في خريف 1995 صدرت الطبعة التاريخية لرواية “القضية” لفرانتس كافكا عن دار نشر “S. Fischer” على قرص إلكتروني، يُمكّـنُ المرء من مشاهدة مخطوط العمل بخطّ كافكا على شاشة الكمبيوتر وبالألوان. يُرجّح إبراهيم وطفي، مُترجم آثار كافكا الكاملة عن الألمانية أنّ كافكا نفسه ربما أجبر ناشريه على التوصّل إلى هذه النهاية، إذ اعتاد الأخير الكتابة بقلمٍ ناعمٍ لا يساعد على بقاء الكتابة طويلًا، وبمرور الزمن لم يتبقّ شيء من خطّ يده سوى أطياف باهتة، تــعـهَــدُ إلى ورثـة المؤلّف بمهمّة توزيع التركة المضطربة، أي إعادة كتابة النصّ أو على الأقلّ إعادة ترتيب الفصول ليُنتج نصّاً أدبيًا جديدًا.
نعرف أنّ كافكا لم يترك أعمالًا مكتملة، بل رزمًا من الدفاتر، هي قوام فصول رواياته التي لم تكتمل أو التي لم تُرتّب بيدّه، وإنما رُتّبت وفقًا لهوى صديقه ماكس برود، ولاحقًا بمعرفة محقّـقي أعمال كافكا، فرواية “القلعة” مثلًا حُذِف منها خُمس حجمها، إلى جانب اكتشاف أخطاء عديدة في علامات الترقين وترتيب الفصول، تنبّه إليها محقّقو كافكا في الرواية نفسها.
نقرأ على هامش الفصل الرابع من ترجمة د. مصطفى ماهر لرواية كافكا “القضية” (المركز القومي للترجمة، 2009) ما يلي:” لا يتّفق النقاد على مكان هذا الفصل، بعضهم يجعله الرابع وبعضهم يؤخّره، وقد وضعناه في هذا المكان وفقًا للنسخة التي ترجمنا عنها.” وكان ورثة كافكا من الباحثين ودور النشر يتسابقون في البحث عن أي أثر يقود إلى ما كان يدور في ذهن الرجل.
الأمر نفسه ينطبق على الرواية الأخيرة غير المكتملة لهيرمان ميلفل (1819-1891)، “بيللي باد”، حيث اكــتُـــشِف مخطوط الرواية على يدّ د. رايموند ويفر، الأستاذ بجامعة كولومبيا والذي كان يدرس أوراق ميلفيل بهدف إعداد سيرة ذاتية عنه، وقام بنشر النسخة الأولى للمخطوط المُنقّح سنة 1924، ثم أعاد تنقيحه مرّة ثانية بعد إدخال مزيد من التعديلات والتصحيحات. كانت أرملة ميلفيل قد بدأت بتنقيحه، ولكنها لم تتمكن من تحديد أفكار زوجها في العديد من المقاطع، ولا حتى من رؤية العنوان الذي وضعه للرواية، فسوء خطّ الزوج وعدم تفسير ملاحظاته تفسيرًا صحيحًا أثّر كثيرًا على النسخة الأولى من النص. وبعد عدة أعوام من الدراسة، قام هاريسون هايفورد وميرتون سيلتس بنشر النسخة التي تعتبر الأفضل والأقرب لروح نصّ ميلفل سنة 1962.
وقبل شهرين تقريبًا، وتحديدًا في سبتمبر 2017 نــشـرتْ جامعة نورثويسترن طبعةً جديدةً مزيدة ومُنقحّة (للمرة الثالثة)، أعدّها توماس تانسيل، الناقد الأمريكي وجامع الكتب والمتخصّص في آثار ميلفل. الأمر الذي يعني أن عملية النسخ والتنقيح والتصحيح في جسد المخطوط الأصلي المسجى في مكتبة الكونجرس، لم تنقطع طوال ما يزيد عن قرنٍ كامل بعد وفاة ميلفل.
اللافت أنّ روايتي “القضية” و”بيللي باد” تشتركان في أشياء عديدة، أولها أنّ كليهما لم يُنشر إلا بعد وفاة صاحبه، ثانيًا أنّ مُحرّر كل مخطوط (ماكس برود في حالة كافكا، وهايفورد في حالة ميلفل) قد نقّحا المخطوط الأصليّ وأدخلا عليه تعديلات بهدف الوصول إلى صيغة مقبولة ومتماسكةٍ للرواية، وثالثًا وهو الأهمّ أنّ تيمة الروايتيْن واحدة تقريبًا: شابٌ بريء يُحاـكـم ظُلمًا على جريمة لم يرتكبها، لكنّ بيللي بود يُحكَم عليه بالإعدام وهو الحكم الذي يتلقاه الشاب بالرضا والقبول، وبالمثل يتعامل “جوزيف كا” في رواية القضية مع الأمر بروح رياضية، أقصد مع مقتحمي حجرته، وسارقي فطوره، وكان يتطوّع للذهاب للمحكمة بنفسه دون استدعاء.
لم يسمع كافكا عن رواية ميلفل بطبيعة الحال. لكنّه – ودون معرفة سابقة- أنتج نصًا يحمل روح النص الأول، ليستلم ماكس برود التَركة ويعيد ترتيب فصول “القضية”، ثمّ يأتي معترضٌ آخر على طريقة برود في النسخ والتصحيح ليضع لمسته، وهكذا في سلسلة لا تنتهي.
