إنها تُثلِج في قرية غرينتش
العدد 164 | 31 كانون الأول 2014
جون أبديك/ ترجمة: أسامة منزلجي


  كان الزوجان ميبل قد انتقلا في اليوم السابق إلى شارع ويست ثيرتين، وفي تلك الأمسية جاءت ريبيكا كيون لزيارتهما، لأنهم أصبحوا متقاربين جداً. كانت فتاة ممشوقة القامة، دائماً ترسم ابتسامة خفيفة وصاحبة سلوك شارد، سمحت لريتشارد ميبل بأنْ ينزع عنها معطفها ووشاحها حتى وهي واقفة تُحيي جون بلطف. وريتشارد، الذي يتحرك بدقّة وكياسة زائدتين بسبب السلاسة التي يُدار بها العمل – وعلى الرغم من أنه وجون متزوجان منذ أكثر من عام، كان لا يزال يبدو شاباً بحيث أنْ الناس لم يكونوا غريزياً يُسندون إليه واجبات الضيافة؛ وتردّدهم هذا كان يخلق عنده تردّداً مُماثلاً، بحيث أنَّ زوجته كانت غالباً ما تقوم بصبّ المشروبات، بينما يتمدد هو على الأريكة وكأنه الضيف المُفضّل والمُستمتع كل الاستمتاع – ودخل غرفة النوم المُظلمة وأودِعها ملابس ريبيكا، ثم عاد إلى غرفة الجلوس. بدا معطفها كأنه بلا وزن. 

   قالت ريبيكا، التي جلستْ تحت المصباح، على الأرض، ودسّتْ إحدى ساقيها تحت الأخرى، ووضعتْ إحدى ذراعيها عالياً على ستارة السرير التي لم تكن قد أُزيلت من بقايا القاطنين السابقين، “في الواقع كنتُ أعرفها، فقط لمدة يوم علّمتني خلاله المهنة، لكنني قلت لا بأس. كنتُ أُقيم في مكان فظيع يُدعى فندق السيدات. كانوا يضعون في الأروقة آلات كاتبة توضع فيها أرباع الدولار”

   أسندتْ جون ظهرها باستقامة على كرسي يُشبه كرسي المخرج هيتشكوك جلبته من منزل والديها في فيرمونت، وفي يدها كوّرتْ منديلاً رطباً، والتفتت إلى ريتشارد وشرحت، “قبل أنْ تقطن في شقّتها الحاليّة، أقامت بيكي مع هذه الفتاة وصديقها”

   قالت ريبيكا “نعم، وكان اسمه جاك”

   سأل ريتشارد، “أقمتِ معهما؟”. كانت السِمة الماكرة لنبرة صوته هي من بقايا المزاج الذي أثاره التخلُّص الناجح، في غرفة النوم المظلمة، والصائب نوعاً ما، من معطف ضيفتهما.

   “نعم، وأصرَّ على كتابة اسمه على صندوق البريد. كان يخاف كثيراً أنْ تفوته رسالة واحدة. وعندما كان أخي في سلاح البحرية وجاء لزيارتي ورأى مكتوباً على صندوق البريد” – وبثلاث حركات متوازية من أصابعها رسمت الأسماء واحداً فوق آخر –

“جورج كلايد،

ريبيكا كيون،

جاك زيمرمان،

قال لي إنني لطالما كنتُ فتاة لطيفة. ورفض جاك حتى أنْ ينتقل ليُفسِح لأخي مكاناً ينام فيه، واضطرَّ إلى النوم على الأرض”. وخفّضت عينيها لتفتش عن سيجارة داخل كيس نقودها.

   قالت جون، مع ابتسامة تتّسع رُغماً عنها مع إدراكها مدى جنون ما تقول، “أليس هذا رائعاً؟”. أقلقتْ برودتها ريتشارد. استمرَّ الوضع أسبوعاً دون تغيير. كان وجهها شاحباً، مُبرقشاً باللونين الوردي والأصفر ؛ وهذا أكَّدَ على السِمة الموديليانيّة   التي رسّخها عنقها الطويل وعيناها الزرقاوان البيضاوان وعادتها في الجلوس بكل وزنها، ورأسها يميل بصورة هزلية وراحتا يديها باتجاه الأسفل على حجرها. 

