كيف تواصل نظرية إيف سيدجويك حول الانفعال حضورها خلال الحجر الصحي والعزلة الذاتية
شهد الهلع من كورونا نشوء أفق سياسي جديد لمسناه في مجموعات الدعم المتبادل، وحظر الترحيل، والنضال للحصول على إجازات مرضية، والمفاجئ في الأمر هو سرعة التغيّر الحاصل، فبين الحظر الأمريكي للرحلات القادمة من دول الاتحاد الأوروبي حيناً، والمقابر الجماعية التي كشفتها صور الأقمار الصناعية في إيران حيناً آخر، لم يعد الارتياب (البارانويا) المصاحب للفيروس مادة للدراسة أو التهكم، بل مادة منتشرة كالنار في الهشيم. ففي بحر الأيام القليلة الماضية، نشأ توجه جديد جراء فيروس كورونا يتمثل في ملازمة المنزل والحفاظ على مسافة مع الآخرين والتحلي بالحيطة والحذر لحماية الأشخاص الأكثر تأثراً بالفيروس. تقلّ الثقة في تصريحات الحكومة البريطانية عن أعداد الإصابات، وتتعرض لانتقاد حاد جراء قبول استراتيجية “فريق الرؤى السلوكية”. أما في إيطاليا، فقد فرّ بعض السجناء خلال أعمال الشغب المرتبطة بالفيروس، في حين منحت الشركة الأم لمطعم أوليف غاردن في أمريكا إجازة مرضية لموظفيها. وفي خضم هذا الارتياب، تبرز بعض الجهود السياسية لقراءة هذه الأزمة في ضوء ما قد تصنفه المنظّرة إيف كوسوفسكي سيدجويك بطريقة “إصلاحية”.
لم يؤدِ هذا الأفق الجديد إلى تجاهل الارتياب الأولي تجاه الفيروس، ولكنه ساعد على اجتماع تشكيلة جديدة من المطالبات، إذ يحظى الارتياب الطبي بميزة إضافية بما لديه من استعارات فيروسية، حيث رأينا خلال أيام الانتشار الأولى أن نظريات المؤامرة “تنتشر أسرع من المرض نفسه”، وهو بالضبط ما نال اهتمام إيف سيدجويك في فكرتها عن القراءة المرتابة والقراءة الإصلاحية وتحدثت عنه في كتابها الأخير “إحساس مؤثّر”. بالنسبة لها، لا تتعارض طريقتا القراءة هاتين، بل تعتبر القراءة الإصلاحية امتداداً للمرتابة، وفي مقال يتحدث بوضوح عن هذا الأمر، تحاول سيدجويك توثيق ذكريات أزمة الإيدز، وتفتتح الفصل بقصة محادثة بينها وبين سيندي باتون الناشطة في مجال الإيدز، حيث تسأل سيدجويك باتون عن “الشائعات المغرضة” حول أن الإيدز صنيعة الجيش الأمريكي بهدف الحد من انتشار المثليين، لترد باتون بأن “على افتراض أننا استطعنا التأكد من جميع هذه الأمور، ما الجديد الذي سنعرفه وقتها ولا نعرفه الآن؟”
ما الجديد الذي ستخبرنا به مؤامرة بهذا الحجم حول القوى الفاعلة في اللعبة السياسية الأميركية بحيث لا نعلمه مسبقاً؟ ألا نعلم بالفعل بأن أميركا توصد أبوابها في وجه من تراه مواطناً غير ملائم، وتتجاهل بل وتهمل مخاوف الصحة العامة طالما ظلّت الرأسمالية قادرة على أداء عملها؟ عندما يتعلق الأمر بالمعرفة المكتسبة من هذا النوع من القراءة المؤمنة بالمؤامرة، ألسنا نعلم مسبقاً أن نظامنا الصحي يستخفّ بحياة العاجزين، ويتعرض المستأجرون للطرد من بيوتهم دون وجه حق، وتُحرم طبقة البريكاريا (أصحاب الوظائف والمداخيل غير المستقرة) من الامتيازات بمجرد هبوط أسعارها إلى مستويات تناسب سكان العالم؟
لم أقصد الاستخفاف بهذه المقارنة مع الإيدز، فهناك مجموعة مختلفة تماماً من الظروف السياسية ونوعاً مغايراً من الألم، إلا أننا يجب أن نعلم أن “شركة غيليد” للصناعات الدوائية التي تتصدر الشركات العاملة على تطوير لقاح ضد فيروس كورونا، تمتلك كذلك براءة اختراع عقار تروفادا (عقار وقائي قبل التعرض لفيروس العوز المناعي المكتسب (PrEP)) الذي أصبح متوفراً في المملكة المتحدة هذا الأسبوع بعد حملة شعواء شنّها ناشطون. وتعد براءات الاختراع من هذا النوع هي بالضبط ما تحارب ضده مجموعات مثل تحالف الإيدز لإطلاق القوة (أكت أب) في محاولتها لتوفير علاج فيروس العوز المناعي المكتسب/ الإيدز لأكبر شريحة ممكنة، حيث سبق للتحالف استهداف “شركة غيليد” جراء بيعها الدواء بآلاف الدولارات. ونرى هنا مرة أخرى العواقب الوخيمة التي يمكن أن تنجم عن غياب الرعاية الصحية والأدوية على مستوى العالم، لا سيما إن لم يتم التعامل معها بدرجة مناسبة من الشبهة الاستباقية. أمامنا في الوقت الحاضر درس ينبغي علينا تعلّمه من نضال الحركات الداعمة لمرضى الإيدز ضد التراخي الريغاني، من خلال ارتداء عدسة التشكك الجريء لقراءة المعطيات والروابط الخارجية ونقص الأدوية والحظر المفروض على المثليين من زيارة شركائهم في المستشفيات.
