التقيتها في السوبر ماركت، وأي مكان آخر يمكن أن تلتقي فيه امرأة جميلة في هذه الأيام؟ امرأة آسيوية ترتدي كمامة، ووشم حمامة فاردة جناحيها الصغيريين على ذراعها اليمنى، وفي ملامحها من النضج والطيش ما يجعل تقدير عمرها أمراً مستحيلاً، وهالة غموض تحيط بها تستطيع التخلص منها واستعادتها متى شاءت.
كانت منكبة على كومة زنجنبيل، ترمي بحبة منه وتختار أخرى، وأنا بدوري كنت أجابه كومة تفاح اخترت منها خمس أو ست تفاحات. هي اختارت فاكهتها وخضراواتها وأنا بدوري فعلت – لا أعرف ما إذا كان الزنجبيل ينتمي إلى الفاكهة أم الخضار – ثم إنها أتت إلى حيث كنت أنتظر دوري لأحاسب، فأعطيتها دوري، فبادرت إلى القول بلا مقدمات:
– هل أنت خائف مني؟
حينها لا أعرف ما الذي حصل في أعماقي السحيقة والسطحية، إذا داهمني شعور بأنني أود لو أقول لها: أنا مستعد للموت من أجلك! فكيف أخاف منك!
لكنني أجبتها:
– لا أبداً!
وساهم في قولي ذلك أن حديثنا بالانجليزية، ولابد أنني لو كنت أكلّمها بالعربية لكنت أفصحت عن جهوزيتي للموت فداءً لها، وللحقيقية فإن في ذلك حجة واهية لتلعثمنا دائماً أمام ما نود قوله بحق، فانجليزتي إن تعلق الأمر بشؤوون القلب، تصبح بجودة قصائد أودن وباوند وثلة ممن انهوست بهم من شعراء، أو كما كانت تقول لي صديقتي الإيرلندية هاريت في ثاني عمل لي في شركة إعلان متعددة الجنسيات:
– انجليزيتك غريبة! في كل ما هو ومجازي وشعري تضيء وفي البزنس تنوس..
وحينها درجت على أن أجيبها:
– لقد درست الأدب الانجليزي وليس الانجليزية..
وهذا حقيقي جداً لأنني كنت أنهوس بالروايات والمسرحيات والقصائد المقررة أثناء دراستي الجامعية، وأقرأها بشغف جنوني، أكثر من محاضرات ومقررات البرفسور عن الرواية أو المسرحية، وأغلب الذين كانوا يحملون هذه الصفة لم يكن ليسرهم ذلك، وبالتالي حرصوا على رسوبي في مقرراتهم، ولا أعرف للآن كيف تخرجت من قسم اللغة الانجليزية في كلية الآداب، لا بد أن معجزة حصلت في مكان ما، وانتصرت لهوسي المعذب.
لم أقل لهاريت إنني كاتب، أو أنني أمت بصلة لما يشكّل كل حياتي، ربما بحكم العادة العربية، ولكون الإقرار بذلك في مؤسسة عربية بمثابة فضيحة، بما فيها الثقافية منها، إذ يمكن في العالم العربي أن تعمل مع مؤسسة ثقافية بمنتهى الكفاءة وتتلقى الثناء تلو الثناء من دون أن يعرف زملاؤك بأنك كاتب، فهكذا معلومة كفيلة بإثارة الشك والريبة، أو على الأقل ستخضع لتحقيق جهة أمنية، من دون أن يتكبد أحد ممن تعمل معهم قراءة ما تكتب… الأمر الذي فعلته فقط مع براد، مديري المباشر في شركة الإعلان سابقة الذكر، حين وجدني في مكتبي بعد الدوام غارقاً بقراءة رواية نايبول “بذور سحرية”، فدخلنا في نقاش طويل عن احتشادها بالأخطاء التاريخية العجيبة، وأن ما فعله المغول في دلهي هو ذاته ما اقترفوه ببغداد ونحو ذلك، ومدى فقرها مقارنة بـ “بيت للسيد بيسواس، و”لغز الوصول”، فامتد النقاش إلى بار بجانب المكتب دعاني إليه، وبعد كأسين أو ثلاثة اعترفت له بكامل قواي غير العقلية بأنني كاتب، فوجد بذلك لقية ما بعدها لقية، وكانت عبارة Author أو Published Writer بمثابة كلمات مفتاحية لفهم مزاجيتي وإنتاجيتي المحيرة بالنسبة إليه، وبالتالي تبدّلت مقاربة كل من أعمل معهم لي، لأنه أشاع خبري، محتفياً بأن كاتباً يعمل تحت إدارته، ومحذراً لهم في الوقت نفسه من إبداء أي شيء يعيق مزاجيتي.. وكم كان مصيباً، فهو، ألا اللعنة، جعل من عبارة مثل “بيئة العمل المثالية” أمراً حقيقياً، فما تحتاجه في النهاية اعتراف بما أنت عليه وليس الاحتفاء بما تحققه من عمل سخيف.
