أمكنه، كانت يداه يابستان وجسدي جثةً ثقيلة.

استنجدت بهم ليطفئوها، بل إنني تذكّرت فيما بعد أن جيوسبي بملابسه التي لم تعد نظيفة ووجهه المعفر بالغبار كان يحثو التراب مثلي ليطفئ النيران، فيما عمتي عيدة تصارع الجنود وتصرخ بهم هي ومترجم أسود جاءت به حملة القضاء على الطاعون. كانوا يدفعونها بعيداً وهي تطلب إلى المترجم أن يخبرهم أن المرأة سليمة وليست مطعونة.

– قل لهم إنها ستأتي بمدّخراتها وتعود. قل لهم إنها لن تبطئ. امنحوها لحظة للحياة ولا تحرقوها حيةً معافاة.

إننا نفقد صبرية. لم يردّ أحد، بدؤوا يجمعون الأهالي المتعبين مثل قطيعٍ موبوء من الماشية، مهددينهم بإطلاق النار عليهم إن رفضوا السير إلى الحجر الصحي في جليانة. امتلأنا باليأس والحزن، وملأت عرباتهم الأرض من حولنا بالغبار. ارتفع صراخ عيدة، فقد أصابها ما يجري بالجنون، كانت تلطم نفسها وتشقّ ثوبها، بحثت عيناها المفزوعتان عني، ولمّا وجدتني كانت نظراتها مخيفة جداً، شدتني من كتفي بقوة وسحبتني من فراغ عقلي حتى فصلتني عن يدي جيوسبي عائدةً بي نحو الزرايب، فيما الناس يمشون في اتجاهٍ غير اتجاهنا. كنت أهذي غير مصدقة أن عمتي صبرية احتجزتها النيران في الداخل، كنت أريد حدوث معجزة بأي شكل وفي أي لحظة تعيدها إلي. قلبتُ بصري في الدخان العظيم، لم أعد أرى إلا فرناً كبيراً يلتهم كل شيء ورجحت أنها ستختنق ثم تحترق، فرئتاها ضعيفتان وستسقطان أولاً.

كانت عمتي عيدة مصدومةً مثلي. في لحظة بدا فيها الجميع وكأنهم يحترقون فعلاً. تيقنت من شيء ما بدأت تحثّني عليه:

ابكِ المرأة التي لن تعود.ابكِ أمكِ، ابكِ أمكِ.

هزتني بقوة من بين يدَي جيوسبي الذي لحق بنا محاولاً استرجاعي من قبضتها:

–تعويضة أمكِ، أمكِ وليست عمتكِ. صبرية أمكِ وليست عمتكِ.

ضربها بعض الجند بأخماص بنادقهم، وهدّدوها لتبتعد، فهي تعثر مهمتهم ضد الطاعون. يئس يوسف من الأمر، جرّني بعيداً وخبّأ وجهي في صدره كيلا أرى المزيد. صرت فعلاً يتيمة، فقدت جذري في الحياة في اللحظة التي عرفت وأنا أفقدها بأنها كانت أمي طيلة العمر وليست عمتي، وأنها خبأت نفسها لتخبئني هروباً من الأذى وخوفاً عليّ من شرور الخلق. كانت أمي التي دخلت نيراناً كثيرةً من أجلي، ليس أخيرها أن تنقذ كاغد اعتراف أبي المعزّز بجرده، سترة الرجل وغطاؤه وشرفه. كانت أمي التي لم تسمح لها الأرض المشتعلة بالخروج حيةً والعودة إليَّ. كنت أبكي وأولول وجيوسبي يحضنني متأثراً بمصابي، مصدوماً مثلي بما قالته عيدة. قال لقائد البعثة الطبية إنه سيأخذني إلى الكروسة التي يركبها لأكون معه.

صرخت كلمة “يام” للمرة الأولى في حياتي: “يام لا تتركيني، يام عودي، يام لا تذهبي”.

يالتعاستي! ناديت ما أفقده في لحظة فقدانه، وجهلت ما أعرفه في لحظة إدراكه!

هل كان صُنعَ بشرٍ أم صُنعَ قدر؟

لم يتركني جيوسبي. قال ونحن نركب العربة: “سيأخذوننا إلى حيث يجب أن نستحمّ جميعاً ونُعقَّم ويتمّ التخلص من ثيابنا وأشيائنا”. بكى مثلي وغالب واضعاً رأسي على كتفه، فيما إنسانٌ مجنونٌ يغادر جسدي قافزاً نحو الزرايب. كان جيوسبي يصيح بي:

–لا تنظري… لا تنظري!

وكنت إنما أعيد ميراث أجدادي الذين استعبدهم أجدادي، مغمضة العينين، كي لا يرى موتي موتي!

كان آخر ما رأيت من مأساة الزرايب دخاناً أسودَ كثيفاً حجب الأرض والسماء. رائحة كريهة لأجساد بشرية وحيوانية شويت حية. روح أمي غير المطعونة تختنق، من سواد خُلق توإليه تعود، هي ومن احتجزتهم النيران هناك، كانوا أحياءً عندما رشّت السلطات البنزين والكاز على الأكواخ وأشعلتها بمن فيها وما فيها. تعلقتُ ببقايا الرؤية باكية، حتى تهيّأ لي أني أرى أمي في الزرايب وهي تبتعد نحو السماء كما لو أنها تخطو بين العشاش والأكواخ، متجهةً إلى البحر لتغسل الثياب، لتغسل الحصر، لتختفي كما تختفي الطفلات الصغيرات مع كائنات أخرى ويستحيل استعادتها. تلك مرة أولى وأخيرة مليئة بالحزن والحسرات، لفظت فيها كلمة “يام” ولم تسمعها أمي، أو عمتي صبرية كما اختارت أن أناديها دائماً حمايةً لنا.