حاولت سيدجويك استعراض الارتياب كانفعال وطريقة للتحليل ومنهجية لاستيعاب المعلومات التي أصبحت بعد حين مفتاحاً لفك طلاسم بعض المعلومات “الحقيقية” عالية المستوى، فالارتياب بوصفه انطباعاً وطريقة للقراءة يمثّل حالة “استباقية” و”منعكسة ومستنسخة وتؤمن بالانكشاف”. نأمل أن يسلّط ارتيابنا الضوء على المكيدة التي تحاك ضدنا: فكلما أكثرنا من نشر هذا الارتياب بين الآخرين، أصبح أقرب إلى الحقيقة. إلا أن سيدجويك ترى أسباباً وراء ممارسة القراءة غير المرتابة بخلاف الفكرة البسيطة التي تقول إن الارتياب يمكن أن يؤدي إلى استنتاجات “واهمة أو خاطئة ببساطة”. وهناك أيضاً أسباب وراء ممارسة القراءة المرتابة تتجاوز قدرتها على توفير “معرفة حقيقية”، في حين يمكن للقراءة المتشككة أن تبني أسس المعارضة والمقاومة المشتركة التي تنشأ عن الوضع الانفعالي الإصلاحي والوضع الإصلاحي لقراءة الأزمة.
وهنا تبدأ فكرتها عن القراءة الإصلاحية، التي تتطلب درجة سليمة من الارتياب، وأساليب غير مرتابة حتى توفر استراتيجية سياسية وأسلوباً مستقبلياً مثمراً انطلاقاً من اللحظة الحالية التي نعيشها حبيسي الارتياب. وبالعودة إلى إرث الحركات المدافعة عن حقوق مرضى الإيدز، تكتب سيدجويك: “لعل أفضل الدروس من هذه الممارسات [الإصلاحية] هي الطرق العديدة التي نجح فيها الأشخاص والمجتمعات من انتزاع مصدر رزقهم من معطيات ثقافة ما، حتى وإن لم تدخر هذه الثقافة فرصة للتعبير صراحة عن عدم رغبتها في الإبقاء عليهم”. مرة أخرى، لا تكمن الأهمية هنا في احتمالية اكتسابنا معارف جديدة إن كشفنا النقاب عن مؤامرة أصل مرض الإيدز، بل في التحلي بعين شكاكة تجاه كشف مستور الأزمة بهدف وضع الأساس للقيام بتحرّك سياسي مشترك، وبحسب شرح سيدجويك، يتضمن ذلك أشكالاً “زائفة” من التهكم والفكاهة والسخرية التي قد تظهر عندما يعاد توزيع مصدر الرزق ذاك.