   ريبيكا، أيضاً، كانت شاحبة، ولكن ربما بأسلوب الرسم المتماسِك للوحة – أوحى به ثقل جفنيها وسِمة فنيّة جميلة في فمها – رسمها دا فنتشي. 

   سأل ريتشارد بصوت عميق، من مكان وقوفه، “مَنْ يرغب في شرب بعض الشيري؟”

   قالت جون لريبيكا “لدينا شيئاً أقوى إذا كنتِ تفضلين”؛ من وِجهة نظر ريتشارد كانت هذه الملاحظة، الشبيهة بتلك الإعلانات التي يمكن قراءتها بصورة مختلفة من زوايا متنوعة، تتضمَّن إعلاناً شديد الوضوح بأنَّ هذه المرة هو الذي سيقوم بمزج المشروبات.

   قالت ريبيكا “لا بأس بالشيري”. لفظتْ الكلمات بوضوح، ولكن بصوت رفيع، واه، يُعفيهما من أية عاقبة.

   قالت جون “هذا رأيي، ايضاً”

   “عظيم”، إذن الكلّ يشتركون في تلك الدراما، وفتح ريتشارد زجاجة “تيو بيبي” في غرفة الجلوس. ملأ ثلاثة كؤوس وهو يتخذ وضعية معيَّنة، ووزّعها عليهم، ثم اتّكأ على رف المدفأة (لم يحدث قبل ذلك أنْ كان لدى الزوجين ميبل رف مدفأة) إلى أنْ قالت زوجته، كما تفعل دائماً، لأنه النخب التقليدي الذي يشربونه في منزل والديها “في صحتكم، يا أعزائي !”

   استأنفتْ ريبيكا قصة شقّتها الأولى. إنَّ جاك لم يكن يعمل أبداً.وجورجين لم تكن تستمر في أية وظيفة أكثر من ثلاثة أسابيع. وكان الثلاثة يُساهمون في صندوق إعانات، يستفيدون منه كلهم بالتساوي. وكانت لريبيكا غرفة نوم منفصلة. وكان جاك وجورجين يعملان معاً على كتابة سيناريوهات للتلفزيون؛ كانا يُعلقان آمالهما كلها على برنامج مُسلسل عنوانه “الـ IBI” ويدور حول ما بين المجرات، ما بين الكواكب، أو ما شابه – في المسافة والزمن. وأحد أصدقائهما كان شاباً شيوعياً لا يغتسل أبداً ودائماً يتوفّر لديه المال لأنَّ والده كان يمتلك نصف منطقة ويست سايد. وفي أثناء النهار، عندما تكون الفتاتان في مركز عملهما، كان جاك يُغازل سويدية شابة في الطابق العلوي كانت دائماً تُسقِطُ ممسحتها على الشُرفة الداخلية خارج نافذتهم. قالت ريبيكا ” كانت دقيقة في إصابتها “. وعندما انتقلتْ ريبيكا إلى شقّة خاصة بها واستقرت الأمور وأصبحت على ما يُرام، عرضَ جاك وجورجين أنْ يُحضرا فراشاً ليناما على أرضها. لكنَّ ريبيكا شعرتْ بأنَّ الوقت قد حان لتتخذ قرارها الحازم. فرفضتْ. ولاحقاً تزوج جاك من فتاة أخرى غير جورجين.

   قال ريتشارد “أيرغب أحد بالكاجو؟”. كان ريتشارد قد أحضر علبة منه من محل لبيع المعلبات عند الزاوية، خصيصاً لهذه الزيارة على الرغم من أنه لو لم تكن ريبيكا ستأتي، لابتاع شيئاً آخر بعذر آخر، لمجرد متعة شراء أول شيء من ذلك المتجر الذي سوف يشتري منه أشياء كثيرة في الأعوام القادمة.

