كان اسم والد الشخصية الرئيسة في هذا الكتاب هو أومبيرتو. كان تاجراً من مدينة ليفورنو ويتاجر بالفاكهة المُسَكّرة. كان رجلاً بديناً قصير القامة ويبدو أقصر قامة بسبب ضخامة رأسه. ولعل حجم رأس أومبرتو غير العادي كان بالنسبة إلى النساء اللائي لا يخشين الثرثرة والرأي العام جذاباً. كان يوحي بالعناد، وبالنفوذ وبالشغف. وكانت معظم نساء طبقة التجار في مدينة ليفورنو أو بيزا جبانات. ونتيجة لذلك عُرِفَ بينهن بأنه غول. وكان يُكنّى بالـ ” La Bestia ” (الحيوان): وهي كلمة برّرتها اسمياً فظاظته، ونظرته الخبيثة وغطرسته، لكنها مع ذلك احتفظت باستعمالهن لها فقط بمقدار كاف من معناها الأكثر فجاجة من أجل أنْ تغذي وتقمع معاً مشاعر الانجذاب التي كن يشعرن بها نحوه في لا وعيهن. والجانب الهام من احترامهن له أنهن لم يكن ينعتنه بالـ “حيوان” أمام أزواجهن. فذلك النعت كان يُدّخر حصراً للاستعمال في الأحاديث النسائية في فترات العصر.
وزوجة أومبرتو، استر، كانت ابنة صحافي يهودي ليبرالي من ليفورنو. تزوجت من أومبرتو وهي في العشرين من العمر. وعارض أبوها ذلك الزواج لأنه اعتبر أنَّ أومبرتو رجل فظ وغير مثقف لكنه لم يرغب في أنْ يناقض مبادئه الليبرالية. وعندما بلغت سن الحادية والعشرين توفي والدها فجأة. وبدأ لغز صحتها الضعيفة يتكشف بعد وفاته وأرسى ذلك بالتدريج أُسس حق على مدى الحياة: الحق في أنْ تكون أقلّ حضوراً، الحق في أنْ تنسحب. وتراءى لأومبرتو أنه تزوج من شبح. (كانت الأشباح كلها، بالنسبة إليه، لها صِلة بالنساء وبميولهن الخارقة). وتراءى لها أنها تزوجت من حيوان – على الرغم من أنها في ذلك الحين لم تكن تعلم كيف كانت صديقاتها يصفن زوجها.
عاشت استر حياة اجتماعية كاملة في المدينة الريفية، فلم يكن يمضي بعد ظهيرة كل يوم إلا وتزور أو تُزار. ولم يكن أحد يرفض دعوتها إلى حفلات العشاء. كان سرها – الذي هو جزئياً سر نفوذ زوجها في ليفورنو – يكمن في مظهرها. كانت بشرتها شديدة الشحوب، وشعرها البنيّ الغامق تشدّه نحو الخلف بعيداً عن وجهها وعينيها بطيئتيّ الحركة والظلال الثقيلة من تحتهما. وكان وجهها وجسمها معاً شديديّ النحول، ومع ذلك لم يبد عليها أنها مريضة. إنَّ المرض يُبرِز عدم استقرار اللحم: هناك نوع من الحسيّة المُحزنة والمزعجة فيهما. لقد بدت استر رقيقة، وهشّة، وكأنها مصنوعة من مادة غير اللحم: مادة صُنعت وصُمّمت بصورة معقدة بحيث بدا أنه لا خطر من أنْ يطرأ عليها أي تغيير.
بالنسبة إلى حلقة صديقاتها ومعارفها في ليفورنو كانت طبيعة مظهر استر تدل على روحانية خارقة. فهي التي تفهم ما الذي يطمحن إليه، وهي التي تقدِّر أكثر من أي منهنّ الإيمان الديني، والجمال، وأشواق الروح، والمغفرة، والبراءة، وطاعة الأبناء، والحب. وإذا رغب ضيف في أنْ يُثير بكلامه روحانيّة تجربته، كان يلتفت نحوها لكي تؤكّد على كلامه؛ كانت تكفي إيماءة صغيرة منها، ولو حتى إطراق جفنيّ عينيها ببطء، ليجعله يشعر بأنَّ كلامه مفهوم وبالتالي أنه يقول الحق.