ساعد ارتياب فيروس كورونا، سواء الإعلان عن أعداد أقل من الإصابات الواقعية، واستعداد بعض الدول لتطبيق إجراءات وحشية، وعجز دول أخرى عن الوقوف في وجه أزمة بهذا الحجم، على تغيير طبيعة احتمالية اتخاذ القرارات السياسية، فعلى الصعيد الوطني، قررت إيطاليا تعليق سداد القروض العقارية، وتفكر إدارة ترامب في تعليق ديون الطلاب. تضم قصة القراءة المرتابة فصولاً أخرى لا تنتهي، فمنذ الانهيار المالي في 2008، استحضر قطاع التمويل قراءته المرتابة الخاصة به، بحيث سعى المنظّرون إلى حلحلة نسيج الآليات القانونية والحسابات الخارجية التي تتيح للنظام المالي السيطرة على أنماط الحياة الأخرى كافة، وأدى هذا الانفتاح المفاجئ على إعفاء ديون ضخمة، ولو كان بصورة مؤقتة فقط، إلى ظهور هشاشة أيديولوجية أخرى. ويجب النظر إلى حماس حزب المحافظين لضخ تمويل عاجل في قطاع الخدمات الصحية الوطنية بعين شكاكة، ولكن هذا الشك يجب أن يكون أساس محادثة سياسية راديكالية بامتياز. نحن مستعدون لهذه اللحظة، ومنذ ما كشفه إدوارد سنودن حول أسرار وكالة الأمن القومي الأميركي في الفيلم الوثائقي بصوت آدم كيرتز المريح، أصبحنا على دراية كاملة بنوع القراءة اللازمة لهضم الديستوبيا الرابضة على صدورنا.
يجب علينا في سبيل قراءة فيروس كورونا بصورة إصلاحية الانخراط في أشكال جديدة من التضامن الذي طورناه خلال فترات العزل الذاتي والتباعد الاجتماعي. تبدو مسودة هذا المقال التي كتبتها الأسبوع الماضي تحقيقاً صارماً ومنفصلاً عن الواقع حول الوضع الفكري للارتياب، من خلال الادعاءات الجديرة بالتصديق مثل أن يكون جيفري إبستاين قد تعرض للاغتيال، وأنت ترامب جرى انتخابه، وأن المرشح الديمقراطي بيت بوتجيج عميل لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. نحن نعيش نهاية عصر الارتياب، وفي العصر الذهبي لدراسات الارتياب. تجلّى الخوف من فيروس كورونا في البداية من خلال نظريات المؤامرة المبتذلة حول الأسلحة البيولوجية العسكرية وعمليات التستر والإخفاء. ولكن مع اشتداد وتيرة الاشتباه، ظهر اعتبار جديد للرعاية الاجتماعية، فلم تعد الخدمات الصحية حول العالم عرضة للمؤامرة فحسب، بل مكاناً قد يشهد بناء ديناميّات جديدة لتوازن القوى.
ولكن في الوقت ذاته، لا يمكننا تجاهل الخسائر الحقيقية التي تصاحب هذه اللحظات من الارتياب والأزمة. حيث أثرت هذه العلاقة بين الكآبة والارتياب على تفكير سيدجويك، فبحسب مخطط التحليل النفسي الذي طورته ميلاني كلاين، التي تعد من أهم الشخصيات التي تأثرت بها سيدجويك، يعتبر “الموقف” المرتاب استجابة للموقف الكئيب ومشاعر الحزن والحداد والقلق التي تستمر طوال الحياة [2]. نحن نتسلح بالارتياب كألية دفاعية ضد الخسارة، حيث أدت الخسارة والحداد المحظور الذي أحسسنا به خلال أزمة الإيدز إلى تفكير مرتاب وميال للإيمان بالمؤامرة. وكظاهرة ثقافية حاضرة، قد ننظر إلى الارتياب كسبيل جماعي للتعامل مع مشاعر الاكتئاب والخسارة التي تصاحب الوضع السياسي المحبط. نعيش الآن فترة انتقالية أصبح فيها العالم الذي نعرفه قبل الفيروس عصياً على الإصلاح، وتتسارع الأحداث بطريقة تجعل من الاستحالة بمكان أن نستطيع تجاوز هذه المرحلة دون أن نتخلى عن أجزاء من ذواتنا. وبالنسبة لكلاين، يؤدي النمط الفصامي المرتاب إلى صدع أو تفريق الذات والآخر (وقود المؤامرة، بغض النظر عن مدى اتساعها).