   قالت ريبيكا “كلا، شكراً لك”. لم يكن ريتشارد يتوقّع الرفض على الإطلاق إلى درجة أنه بدافع من زخم ألحّ عليها من جديد، هاتفاً، “أرجوك ! إنها مفيدة كثيراً لك”، فتناولت ثمرتين منها وقسمت واحدة إلى نصفين.

   قدَّم الطبق – عبارة عن قصعة فضيّة قُدِّمتْ لآل ميبل كهدية زواج ولم يستعملاها حتى الأمس القريب، بسبب عدم توفّر حيِّز لها – لزوجته، التي تناولت حفنة نهمة وبدت شديدة الشحوب حتى أنه سألها، “كيف تشعرين؟”- دون أنْ ينسى حضور ضيفتهما وهو يُبدي قلقه، الصادق تماماً، أمامها.

   قالت جون بانفعال “أنا بخير”، ولعلها كانت كذلك.

   على الرغم من أنَّ الزوجين ميبل قصّا بعض الحكايات – عن كيف أقاما في كوخ من زنود الخشب في مخيَّم على جزيرة وسط بحيرة وينبيسوكي خلال الأشهر الثلاثة الأولى من حياتهما الزوجية، وكيف أصابهما صفير قارب البريد الذي حملهما إلى هناك بالصمم على مدى أيام، وكيف كانت بيتسي فلانر، صديقتهما المشتركة، الفتاة الوحيدة المُسجّلة في مدرسة بنتام ديفينيتي، وكيف كانت الشركة التي يعمل ريتشارد لصالحها تفكّر في فتح مكتب لها في بوسطن – إلا أنهما لم يعتبرا نفسيهما (أي، كل منهما الآخر) راوية، وهيمن صوت ريبيكا الضعيف على الحديث. لقد كانت موهوبة في الأشياء الغريبة. 

   كان عمّها الثري يعيش في منزل من المعدن، مفروش بكراسي قاعات الاجتماعات. وكان يخاف كثيراً النار. وقُبيل فترة الكساد الاقتصادي كان قد بنى قارباً ضخماً ليحمله مع بعض الأصدقاء إلى بولينيزيا. وخسر أصدقاؤه كلهم أموالهم في انهيار البورصة. أما هو فلم يخسر. كان يكسب المال، كان يكسب المال من كل شيء.لكنه لم يستطع أنْ يقوم بالرحلة وحده، لذلك كان القارب لا يزال ينتظر في مرفأ أويستر، ضخماً ينهضُ ثلاثين قدماً من الماء. وكان العم نباتياً. ولم تأكل ريبيكا لحم ديك الحبش في عيد الشُكر إلا بعد أنْ بلغت الثالثة عشرة من عمرها لأنه كان من عادة العائلة أنْ تذهب إلى منزل العم في يوم العطلة ذاك. ونخلّوا عن تلك العادة في أثناء الحرب، عندما كانت أعقاب أحذية الأطفال الاصطناعية تترك آثاراً على أرضية العم المصنوعة من الأسبستوس. ومنذ ذلك الحين والعائلة تُقاطع العم. قالت ريبيكا ” نعم، وما أثار غيطي هو أنَّ كل موجة من الخضروات كانت تأتي وكأنها صنف مختلف من الطعام”

   صبَّ ريتشارد جولة أخرى من الشيري، لأنَّ ذلك جعله يشعر بأنه مركز الانتباه في كل الأحوال، قال، “أليس لدى بعض النباتيين ديوك حبش مصنوعة من الجوز المسحوق يُقدمونها في عيد الشُكر؟”

   بعد فترة من الصمت، قالت جون “لا أعلم”. كان صوتها، الذي لم تستخدمه على مدى عشر دقائق، قد انكسر في المقطع الأخير. فتنحنحت، ساحقاً قلب ريتشارد.

   سألت ريبيكا، وهي تُسقِطُ رماد السيجارة في منفضة إلى جوارها. 