في سنة 2006 أصدر الناقد والمحرّر الأدبي البريطاني ستيوارت كيللي كتابًا بعنوان: “كتاب الكتب المفقودة: نحو تاريخ منقوص للكتب العظيمة التي لن تقرأها أبدًا”، الكتاب سردّ موجز لتاريخ الكتب المفقودة؛ وهو رحلة تتراوح بين عناوين أحرِقَت، أو فُقدَت أو هجرها أصحابها ولم تكتمل (مثل حالة كافكا وميلفل).
في هذا الكتاب يطرح كيللي هذا التساؤل: هل يمكننا إعادة إنتاج نصّ غير مُكتمل تركه صاحبه بسبب وفاته إذا ما توافرت – نظريًا- الظروف نفسها التي توفّرت للكاتب الأصلي وقت شروعه في عمله غير المكتمل؟
الفكرة، على طرافتها، ليست جديدة. إذ سبق لكتابٍ آخرين طرحها، بل وتنفيذها برؤى فنيّة مختلفة، أشهرهم الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986) الذي كان يرى أنّ “كلّ كاتب يبتكر أسلافه المؤثّرين في أدبه”، والإيطالي أنطونيو تابوكي (1943- 2012) الذي كتب “أحلام..أحلام: حكايات حُلمية مُتخيّلة”، مدوِّنًا أحلام أسلافه من الأدباء الكِبار.
في كتاب “المخلوقات الوهمية. يليه ضيفًا على بورخيس” للكاتب الأرجنيتي الأصل، الكندي الجنسية ألبرتو مانجويل (المركز الثقافي العربي-2006، ترجمة بسام حجّار)، وخلال حديث بورخيس عن تدمير مكتبة الإسكندرية يقول:”..إنّ عدد الموضوعات والكلمات والنصوص محدود، وبالتالي لا شيء يضيع للأبد، إن ضاع كتاب فـثـمّة مَـن يكتبه مجددًا، طال الزمن أو قصر.” نعرف أنّ بورخيس كان من كبار المُغرمين بتنفيذ هذا النوع من الأفكار، في نصوص مشهورة مثل “مجموعة التاريخ الكونيّ للعار”، وهي نسخ وإعادة نسخ كتاب حيوات مُتخيّلة للروائي الفرنسي، غريب الأطوار مارسيل شواب، ، بالإضافة إلى قصص صغيرة ذائعة الصيت مثل بيير مينار مؤلّف دون كيخوته ودراسة لأعمال هربرت كوين، وغيرها.
أما الإيطالي أنطونيو تابوكي فقد استهلّ كتابه المشار إليه سابقًا “أحلام..أحلام: حكايات حُلمية مُتخيّلة” – (منشورات الجمل 2007 – ترجمة رشيد وحتي)، بأغنية صينية قديمة تقول: باستطاعتِكَ، إذا ابتسمَـتْ الآلهة، أن تحلُمَ أحلام شخصٍ آخر”. تصوّر تابوكي نفسَه يحـلُم أحلام أسلافه العِظام، مستلهمًا تفاصيل من حيواتهم الشخصية لكتابة حُلمٍ أقرب إلى روح كلّ منهم، يبدأ مِن أوفيد وأبوليوس، مروروًا برابليه وصمويل كولريدج وصولًا إلى رامبو وفيرناندو بيسوا.
يُمسك آلبرتو مانجويل خيط الفكرة، ليسلّمه إلى أستاذه بورخيس الذي ذهب إلى عدم ضياع الكتب أو فقدانها، قائلًا: “إنْ ضاعَ كتاب أو فُـقِــدَ، يأتي من يكتبه من جديد” وفقًا لكلماته في حواره مع مانجويل.
بحسب الرؤية السابقة تصير الكتابة تكرارًا للحن أساسي، أو شيئًا عـرَضيًا، تحدث كيفما اتُفِق وبأي مؤلفّ كان. فالقارئ الناسخ: ماكس برود في حالة كافكا، أو هايفورد في حالة ميلفل، أو تابوكي في كتاب أحلام..أحلام، أو بورخيس في كلّ أحواله وأقواله، كل هؤلاء ناسخـون للقصّة الأصلية، والتفاوت بينهم في الموهبة والمجهود فقط.
في كتابه الأخير “الفضول” (دار الساقي 2017 – ترجمة إبراهيم قعدوني)، يكرّر مانجويل فكرة شيخه الأكبر بورخيس صاحب فكرة “مكتبة بابل الكونية” التي تحوي الكتب كلها، فيتحدث أيضًا عن فكرة الكتاب ذي الصفحات اللانهائية، أو الكتاب الذي تُعـاد كتابته على مرّ العصور، مستشهدًا بمقولة قديس من القرون الوسطى اسمه بونافنتورا، يقول إنّ الربّ بعدما خلق العالم بكلمته، بدا له العالم مـيّـتًا على الصفحات، لذا رأى ضرورة وجود كتاب آخر ينير للأول معاني الأشياء.
بهذا المعنى، فكلّ ما هو جديد في الأدب ليس إلا قديمًا مطروقًا، وكل ما يُكتَب ليس إلا سلسلة من النَسْـخ والتصحيح، ثمّ تصحيح التصحيح، وهكذا في دائرة مغلقة. على نوع من التكرار. لكنّه ليس تكرارًا مملًا، بل تكرارًا جميلًا. هو نوع من الأمل في العثور على الكلمة الأخيرة الأكثر جمالًا وصدقًا، فيتحوّل تـاريخ الكتابة إلى تاريخ هذا الأمـل.
*****
خاص بأوكسجين