عندما تختلي النساء بها، كنّ يتكلّمن عن أنفسهن. وبكلامهن كن يعمدن إلى تقديم أنفسهن بصورة سيئة قدر الإمكان، لأنه كلما ظهرن بمظهر سيئ، أُتيحت لهن بعد ذلك فرصة أكبر عندما يحظين بموافقتها. كن يسعين إلى نيل استحسانها. وكن يفزن بها حالما ينتهين من الكلام. حينئذٍ يصبح جلياً لهن (وفي كل مرة تكون مفاجأة) أنه بما أنها أصغت إليهن بانتباه ولم تُدل بتعليق منتقد (وهذا ما لم تفعله أبداً)، فيجب أنْ تستحسن ما قمن به أو ما نوين على القيام به. كانت أشبه بكاهن تلقّي الاعتراف من جنسهن.
ما كان يمكن لأي شيء من هذا أنْ يحدث لولا زوجها ؛ فلولا أومبرتو، لاعتُقِدَ أنها قديسة، وليس فقط يبدو عليها ذلك. وكان ذلك سيقضي على مركزها الاجتماعي. كان يمكن أنْ تمثّل قيّماً روحانية معيَّنة، ولكن كان ينبغي أولاً وقبل أي شيء أنْ تمثلّهم، هم أعضاء الطبقة البورجوازية في ليفورنو. وبما أنها زوجة صانع حلويات مُسكّرة ناجح كانت مُخصَّصة لهنّ. وزيادة على ذلك، كانت زوجة رجل معروف بصعوبته في عقد الصفقات، وبسلوكه الخشن وبنهمه في الأكل. ونتيجة لذلك اعتقدن أنَّ من المستحيل ألا يكون العيش معه قد أفسدها بقدر معيَّن. وهذا الفساد، الذي لا يمكن أنْ يُفنَّد بالكامل، منع روحانيتها من أنْ تبدو مفرطة أو مُحرِجة.
أيضاً، كون استر زوجة أومبرتو أنقذه من أنْ يبدو مغرقاً في التطرُّف. فمن دونها، كان يمكن أنْ يُعتّبَر متهتكاً. ومعها، كان ممكناً الاعتقاد أنه قد رُوِّضَ.
*
كانت والدة البطل الأساسي امرأة في السادسة والعشرين اسمها الأول لورا ؛ أمها أميركية الجنسية، وأبوها، وهو ميت الآن، كان جنرالاً في الجيش البريطاني.
أكاد أرى لورا واستر، اللتان لم تتقابلا أبداً، تقفان جنباً إلى جنب كما لابد أنهما ظهرتا في وقت ما في ذهن أومبرتو. لورا قصيرة القامة ذات شعر غزير بعض الشيء وأنف أفطس قليلاً. بدت وهي إلى جوار استر أشبه بطفلة قصيرة وبدينة. لكنَّ هيئتها لم تكن في المُجمل جديرة بطفلة. ترتدي ملابس غالية مصنوعة بمهارة – لكنها ليست بوقار استر. كانت تُكثر من الكلام بصوت لحوح ؛ واستر تُصغي. وكانت يدا استر شديدتيّ النحول وحساستين ؛ أما يدا لورا فقصيرتين وبدينتين. عينا لورا كانتا بلون الكستناء وعندما تريد أنْ تعبّر عن عدم موافقتها تفتحهما واسعاً جداً. أما استر فعندما تعبر عن عدم موافقتها تغمض عينيها. إذا بوغتت استر وهي في الحمّام، “تجمد” في مكانها كما تفعل حيوانات برية معيَّنة وتلزم السكون التامّ؛ وإذا بوغتت لورا، تشدّ يديها فوق ثدييها، وتطوي جسمها وتصرخ.