في مقر البعثة اليوسفية، هدأتني راهبتان بحقنة. أظنني نمت هناك لأيام من صدمة الفقدان. كنت كلما رفعت رأسي عدت إلى غيبوتي. لعل ذلك خيرٌ لي، غيّبني عن الشعور بالألم لأيام. كنت أعرف أنني أتنفس وحسب حين أفتح عيني وألحظ السوريلات البيضاوات في أرديتهن النظيفة، يطفن من حولي، يقلن لي شيئاً ويمسكن بيدي ويبتسمن، فكأني ما كنت أفتح عينيَّ إلا لأحصل على تلك الابتسامات ثم أعود إلى غيبوبتي الممتدة من جديد.

علمت أن جيوسبي كان معي. دأب على تفقّد من يعرفهم من الزرايب، أكثرهم لم يعد موجوداً. بحث عن عمتي عيدة، ليعرف منها حقيقة كل شيء غابت حقيقته عني. قال لي إن الناس سوف يعودون إلى الزرايب بعد أن تخمد الأحزان، ليصلّوا على رفاة موتاهم ويدفنوا الحطام وفق الشريعة الإسلامية، ثم ستشيّد لهم الحكومة الإيطالية مخيماً جديداً.

ماتت الزرايب وعاشت فينا بشكلٍ آخر.

قال جيوسبي إنه سيذهب معهم، وسيحاول معرفة مكان براكتنا إن استطاع، ليأتيني بما يجده منها. سألني متردداً وهو يدرك عقم السؤال:

– ماذا لديكِ هناك تريدين مني أن أبحث لكِ عنه؟

وأطرق لمّا رآني أبكي وأمسح وجهي بيدي.كنت طريحة سريرٍمرتّب في غرفةٍ طُليت بالجير الأبيض، ليس فيها شيء عدا منضدة صغيرة وصليب كبير لُصق بالحائط المقابل للسرير، ومن حولي وجوه ثلاث راهبات إيطاليات يتحدثن مع جيوسبي، هُيئ لي أنني في مكانٍ لم أرَ له مثيلاً، أسمعهم يتكلمون عني لأني لم أعد معهم إلا بجسدي الزرائبي الفقير، فقدت كل شيء، ولن تكون حياتي سهلة بعد اليوم، فأنا صغيرة يتيمة أين ستذهب بعد أن تغادرها الغيبوبة؟

تلك الغرفة الصامتة، وتلك العبارةلطالما رددتها السوريلات في حديثهن بجانبي، سواء كنّ مع بعضهن أو مع جيوسبي، ما زالت تتأرجح في عقلي، تربض في ركنٍ بعيد من روحي، وتعدو مثل حيوانٍ جائع نحو فريسته كلما عاودتني آلام الفقد.

– يا لها من مسكينة! لا أم، لا أب، لا عائلة!

ليس فقدي لعمتي التي هي أمي فقط، بل للزرايب بكل ما فيها، طفولتي، عملي، حياتي، عمّاتي، صديقاتي، البحر، غربال الرمل الكبير، الحب، الغناء، الرقص، الدموع، العبد التقاز، مفتاح الآتي دائماً من بعيد، وقلب بوقا الذي قال عنه طبيب تشريح إيطالي يبيع الجثث لكلية الطب في روما: “أما هذا القلب يا صديقي، الذي يشبه قلب الشاة، فهو لجثة خرافية”.

لا يمكن أن تتلاشى الزرايب مني أو تحترق، فماذا يستطيع جيوسبي أن يجلب لي من رفاتي هناك؟

كنت أعتقد أن مفتاحاً نجا من أن يكون شاهداً على ذاك اليوم الأسود، لكني شهدت كيف أنه لم ينجُ من الحزن الذي سبّبه له. ظل يقدّر مكان براكتنا في الزرايب تقديراً ويذهب إليها، يجلس هناك ملتصقاً بالأرض ويبكي وحيداً لا يريد من يواسيه.

في إحدى المرات، وكانت صبيحة يوم زواجه، فقدناه في العرس، قدّرت أين يمكن أن أجده، فركبت الكروسة مع جيوسبي إلى البحر، لمحته من بعيد هناك، بحلّة العربي التي يرتديها العرسان، كان يجلس حانياً رأسه على ركبتيه، يخبر أمي بأنه تزوج وأنه يفتقدها في فرحته، ويعدها بأن يفعل كل ما وعدها به، أن يسمّي اسمها ويحجّ لها وألاّ يتخلى عني.

كنت أسمع عبراته كلما دنونا منه، ثم أجهش حين اقتربت وعانقته. قال ليودموعه تنزل على وجهه:

–أفتقدها يا أُخية، أفتقدها.

إنني ميراث من لم ينظروا لموتاهم، أغلقوا لهم أعينهم كيلا يروا القسوة، وترك فيها منفذاً فقط للدموع.

إنني نبتُ ما سقط من تلك العيون.

_______________________________

فصل من رواية “زرايب العبيد” الصادرة عن دار الساقي، بيروت 2016، وهي من بين الروايات الست في القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية لهذا العام.

*****

خاص بأوكسجين


قاصة وروائية من ليبيا صدر لها العديد من الروايات والمجاميع القصصية منها: "وبر الأحصنة"" 2005، و""مضمون البرتقالي"" 2008، و""الملكة"" 2009، و""الجدة صالحة"" 2013. و""زرايب العبيد"" 2016 (ضمن القائمة القصييرة لجائزة بوكر)."