 

   خارج النافذة وأسفلها سُمع ضجيج قعقعة. كانت جون هي أول الواصلين إلى النافذة، ثم ريتشارد، وأخيراً ريبيكا، واقفة على أطراف أصابع قدميها، مادّة عنقها. كان ستة من رجال الشرطة الراكبين، يخبّون، واقفين على ركابهم، جنباً إلى جنب في الشارع الثالث عشر. وبعد أنْ خفتت عبارات الدهشة الصادرة عن آل ميبل، علّقت ريبيكا، “إنهم يفعلون ذلك في كل ليلة في مثل هذا الوقت. إنهم يبدون مرحين جداً، بالنسبة إلى رجال شرطة”

   هتفت جون “أوه، والثلج يهطل أيضاً!”. كانت ردّة فعلها حيال الثلج مُثيرة للشفقة؛ كانت تحبه كثيراً، وخلال السنوات الأخيرة  لم ترَ منه إلا القليل. “في ليلتنا الأولى هنا ! ليلتنا الحقيقية الأولى”. عانقتْ ريتشارد، ناسية نفسها، وأي ضيف آخر كان سيُشيح بوجهه، أو يرسم ابتسامة عريضة، أما ريبيكا فظلتْ تنظر، مُشجّعة ذلك بشكل مُغال، دون أنْ تزيح نظرتها العذبة، الشاردة، وقامت بالتدقيق، من خلال الزوج المتعانق، في المشهد الممتد في الخارج. لم يكن الثلج يصل إلى الشارع المُبلل ؛ بل فقط يتراكم على أعالي السيارات المتوقفة وقممها.

   قالت ريبيكا “أعتقد أنَّه يُستحسَن أنْ أغادر”

   قالت جون بإلحاح لم يتوقّعه ريتشارد “أرجوك، لا تذهبي”؛ كان جلياً أنها شديدة التعب. لعلَّ المنزل الجديد، وتغيُّر الطقس، والشيري الطيب، وفيوض الحب المتدفقة بينها وبين زوجها التي جدّدها عناقها المُفاجئ، وحضور ريبيكا شكّل في ذهنها العناصر المعقّدة لبرهة فاتنة من الزمن.

   “نعم، أعتقد أنني سأرحل لأنك مُصابة بالزكام وشاحبة” 

   “ألا تستطيعين أنْ تمكثي قليلاً لتدخين سيجارة أخرى؟ ديك، صُبّ لنا شيري”

   قالت ريبيكا، وهي تقدِّم كأسها، “فقط جرعة صغيرة. أعتقد أنني أخبرتكِ يا جون عن الشاب الذي خرجتُ معه وادّعى أنه رئيس نُدُل”

   قهقهت جون بترقُّب “كلا، صدقاً، لم تُخبريني أبداً” ووضعت ذراعها فوق ظهر الكرسي وشبكت أصابعها بالأضلاع، كطفلة مُطمئنة إلى أنَّ وفقت إيوائها إلى النوم قد أُرجئ. “ماذا فعل؟ هل قلَّد رؤساء النُدُل؟”

   “نعم، لقد كان من النوع الذي، عندما يترجل من سيارة أُجرة، وينبعث البخار من خلال القضبان، يجثم على الأرض” – وخفضتْ ريبيكا رأسها ورفعت ذراعيها – “ويتظاهر بأنه الشيطان”

   ضحك الثنائي ميبل، ليس على الكلمات نفسها بل على الطريقة التي أبرزت بها الموقف بنقلها، بتقليدها الضعيف، وضعية مُرافقها المُبالَغ فيها وطبيعتها الخاصة المُتحفّظة. وتخيلاها وهي واقفة بجوار باب سيارة الأجرة، تحدّقُ بوجه خال من التعبير إلى مُرافقها وهو ينحني أكثر فأكثر، منفعلاً بمُزاحه الخاص، وأصابعه تتلوّى بحركة شيطانية وهو يتحسّس قرنيه الناتئين من رأسه، وألسنة اللهب تلعقُ كاحليه، وقدماه تنكمشان وتتحولان إلى حوافر. أدرك ريتشاردز أنَّ موهبة ريبيكا لا تكمن في أنَّ أحداثاً غريبة تقع لها بل في أنها تجعل، من خلال التناقُض الضمني مع هدوئها العاقل، كل ما يُلامسها شيئاً غريباً. وهذه الأمسية أيضاً قد تبدو غريبة تروي من جديد: “خبَّ ثلاثة من رجال الشرطة الراكبين مارّين وهتفت “إنها تُثلج!” وعانقته. وظل يُخبرها كم كانت مريضة ويملأنا حتى الزُبى بالشيري”