طبعاً قد يبدو كل ما تقدّم استطراد، إلا أنه ضروي جداً لمواصلة ما ألمّ بي مع المرأة الآسيوية، التي انتظرت لحين فروغي من دفع ثمن مشترياتي، وقالت لي وبلا مقدمات أيضاً:
– هل ندخن سيجارة؟
وبدا لي هذا الطلب غريباً! وللدقة مخيفاً، فأنا لم أمارس التدخين منذ أكثر من شهر ونصف إلا في غرفتي، لكننا أزحنا الكمامتين ورحنا ندخن بشرود، ولأقول لها:
– أنا في سباق مع التدخين!
استفسرت متعجبة:
– ماذا يعني هذا؟
– عندي الكثير مما عليّ إنجازه ولا أعرف ما إذا كانت محافظتي على هذه الوتيرة من التدخين لن تقتلني قبل إنجازه!
– آه .. واصل التدخين لأنك ستموت على هذا الإحساس ولو في الثمانين من عمرك! أنت كاتب أليس كذلك؟
أدهشني هذا الاستنتاج وتذكرت هاريت وبراد والمؤسسات العربية وغير العربية التي عملت فيها، وقلت في نفسي تكفيها سيجارة واحدة وبضع عبارات لتتبين ذلك. قلت:
– نعم!
– هذا واضح.
– أتعرفين! لم أكن أنوي المجيء إلى هذه المول، لأن فيه فندق، بالتالي يمكن للنزلاء أن يكونوا حاملين للفيروس.. لكن من حظي العظيم أني فعلت!
قالت:
– أنا أسكن في هذا الفندق!
وأردفت بعد صمت وجيز:
– لنصعد!
قالت لي في غرفتها إنها يابانية ولها أكثر من شهرين عالقة في غرفتها لا تريد أن تبقى ولا أن تعود إلى بلدها، لأبادر بقول شيء مثل إن غرفة الفندق في أي مكان في العالم هي تعبير عن ذلك، فهي لا تعطي شعوراً بملازمة مكان ولا تُسَعِّر حنيناً إلى بلد. وكم أسعدها هذا التلاعب بالكلمات، واجدة فيه كل الحقيقة، وليهبط عليّ من حيث لا أدري مقطع من رواية نايبول “المقلدون” أو “المحاكون” The Mimic Man، وها أنا أترجمه هنا: “نسعى إلى مدينة فيزيولوجية فنعثر على مجاميع من الزنازين الخاصة. في المدينة بما لا يشبه أي مكان آخر يتم تذكيرنا بأننا أفراد، وحدات. وبينما تبقى المدينة على حالها، ونحن لا نتعقب إلا إله المدينة، عبثاً.”
– ربما الفنادق هي آلهة المدن، آلهة فيزيولوجية عبادتها تكون بأشياء ملموسة..
قالت:
– واو.. سنتعبدها سوية.. ما رأيك أن تقرأ لي من مؤلفاتك؟
قلت:
– كلها بالعربية!
– ليكن.. ترجمها. أنا متأكدة بأنك ستنقلها ببراعة، أصلا ومن حديثي معك أشعر بأنك تكتب بالانجليزية!
– لا لم أفعل!
– لماذا؟
تذكرت مطالبات هاريت المتكررة بأن أقرأ لها حين أسرّ لها براد بأنني كاتب، أن أعطيها أي كتاب من كتبي ولو بالعربية، ومطالبات مماثلة لزملاء آخرين منهم من كانوا هنوداً ويكرهون نايبول وسيرته. ولأجيبها بعد شرودي الاضطراري:
– لأنني لم أحلم يوماً بالانجليزية ..كل منامتي بالعربية..
– سبب مقنع جداً..
– نعم هو مقنع تماماً، مقنع لي على الأقل، فكيف لي أن أكتب بما لا أحلم..
– موافقة! لكن هذا لن يكون عذرا يعفيك من ترجمة شيء تقرأه عليّ بينما أحضّر الشاي..