ركزّت الكثير من الأفلام في سبعينيات القرن الماضي على الارتياب والمؤامرة محاولة استقصاء الطريقة التي تعاملنا فيها مع التفرقة كأدوات سياسية، ومن أفضل هذه الأفلام فيلم المحادثة “the Conversation” للمخرج فرانسيس فورد كوبولا وثلاثية آلان جيه باكولا عن الارتياب (كل رجال الرئيس “All the President’s Men”، وكلوت “Klute”، وعرض المنظر “The Parallax View”) وفيلم غضب “Blow Out” للمخرج بريان دي بالما. كانت فضيحة ووترغيب وتقرير وارن حول مقتل الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي وارهاصات حرب فيتنام مهيمنة على المشهد السياسي في الولايات المتحدة الأميركية، حسبما ذكره فريدريك جميسون (زميل سيدجويك في جامعة ديوك) في كتابه: الجماليات الجيوسياسية: السينما والمكان في النظام العالمي. وبالنسبة لجيمسون، فإن العجز عن تمثيل عمومية الرأسمالية هو ما يولّد هذه الدعوات المتألمة التي تنادي بحصول المؤامرة: فهذه هي “العمومية كمؤامرة” [3]. أنعش ألبيرتو توسكانو وجيف كينكل عمل جيمسون حول المؤامرة من خلال مفهوم “التخطيط الإدراكي” في كتاب رسم خرائط المطلق (2015)، والذي يحاول تفحّص الطريقة الفعلية التي تعمل بها المؤامرة المرتبطة بالرأسمالية، وكيف أُجبرنا على وضع الشريط الأحمر والدبابيس المثبتة لربط القوى المتفاوتة والمعالم الخفية في الفن والكتابة والنظرية.
تتلاعب الرغبة المؤمنة بالمؤامرة لفهم وتتبع عمومية الرأسمالية بكيفية تفكيرنا إزاء نظام الرعاية الصحية الكسيح، وهشاشة المصابين بحالات صحية كامنة، والطريقة التي حُرموا فيها من احساسهم بذواتهم. تقول فرانسيس ريان في صحيفة “ذي غارديان” [4]: “إن القول أن فيروس كورونا آمن نسبياً لحوالي 98% من السكان لا يؤكد بالضرورة أنك من ضمن نسبة 2% الباقية”. يمثل نقص الرعاية الاجتماعية الملائمة، وغياب شبكات الأمان والإجازات المرضية، ارتياباً متزايداً تجاه قراءة إصلاحية: كيف ستغدو الحركة الإنسانية الأكثر راديكالية: السياسة المتمركزة على إعادة الإنتاج والرعاية الاجتماعيتين، في ظل حكم الفيروس كورونا؟
كتبت آن بوير حول فيروس كورونا في دورية إخبارية حديثة: “هذه هي الأنواع نفسها التي تقول أن الشيء الوحيد الذي يدعو للخوف هو الخوف نفسه، وهو أمر عارٍ عن الصحة طبعاً، لأن الخوف يعلّمنا الاهتمام بالآخرين، لأننا نخاف أن نتسبب في استفحال مرض شخص مريض بالفعل، أو أن نجعل حياة شخص فقير أكثر شقاءً، ونبذل قصارى جهدنا لحمايتهم لأننا نخاف أن نعيش حياة إنسانية يحيا كل شخص فيها لنفسه فقط.”
تتطلع القراءة الإصلاحية، كما يشير الاسم، إلى مجموعة جديدة من الانفعالات، فنحن نريد من هذه القراءة “السعي وراء بيئات جديدة من الإحساس بالمعطيات التي تدرسها من خلال اقتلاع الروابط الحساسة بمجرد فرضها بالتوبيخ والرفض والغضب وتلك المنسوجة بالانفعال والعرفان والتضامن والحب.” وزّعت مجموعات الدعم المتبادل نشرات إعلانية وموارد مشتركة للسكان المتجاورين، وفي خضم الدعوات إلى غسل اليدين ومسح الأسطح، طُلب إلينا الامتناع عن الذهاب إلى العمل والبدء فيما يبدو إضراباً عاماً، ويسود إحساس أن حالة الطوارئ قد ترتد على عقبيها بطريقة أو بأخرى، فبدلاً من اعتبارها فرصة لإعادة ترتيب الأمور، تصبح فرصة لفرض قوانين جديدة لمكافحة الإرهاب. كتبت سيدجويك عن “الاحتمالية الزائفة” ألا نكرر الأنماط المدمرة التي ما فتئنا نقوم بها في الحالات السابقة المماثلة، وألا نرتكب ذات الأخطاء التي دفعنا الارتياب إلى ارتكابها، حيث يمكننا صياغة علاقات جديدة نابعة من الأزمة من خلال التعامل مع شعور الارتياب والرغبة في الإصلاح.
——–
العنوان الأصلي للمقال:
Paranoia and the coronavirus: how Eve Sedgwick's affect theory persists through quarantine and self-isolation
عن فيرسو – Verso
——–
[1] إيف كوسوفسكي سيدجويك، (2003) “القراءة المرتابة والقراءة الإصلاحية، أو، أنت في غاية الارتياب، ربما تظن أن هذا المقال يتحدث عنك” من كتاب شعور عاطفي: العاطفة، أصول التربية، الأدائية. منشورات جامعة ديوك
Eve Kosofosky Sedgwick