   سألتْ جون “وماذا فعل أيضاً؟”

   “في المكان الأول الذي ذهبنا إليه – وكان نادياً ليلياً كبيراً يقع على سطح مكان ما – في طريق خروجنا منه جلس وعزفَ على البيانو إلى أنْ طلبتْ منه عازفة هارب أنْ يكفّ “

   سألها ريتشارد ” أكانت المرأة تعزف على آلة الهارب؟”

   ” نعم، كانت تعزف “،  وقامت ريبيكا بأداء حركات دائرية بيديها.

   “حسنٌ، أكان يعزف اللحن الذي كانت تعزف؟ هل رافقها؟ “، وأدرك ريتشارد دون أنْ يفهم السبب أنَّ الوقاحة لامست نبرة صوته.

   ” كلا، هو فقط جلس وعزف لحناً آخر. لم أعرف ما هو “

   سألتْ جون، تحثّها، ” أحقّاً هذا ما حدث؟ “

   ” ومن ثم في المكان التالي الذي ارتدنا، اضطررنا إلى الانتظار على باب الحانة ريثما تخلو إحدى الطاولات وتلفّتُ حولي وقام هو بالتجوال بين الطاولات ويسأل الناس إنْ كان كل شيء على ما يُرام “

   سألتْ جون ” ألم يكن ذلك فظيعاً؟ “

   ” نعم، ولاحقاً عزف على البيانو هناك، أيضاً. وأصبحنا مركز انتباه. ومع حلول منتصف الليل رأى أنْ ننتقل إلى بروكلين حيثُ منزل أخته. كنتُ مُرهقة. ترجلنا من القطار النفقي قبل أنْ يتوقف بدرجتين، تحت جسر مانهاتن. كان مُقفِراً، لم تمرّ بنا إلا سيارة ليموزين سوداء. وفوق رؤوسنا بأميال ” – وهمّتْ بالنهوض، كأنما على سحابة، أو الشمس  – ” كان جسر مانهاتن وظل يُكرر قائلاً إنه فرع لام. وأخيراً عثرنا على درج وعلى رجليّ شرطة أمرانا أنْ نعود إلى النفق “

   سأل ريتشارد ” ماذا يعمل هذا الرجل المُذهل لكسب لقمة عيشه؟ “

   ” إنه أستاذ مدرسة. إنه شديد الذكاء “. نهضتْ واقفة، مادة ذراعاً طويلة، بيضاء فضيّة. أحضر ريتشارد لها معطفها قائلاً إنه سوف يرافقها إلى المنزل. احتجّتْ ريبيكا بصوتٍ خالٍ من أي تغيُّر ثابت، ” إنه لا يبعد كثيراً عن هنا “

   قالتْ جون “يجب أنْ ترافقها إلى المنزل، ديك. خُذ معك علبة سجائر “. كانت تسعدها فكرة سيره في الثلوج، وكأنها تتوقّع كيف سيجلب معه، بما تراكم على كتفيه من ثلج وبرودة وجهه، كل روعة السير التي لم تكن في صحة تامة لخوض مغامرتها.

   أخبرها “يجب أنْ تتوقفي عن التدخين مدة يوم أو يومين “

   لوّحتْ لهما جون بيدها مودّعة من أعلى الدَرَج.

 

   مارس الثلج، غير المرئي إلا حول أعمدة النور في الشارع، ضغطاً رومانسياً مُرفرِفاً على وجوهيهما. قال ” أصبح الهطل غزيراً الآن “

   ” نعم “

   عند المنعطف، حيث أضفى الثلج على الضوء الأخضر زُرقة مائيّة، دفعه تردّدها في اللحاق به وهو ينعطف ليسير على هدى الضوء عبر الشارع الثالث عشر إلى أنْ يقول، ” أنتِ تُقيمين في هذا الجانب من الشارع، أليس كذلك؟ “

