حينما كانت في السابعة عشرة من عمرها، سُئلتْ الروائية الآيرلندية ايريس ميردوخ (1919 – 1999) عما تنوي أن تفعله في حياتها، فأجابت بكلمة واحدة: سأكتب، ثمّ انقضت ستّة عقود حتى أصيبت ميردوخ بمرض الألزهايمر، فقالت: “انتهيتُ من الكتابة.”
لم تكن حياة ايريس ميردوخ سوى رحلة كتابة طويلة، قطعتها بعزيمة صلبة لا تفتر، مستخدمةً على الدوام قلم “مون بلان” كما صرّحت في إحدى رسائلها. أسفرَتْ هذه الرحلة عن ست وعشرين رواية، وعدد هائل مِن المقالات الأدبية والفلسفية، بالإضافة إلى طوفان هادر من الرسائل. لـم تسلَـم ميردوخ من غواية الرسائل، حيث اعتادت ميردوخ بحسب سيرتها الذاتية، الإجابة عن جميع الرسائل الواردة إليها، اللهم إلا إذا كان المُرسِـل مراهقًا تافهًا أو متطفّلا. يُـرجـع دارسو ميردوخ عشقها لقراءة الرسائل وكتابتها إلى أسباب عدة؛ أولها انتماء ميردوخ إلى جيل كلاسيكي كانت الكتابة بخطّ اليدّ بالنسبة إليه بمنزلة الماء والهواء؛ حاجة أساسية لا يُمكن الاستغناء عنه. والسبب الثاني هو نمط حياتها الأكاديمي الصارم. قالت ميردوخ يومًا إنها تظنّ أنها الوحيدة التي كانت تعيش مع زوجها جنوب انجلترا من دون جهاز تليفزيون.
في المقدمة التي كتبتها آرفل هورنير بالاشتراك مع آن روي لكتاب “العيش على الأوراق: رسائل أيريس ميردوخ 1934-1995، (دار جامعة برنستون للنشر – 2016)، تشير المحرّرتان إلى أن ميردوخ كانت تستقطع أربع ساعات يوميًا من وقتها لقراءة الرسائل الواردة إليها والردّ عليها، بل أنّها كانت تخصّص أحيانًا أيامًا بعينها، تنقطع فيها لقراءة الرسائل والردّ عليها. لم تعتبر ميردوخ ذلك إهدارًا لوقتها، بل تهيئةً لرحلة الجلوس الطويلة إلى المكتب للتفرّغ للكتابة. تُخبر ميرودخ صديقتها القديمة الفيلسوفة البريطانية فيليبا فوت: “..يمكنني أن أعيش على الأوراق”. عنوان الكتاب مأخوذٌ من رسالة تعود لسنة 1946 إلى صديقها السابق ديفيد هِكس، تقول فيها: “..للكلمات أهمّية بالغة عندي لدرجة أنني أعيش على الورق..”.
الكتاب هـو أول عمل يضمّ مختارات من رسائل ميردوخ التي تُعرض على القراء للمرّة الأولى. يحكي الكتاب أسرارًا كثيرة تتّصل بالحياة الشخصية للروائية وأستاذة الفلسفة، فضلًا عن علاقاتها المتعدّدة، التي لم تقتصر على محيط الأصدقاء والتلامذة فحسب، بل امتدّت لتشمل كُــتّــابًا مشهورين مثل الألماني إلياس كانيتي ورايموند كوينو وغيرهم بحسب مقدمة هورنير وروي. الكتاب مُقسَّم إلى فصول مرتبّة ترتيبًا زمنيًا دقيقًا، ويسبق كل فصل مقدمة بيد المحرّرتيْن.
تقول محرّرتا الكتاب في المقدمة:”…على عكس السير الذاتية التي ترسم بورتريهات شخصية مـتـماسكة لشخوصها، تقدّم الرسائل صورة مغايرة لمؤلّفها؛ الأمر أشبه بصورة يراها شخصٌ ينظر إلى المؤلف مِن خلال أنبوب يحوي خرزًا ملونًا، فيؤدي القارئ دور المتفرج الذي ينظر من أحد أطراف الأنبوب، بينما يدخل الضوء من الطرف الآخر، مـنـعـكساً على الخرز الملوَّن، فيخلق صورًا مختلفة متباينة لشيء واحد.”
تضيف المحرّرتان: “.. في نمط الرسائل يجيب المؤّلف على أشخاص مختلفين بإجابات مختلفة عن سؤالٍ واحد وفي يومٍ واحد. إلى أيّ حد يكشف ذلك عن شخصية الروائي..؟..الحقيقة أنّ ميردوخ كانت مِن ذلك النوع، تكشف عن أشياء من حياتها، وتظهر أخرى، تُـفـشي أسرارًا وتُخفي أخرى.”