كانت كل منهما تغار من الأخرى: لورا تغار لأن أومبرتو أطلع استر على ألبوم صور فوتوغرافية، ولأن استر تتصف بكل صفات الأنثى الطبيعية التي تفتقدها هي؛ واستر تغار منها لأنها تشك في أنَّ أومبرتو يُنفق أموالاً طائلة على عشيقته الأميركية.
كانت لورا قد تزوجت في نيويورك وهي في سن السابعة عشرة من مليونير يتاجر في النحاس؛ وبعد مرور عامين تركته وجاءت إلى أوروبا لتنضم إلى أمها في باريس. ثم قابلت أومبرتو، قبل ثلاث سنوات، وهما على متن سفينة مسافرين متوجهة إلى جنوا. تودّد أومبرتو إليها بإلحاح وإصرار لم تحلم بهما. لقد جعلها تشعر، كما كتبت لأمها تقول، كأنها كليوباترا. (كانت السفينة قادمة من مصر). وفي الحال أمضيا شهراً معاً في مدينة البندقية.
قالت لأمها، لقد أحضر مغنين لمرافقتنا ليلاً، وقفوا إلى جانبينا، ونحن في قارب الجندول. سوف تبقى هذه الذكرى في بالي دائماً. وألف نكات ممتعة عن يديه اللتين تشبهان سرطان البحر. سوف تحبينه ! هذا هو السبب في أنني لم أُحضره بعد إلى باريس ! إنَّ لديه أصدقاء في كل مكان وسوف يُقام حفل كان ينبغي أنْ نحضره هنا. وأراد أنْ يشتري لي ثوباً، ولكن، صدقي أو لا تصدقي، رفضته وقلت إنني أفضّل ألا أحضره. وبدل ذلك ذهبنا إلى جزيرة مورانو.
خلال السنوات الثلاث التي تلت قابلها في ميلانو، ونيس، وجنيف، ولوغانو، وكومو ومنتجعات أخرى، لكنه لم يسمح لها بالاقتراب من ليفورنو. وحين لا تكون معه، تعود إلى حلقة أمها الأميركية الثرية في باريس، حيث لم تعترف بأنَّ عشيقها الإيطالي كان يتاجر في الفاكهة المُسكّرة. وتلقّت دروساً في الغناء (إلى أنْ قررتْ، على الرغم من اعتراضات مُدرّسها، أنها لا تتمتع بأية موهبة) وصبّت اهتمامها على دراسة نظريات نيتشه.
عندما كان أومبرتو يصل ليُقابلها بعد فترة انفصال وحالما تراه يقترب، يخطر لها أنَّ علاقتهما مستحيلة. لقد كان افتقاره إلى الرهافة وتفاخره الريفي بمسائل المال يُشعِرها بالمهانة. وفي نيويورك، قالت لنفسها، إنه يصلح نادلاً في مطعم ما كانت هي ولا صديقاتها ليتنازلن ويلاحظن وجوده. ولكن بعد مرور ساعة أو نحوها في صحبته تزول نظرتها النقدية إليه. وكأنها تدخل برجاً لا تستطيع أنْ تغادره إلا بعد رحيله. وداخل البرج تكون في وقت واحد عشيقة وطفلة. كانت تلعب هناك، إما برصانة أو بطيش، بكل ما يمنحها إياه. كان في استطاعتها أنْ تطل من البرج لكنها لم تكن ترى البرج من الخارج. لقد كان البرج هو علاقتهما العاطفية. وخلال الأشهر التي لم تكن تراه فيها، كانت تفكر في شغفه بها وبمشاعرها اتجاهه وكأنهما يمثلان مكاناً تستطيع أنْ تقوم بزيارته مراراً ؛ وكانت تزوره أيضاً في أحلامها ؛ ولكنها مع ذلك لم تكن تمكث في ذلك المكان طويلاً.