وأعطتني ورقاً من أوراق الفندق وقلماً، ورحت أستعيد نصاً عنوانه “الآسيوي”، ثم قرأته عليها:
لا تمضي عشرُ دقائق إلا ويردِّد:
“تحيا آسيا”
كلازمةٍ
أو ما شابه
متيقِّناً من أن مانيلا أردأ من تابوت
وبانكوك لا تُنسى إذا نجوتَ من الإيدز
وأن جميلات كاواباتا النائمات مررن جميعاً على سريره
“أثناء يقظتهن”
أضاف.
ملاحم وفرسان
أناشيد
أقواسُ نصرٍ مشدودة
وسمك شبوط بحجم راحة الكف تماماً
معابد وتوابل وكهنة
آلهة شخصية وأخرى للعموم
مُستَحضِراً نايبول فجأةً
“الهند إهانةٌ للحواس”
دون أن يفوِّت فرصة نعته بـِ “المسخ الكولونيالي”.
أخبرَنا عن امرأته الدخانية التي هبطتْ عليه من شاشة السينما
وواجه كُرمى لعينيها جحافل من الكومبارس وتقنيي الإضاءة
وكيف أرسلَ لها رزمةً من قصائد الهايكو عنونها:
“آهٍ يا بنفسجة الأبدية”
ليهجرها إلى ثلَّةٍ من فتيات الجيشا
ويقعَ بعدئذٍ في شراكِ تلك الصينية اللعينة، التي عبدها بمجردِ أن رآها عاريةً ووحيدة في ساحة الشعب تردد سطراً لشانج هوو:
“أكره مفترق الطرق الذي وزَّع قلبي”
ياله من سطر! يالها من امرأة!
مواصلاً سيل حديثه العارم
طافياً على بحرٍ متلاطمٍ من الكونياك
مردداً:
“ألا أيُّها الليل الطويل ألا انجلِ. . .”
كلازمةٍ جديدة رافقتنا حتى الفجر
أولُّ بشائرِ الفجر
حين خرجَ إلى الشرفةِ
وألقى بنفسه
ناجياً وراءها بصرخةٍ
لم
تخمد
بعد.
وهي لم تترك مقطعاً من دون أن تتبين معناه أو تضحك مع ما يُضحك، ومن ثم أحضرت الشاي بالزنجيبل وقالت:
– يا لها من قصيدة! لابد أنك هذا الآسيوي!
فسألتها إن كانت عارفة بطقوس الشاي الياباني، فأجابتني:
– سأسميك كيكوجي إذن..
– كيكوجي ..كيكوجي.. آه.. وأنت فتاة الطيور البيضاء..
فقرعتْ فنجانها بفنجاني وشربنا نخب ياسوناري كاواباتا شاياً بالزنجبيل، وراحت تردد: جميلات كاواباتا النائمات مررن جميعاً على سريره.. أثناء يقظتهن.. وتضحك. أثناء يقظتهن.. أثناء يقظتهن .. أثناء يقظتهن.. تكررها وتضحك، وأنا كنت مشغولاً عنها بوشمها، وقد باتت الحمامة تطير في أرجاء الغرفة، وكلما ضحكت خفقت بجناحيها أكثر.
لا أعرف كم لبثت في غرفتها، لكن بما يكفي لئلا أعثر على تفاحاتي وأغراضي التي اشتريتها ونسيتها حيث دخنا سجائرنا. وحين عدت إلى شقتي، كان أول ما فعلته هو نبشي رواية ياسوناري كاواباتا “سرب طيور بيضاء” ورحت أقرأ: “كانت أوراق الأشجار تشبك ظلالها على النافذة، من خلفها، ويعكس نور شعشع بريقه الناعم على كتفيها، وينزلق على كمّي الكموينو فيضاعف من ألق ألوانه. حتى شعرها كان يبدو لامعاً. وفي غمرة هذه الشفافية التي تفيض إضاءتها عن مقصورة الشاي. كانت زهرة صباها تتفتح. كانت الفتاة تستخدم فوطة من الحرير القرمزي فلا يثير هذا اللون بين يديها أي انطباع بالتنافر بل على العكس، كان يشيع مناخاً من الطراوة المفعمة، كأن زهرة تنفتح في كل حركة من حركاتها، ومن حولها كأنها رفرفة ألف من الطيور البيضاء.”1
——————————
1- من رواية “سرب طيور بيضاء” لياسوناري كاواباتا، ترجمة: بسام حجار. المركز الثقافي العربي – الطبعة الأولى 1991.
*****
خاص بأوكسجين