لغة الرسائل ومضمونها يتّسمان بالتنوع الشديد؛ ضحك ولعب وجد وحـب ممزوج بـقـطرات فلسفية مركّزة، لغة شاعرية حسّاسة أحيانًا، وأخرى صارمة مختزلة أحيانًا أخرى. في حالة ميردوخ، تكشف رسائلها المنشورة عن شخصيّة مختلفة عما أظهرته؛ عن كاتبة هائمة بـحـبّ الآخر والاقتراب منه رغم لـزوم العزلة، وعن رغبتها في العيش على حافّة المجتمع غير المتقبّل لنمط حياتها الشخصية الصادم، وعن حِـسّها المُفعم بروح الدُعابة رغم صرامة رواياتها.
الطريف أنّ الرسائل جميعها مكتوبة بحميمية شديدة، أيًا مَن كان المُخاطب. تقول ميردوخ في إحدي الرسائل:”..لو أنني وددتُ كتابة خطابٍ إلى مدير البنك الذي أملك فيه حسابًا، فلن يمكنني كتابة خطابٍ عادي.. لأن عملية كتابة الرسالة بالنسبة لي جزءٌ من الوجود الإنساني كلّه، مضيفة: “..لا أكتب الرسائل كي أترك شيئًا للأجيال القادمة، بل أكتب لأوطّد أواصر الصداقة مع معارفي وأصدقائي وزملائي، أكتب الرسائل بشغفٍ كي أواصل الحياة، إذ لا يمكنني وضع حدود فاصلة بين الحب والصداقة، ولا بين الصداقة والجنس.”
يلاحظ قارىء رسائل ميردوخ أيضًا أنّ الكتاب لا يضمّ رسائل عادية مع أصدقاء وعشّاق، بل سيكتشف أن الكاتبة قد كرّست حياتها تكريسًا مُطلقًا لمحوريْن رئيسين، وهما الكتابة والصداقة؛ فلا كتابة من دون حـب، ولا حب من دون كتابة. وهما محوران يصيبهما الصدأ أحيانًا، والعطب أحيانًا أخرى، وسقوط البعض من الحسابات في معظم الأحيان. ولا بدّ من تدوين ذلك، ربما كـنـوع من التذكـرة.
تتحوّل الرسائل بهذا المعنى إلى دفتر يوميات يسجّل الانتصارات والهزائم، السقوط في اليأس والنهوض لمواجهة الحياة. كما سيُـلاحظ أيضًا – استنادًا إلى محرّرتي الكتاب- إلى أنّ أغلب رسائل ميردوخ غير مكتملة، فبعضها مكّون من شذرات أو فقرات تُركَ معناها للمُرسَـل إليه. في إحدى رسائلها تصف ميردوخ الحياة بأنّها ..”اتفاقٌ قاسٍ مُبرم على شرط عدم الاكتمال.”
لم تتوقّف ميردوخ يومًا في حواراتها عن ترديد مقولة اختلاق الشخصيات الروائية من “اللا شيء”، حيث قالت في حوارٍ نقلته إلى العربية الأستاذة لطيفة الديلمي (فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة – المدى 2016): “..أجلس وأنتظرهم فحسب، أمقت كثيرًا فكرة ضـخّ شخصيات حقيقية في جسد الرواية، ليس بسبب أن ذلك سيكون موضع تساؤل أخلاقي لكن لكونه مملًا أيضًا كما أرى.”
لكن الرسائل المنشورة مؤخـرًا تكشف – وهو الجانب الأهمّ في تقديري- إلى أي حدّ كانت الروائية الكبيرة تـوظّف تفاصيل من حياتها الشخصية داخل عالمها الروائي، رغم نفيها ذلك على الدوام، ورغم تأكيدها أنّ كل شخصياتها الروائية محض خيال، ولا علاقة لها بالواقع. نرى ذلك بوضوح في روايتها الأضخم، الحائزة على البوكر سنة 1979، أقصد رواية “البحر..البحر” (دار الآداب 1991 – ترجمة فؤاد كامل)، حيث توظّف ميردوخ تقنية الرسائل توظيفًا جيدًا في الكشف عن ملامح شخصية البطل تشالرز آروباي، المخرج المسرحي، الذي يدوّن مذكراته في منزل منعزل على البحر، ويتبادل الرسائل مع عشيقات الماضي البعيد، ليكتشف قارئ الرواية أنّ رسائل آروباي كانت دائمًا أبلغ من الحكيّ وأكثر صدقًا.
كتابة الرسائل لا تعرف المسافة الزمنية بين المتذّكَّر والمكتوب مثل الرويات، لذلك هي أقرب لفهم روح الكاتب، الذي يكتبُ لمقّربين لا يخشى البوح أمامهم خشية أن يكتشفوا حقيقته، أو أن ينفِروا منه.
ربما هذا هو المعنى الذي كان يقصده فرانتس كافكا في رسائل إلى ميلينا ( الدار الأهلية للنشر 2017- ترجمة هبة حمدان) بقوله: لا أستطيع أبدًا الكشف في قصصي للناس عما فى داخلي بشكل كافٍ، حتى لا يبتعدوا عني هلعًا ورعـبًا.”
*****
خاص بأوكسجين