*
وأومبرتو، الذي عمل وهو شاب في نيويورك لصالح شركة تصدّر زيت الزيتون وخمر الفيرموث الإيطالي، يتكلّم الإنكليزية بطلاقة ولكن مع لكنة إيطالية قوية.
آه ! يا لورا، يا عظيمة كالجبال ! وكالبحيرة الهادئة التي ترين عليها السكينة. إنَّ السكينة في آخر النهار شيء جميل، لكنكِ أجمل، mia piccola(يا صغيرتي). ولا يمكن أنْ اتقاسم تلك السكينة إلا معك… أكاد لا أُصدق أنني اخترقت تلك الجبال، عبر نفق طوله خمسة عشر كيلومتراً، خمسة عشر. إنّه معجزة عِلمية – خمسة عشر كيلومتراً داخل جبل. وعلى هذا الجانب من الجبل، يا passeretta mia (يا عصفورتي الصغيرة)، تنتظرينني.
(تم افتتاح نفق سان غوتار في عام 1882. ومات ثمانمائة رجل في أثناء شقّه)
أومبرتو وعشيقته يقودان عربة من المحطة في مونترو إلى الفندق حيث ينزلان. كان أومبرتو قد وصل تواً. وتجده لورا غير مناسب أكثر من أي وقت سابق. ويطوقها بذراعيه ويحاول أنْ يلعق أُذنها. فتدفعه بعيداً عنها.
تقول ” ماذا تظنني؟ “
فيقول ” حبيبتي لورا، حبيبتي لورا، أنا أعتقد أنك حبيبتي لورا “
ويُخرِج من داخل معطفه علبة، مربوطة بشريط أزرق فاتح. ويحني رأسه ويُقدم لها العلبة على راحتيّ كفّيه، وكأنه يُقدّم شيئاً على صينية. نظرتْ إليهما بطريقة معيّنة لكي تُثنيه عن تكرار القيام بمثل تلك الحركات الاستعراضية العلنية. (كانا قد تشاجرا بهذا الشأن قبل ذلك. وقال إنَّ داخل سيارة الأجرة أشبه بغرفة خاصة في مطعم. فأجابت إنَّ المكان العام لا يُصبح مكاناً خاصاً بمجرد أنْ يدفع نقوداً أكثر قليلاً !). إنَّ ظاهر كفّيه، المكسوان بشعر أسود كالأسلاك، مألوفان لها كثيراً. يداه تتسمان بالسيطرة، وترتبان الأشياء كما يرغب. وعلى مائدة الطعام مع زملائه في العمل في ليفورنو تشكل يداه أمام عيونهم الخطط الخفية والكبيرة التي يعتبرون أنهم محظوظون لأنهم مشتركون فيها. وفي سوق الجملة تضمن يداه نوعية الفاكهة التي تلمسانها باستحسان وتُفسدان الفاكهة التي ترفضانها. ثم يتكئ بظهره ليراقبها وهي تفتح الهدية.
كان في داخلها منديل ورقيّ أسود اللون يضم قلنسوة جولييت من المخمل الأخضر مزينة باللآلئ. شهقت لورا. واعتبر أومبرتو ذلك دلالة المفاجأة السعيدة.
” اللآلئ أصلية، يا passeretta mia “
قالت لنفسها، في يوم كهذا، تُعتبر قلنسوة كهذه بالنسبة إلى فتاة في السادسة عشرة أو السابعة عشرة، أشبه بالدمية، أو الحلية الرخيصة. وفجأة أثار افتقار عشيقها إلى حسن التمييز غضبها . وشبّهت هذا العمل بمحاولته عض أُذنها بعد لقائهما بدقيقتين. وتساءلت، لماذا دائماً يرفض أنْ يلاحظ ما تحب وما تكره، لِمَ لا يتعلّم أبداً ؟
______________________________________
من رواية للمفكر والكاتب جون برجر بعنوان ” G ” الحائزة على جائزة “بوكر” العالمية عام 1972
*****
خاص بأوكسجين