   ” نعم “

   ” لقد تذكّرته من تلك المرة التي أوصلناك فيها من بوسطن “. كان آل ميبل حينئذٍ يُقيمان في الويست إيتيز. ” أتذكّر أنَّ الأبنية كانت ضخمة “

   قالت ريبيكا ” الكنيسة ومدرسة اللحامين. في كل يوم عند حوالي العاشرة وأنا في طريقي إلى العمل يخرج الفتية الذين يتعلمون ليُصبحوا لحّامين في فترة استراحة مُلطّخين بالدماء ويضحكون ” 

   رفع ريتشارد نظره إلى الكنيسة ؛ كانت صورة برجها الجانبية تظهر بصورة متقطعة على النوافذ المُضاءة المبعثرة لمبنى شامخ مُحسَّن في الجادة السابعة. قال ” مسكينة الكنيسة. من الصعب على برج كنيسة في هذه المدينة أنْ يكون الأطول “

   لم تقُل ريبيكا شيئاً، ولا حتى كلمتها المعتادة ” نعم “.وشعر بأنها توبخه لأنه يُلقي المواعظ. ووسط إحساسه بالحرج وجَّه انتباهها إلى أول شيء جديد تال شاهده، إلى لافتة مكتوبة بشكل رديء فوق باب كبير. قرأها بصوت مرتفع ” المدرسة الثانوية المهنية لتجارة الأطعمة. لقد أخبرنا ساكنو الطابق العلوي أنَّ الرجل قبل الرجل الذي سكن شقتنا قبلنا كان بائع لحم بالجملة يُسمّي نفسه متعهّد أطعمة فاخرة. وكان يأوي امرأة في شقّته “

   قالت ريبيكا، وهي تشير إلى الطابق الثالث من مبنى بنيّ اللون، ” توجد نوافذ كبيرة فوق، تواجه نوافذي على الطرف المقابل من الشارع. أستطيع أنْ أنظر وأشعر بأننا جيران. يوجد دائماً شخصٌ هناك ؛ لا أعلم كيف يكسبون لقمة عيشهم “

   بعد بضع خطوات أخرى توقفا، وقالت ريبيكا، بصوتٍ تخيّلَ ريتشارد أنه أكثر ارتفاعاً بقليل من الصوت العادي، ” هل ترغب في الصعود لترى مكان سكني؟ ” 

   ” طبعاً “. بدا أنَّ من غير المُحتمَل أنْ أرفض.

   هبطا أربع درجات من الإسمنت، وفتحت باباً بالياً برتقاليّ اللون، وولجا بهواً لطابق تحت أرضي شديد الحرارة، وبدءا بارتقاء ثلاثة مطالع من الدَرَج الخشبي. تحول شك ريتشارد وهو في الشارع في أنه يتعدّى على الحدائق العامة دون إذن إلى إحساس بالذنب.إنَّ تجربة صعود الدرج خلف مؤخرة امرأة لا تعادلها إلا القليل من التجارب في مذاقها وعدم شرعيتها. قبل ثلاث سنوات، كانت جون تقيم في الطابق الرابع من دون مصعد، في كمبريدج. ولم يكن ريتشارد يصطحبها إلى منزلها، حتى بعد أنْ أصبحت علاقتهما، بكل تفاصيلها الحميمة، رسمية، من دون أنْ يخشى أنْ تقفز صاحبة المنزل، الحانقة بشكل مُبرَّر، من باب بيته وتلتهمه في أثناء مرورهما.

   فتحت ريبيكا بابها وقالت ” الجو حار خانق هنا ” وسمعها تسب للمرة الأولى. أنارت مصباحاً ضعيف الإضاءة. كانت الغرفة صغيرة ؛ الأسطح منحدرة، وتقع في الجانب السفلي من سطح المبنى، من تقاطع السقف مع الجدران، تقطع فضاءات موشورية من مساحة سكن ريبيكا. وبينما كان يتقدم أكثر باتجاه ريبيكا، التي لم تكن قد خلعت معطفها، لاحظ ريتشارد وجود منطقة غير متوقعة، إلى يمينه، تقع حيث يمتد السقف شديد الانحدار حتى الأرض. هنا وُضِعَ سرير مزدوج مُقيَّد بإحكام من ثلاث جهات، لم يبدُ أنه قطعة أثاث بل كأنه منصّة دائمة، مغطاة بملاءة. أزاح عينيه عنه بسرعة، ولأنه لم يتمكن من مواجهة ريبيكا في الحال، حدَّقَ إلى اثنين من كراسي المطبخ، وإلى مصباح جسر معدني على حافة ظلّته سمكة بدينة ودفة مركب على التناوب، وإلى خزانة كتب من الخشب والآجر – هذه الأشياء كلها، القريبة من السقف المائل، توحي بوضع شاقولي مُهدَّد.

