اسماعيل يس والدخان
العدد 152 | 17 أيار 2014
فكري عمر


نَظرتُ إلى الفتاة علها تطيل التوسل؛ فأرضخ وأتراجع عن تعذيبها، لكن وجهها كان مطمئنًا وهي فوق موقد الغاز المشتعل، عيونها تلمع بالضحك كلما جاء صوت إسماعيل يس فى التلفزيون، انتظرتُ احتراقها حتى الاختفاء، لكن قشورًا بسيطة هي التي كانت تُقشط من جلدها ووجهها، حتى أن لونها تحول إلى الأبيض الحليبي، وازدادت رونقًا عن ذي قبل. 

سحبتها للوراء متقبلًا الهزيمة حين خبط إسماعيل يس على كتفي بعدما خرج من الفيلم المُذاع: “انت يا حضرة؟”. تركتها وفكرت بماذا أُلقِّبه وأنا أرد عليه بعدما علت وجهه تكشيرة بائسة: أستاذ إسماعيل؟! عم إسماعيل؟! خصوصًا وأنا أشعر نحوه بمودة هائلة منذ كنت طفلًا، إذ تصورت أنني لو كنت قابلته في أى وقت فإننا سنصير أصدقاءً منذ اللحظة الأولى للقاء، ثم قلت لنفسي إنه رآني فى موقف غريب يتنافى مع براءته المحببة؛ لذلك سأحاول أن أخاطبه بلهجة شبه رسميه عله يطمأن لي ويستجيب للكلام معي فقلت: 

– اتفضل يا إسماعيل بيه. 

عاد الضحك إلى وجهه وهو يسأل: 

– هو أنت حفيد هتلر؟! 

قلت ضاحكًا لأطرد توجسه مني: 

– أعوذ بالله.. إنه الكابوس وقوانينه كما تعرف يا فنان. 

كنت خجلًا لأنه خرج فى منتصف الحبكة تاركًا مشاهديه على جمر الترقب؛ ليشاركنا آلامنا التى لا نعرف لها سببًا، بل إنني نسيت لماذا كنت أعاقب الفتاة بهذه الطريقة الفظيعة دون أن يعترينى الندم. 

قلت له: 

– أنا لست شريرًا كما تعلم يا إسماعيل بيه. 

فقال وقد أقنعته كلماتي فيما يبدو: 

– عفارم عليك! حيث كدا بأه خش يا أخويا كمّل مكاني شوية فى الفيلم على ما أشرب السيجارة دي، وأنا قاعد أهو مع البنت أونسها. 

كانت فرصة لي؛ إذ سأدخل فيلمًا قديمًا.. سوف أنطبع فى الذاكرة على الفور فى أفلام الأبيض والأسود؛ لينسى الناس آثامي، وتنسى الفتاة ما كنت أنوي أن أفعله معها، وحين التفت لأشكره على منحي هذه الفرصة العظيمة وجدت مكان وجهه وجه الرئيس السابق وقد أشعل سيجارة وهو يجلس على كرسي الأنتريه.. 

– تولع؟! مدلي سيجارة ثانية كانت بيده. 

– لا. قلتها بحسم، وأنا آمره أن يغادر فورًا كي لا يعلم الناس بوجوده فيأتون ويكسرون جدران المنزل؛ فأتأذى ويتأذى. قال لي: 

– ما أنت كنت بتولع فى البنت دلوقتي؟! 

قلت إن قانون الأحلام هو ما فرض علي فعل أشياء شريرة لا يمكن أن أفعلها فى الواقع، ولا بد أني سأندم حين أستيقظ. ضحك ضحكة كبيرة تناسل منها بحر من الدخان الهائج الذى تشكلت منه سلالات مشوهة من البشر وقد ملأ صراخهم المستغيث كل مكان بالشقة، حاولت النجاة من مئات الأقدام التى تهرول فى كل اتجاه وتسحق رأسي في تحول غريب من الحلم إلى واقع شديد العدوان والشراسة واللامبالاة، بينما فتاتي، الأمل الأخير والمنطق الوحيد الراسخ فى كل ما حولي، تستكين بجواره، وتبحلق فى رأسه، أسعى لأنتشلها من يده فلا تقابلني سوى ضحكته الدخانية الكبيرة كالأمواج السوداء الهادرة التى تلتف حولي وتشدنى لدوامات القاع، وقلبى يضج بالرعب.

 ________________________________

قاص من مصر

 

الصورة من أعمال الفنان المصري عاطف أحمد. 

زوروا موقعه www.atefahmed.com للتعرف أكثر على تجربته المميزة.

*****

خاص بأوكسجين