   قالت ريبيكا ” نعم، ها هي المدفأة التي أخبرتك عنها في أعلى الثلاجة، أم لم أخبرك؟ “

   كانت القطعة العليا تعلو المنخفضة ببضع بوصات من الجوانب كلها. لمس جانب المدفأة الأبيض بأصابعه. قال ” هذه الغرفة تبدو لطيفة جداً “

   قالت ” ها هو المشهد المُطلّ “. انتقل ليقف إلى جوارها عند النافذة، مُزيحاً الستائر ومُحدِّقاً من خلال عيوب صغيرة في ألواح الزجاج إلى الشقّة المقابلة عبر الشارع “

   قال ريتشارد ” إنَّ الرجل لديه نافذة كبيرة فعلاً ” 

   أصدرتْ همهمة قصيرة تدل على الموافقة. 

   على الرغم من أنْ المصابيح كلها كانت مُضاءة، إلا أنَّ الشقّة المقابلة كانت خالية. قال ” كأنها مخزن للأثاث “. لم تكن ريبيكا قد خلعتْ معطفها. ” الثلج يستمر في الهطل “

   ” نعم، هو ذاك “

   ” حسن ” – هذه الكلمة كانت عالية النبرة أكثر مما ينبغي ؛ وأكمل الجملة بنعومة مفرطة – ” شكراً لكِ لأنكِ سمحتِ لي بمشاهدتها. أنا – هل سبقَ أنْ قرأتِ هذا؟ ” كان قد لاحظ وجود نسخة من رواية ” عمتي ميم ”  على مسند القدمين.

   قالت ” لم يُتح لي الوقت لذلك “

   ” ولا أنا أُتيح لي أنْ اٌشاهدها. قرأتُ فقط ما قيل عنها. هذا كل ما قرأت “

   بهذا القول وصل إلى الباب. هناك، التفت بصورة سخيفة. كان قد قرّر، عند الباب بالضبط بعد تأمّل، أنَّ سلوكها من الصعب تفسيره : إذ ليس فقط وقفت شديدة القُرب منه بشكل لا داع له، بل إنها، بنقل ثقل جسمها من إحدى الساقين إلى الأخرى وإمالة رأسها جانباً، قلّلتْ من طولها بضع بوصات، واضعة إياه في موقف المُهيمَن عليه المناسب تماماً للظلال العريضة، السلبية، التي كانت تعلم أنها مرتسمة على وجهها.

   قال ” حسن… ” 

   ” حسنٌ “. ردّدت بعده في الحال وربما بلا معنى.

   ” لا تدعي، لا تدعي اللـ – اللحامين ينالون منكِ “. طبعاً التلعثُم أفسد النكتة، وضحكها، الذي بدأ حالما لاحظت من تعبير وجهه أنه سيحاول أنْ يقول شيئاً ظريفاً، استمر بعد أنْ انتهى من إلقائها.

   في أثناء هبوطه الدَرَج أراحت كلتا يديها على الدرابزين ونظرت باتجاه المطلع التالي. قالت ” تصبح على خير “

   رفع بصره ” تصبحين على خير ” ؛ كانت قد ولجت غرفتها. ولكن آه كم كانت ملتصقة به.  

 

__________________

من مجموعة قصصية للكاتب الأميركي جون أبديك (1932 – 2009) ” عشيقتك اتصلتْ بك “

 

الصورة من أعمال التشكيلي الفرنسي جورج رووه (1871 – 1958م)

*****

خاص بأوكسجين