أهل الحب صحيح مساكين (مقامة)
العدد 283 | 20-2-2024
أمين صباح كُبّة


1

أعود من موتي وأضرم النار في قش الحياة، أرشُّ الأرض ورداً، وأقول للموت تأخّر فإنّ في القلب متّسعٌ للحب. أعزف في ركني معانقاً كماني بوداعة، كأنّه يصغي إلى الكلمات التي أردت قولها ولم أستطع. أنا المتفرج الباقي مع الكراسي وستائر المسرح وخشبته الخالية. أنا في النهار طبيبُ أسنانٍ عادي يؤدّي واجباته الروتينية دون أن يشتكي، كأيّ خروفٍ في القطيع، ولكنّني هنا في هذه المقامة أستجمع شجاعتي وأنفجر من البوح.

صاحب المقامات يخاف من الحب ومن سيرة الحب ويظنّ أنّه أعرف بالحب من أهله… يدّعي زوراً بأنّه بارعٌ في استقراء العلامات ورصد الومضة في عين من يحب، وإنّه يعرف ذلك من الكتب والأفلام والأغاني… يختبئ في مقاماته ويخاف أن يقول “أحبّكِ” في الواقع، يرتجف هلعاً ويرتبك ويحمرّ عندما يحبّ. يسحب أوراق التاروت باستمرار، ويهمل الواقع وإشاراته، ويعود فجأة في هذه المقامة ليغنّي مع أم كلثوم ويقول:

ياما الحب نده على قلبي ما ردش قلبي جواب

ياما الشوق حاول يحايلني واقول له روح يا عذاب

2

“الشوقُ يسكن باللقاء، والاشتياقُ يهيج بالالتقاء. ما عرف الاشتياق إلا العشَّاق. للنار التهاب وَمَلَكَة، فلابدّ من الحركة. والحركة قلق، فمن سكن ما عشق. كيف يصحُّ السكون؟ وهل في العشق كُمون؟ هو كلُّه ظهور ومقامُه نشور”.

محيي الدين بن عربي –”الفتوحات المكية”

3

كلّه بأوانه يا رزق. والحب رزق ووعده في السماء. نعوذ بالله من هوى لا يستلذّ مع مرارته، ولا يستطاع لشدّته، ومن زفرات الحُب، ومن فقدان اللُب. فمن ابتُلي به فقد دهُي بعظيم، وكُرب بسقيم. وأنا يا رزق مبهوتٌ باليسير، ومضطربٌ من طعناته، ولا أراني إذا جرّبته إلا ضعيف العقل، مرتجف الجسد، مشتت الأفكار. وأنا والله غريبٌ عن أرضه ودياره، بعيدٌ عن دروبه وأسواره، وجاهلٌ رغم بصيرتي ومعرفتي بأهله عن ألغازه وأسراره. وأسراره قيدٌ يا رغدة. من عرفها كان فيها مكبّلاً كالأسير. طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحُب وظلم الحب لكل أصحابه. هذا ما قالته الست بعدما تغنّت بسيرته لسنوات. والهوى ضيف الكرماء، وحلية الأدباء، وخدن الظرفاء. وكثيرٌ من العشّاق قد ابتلوا بالتهيام، والسقوط والغشيان، وخلع الأعذار، وفوران الدم، ومجادلة العذّال. ومنهم من كتم سرّه وستره، ومنهم من لم يعرف له شيء ولم يكن له ذكر، الإ من افتضح وعُرِف. والعقل في صون الود على أن ينصرف القلب عن التدبير. فالعقلُ أحسنُ ما خُلِق، وخير ما العبد رُزِق. وما يجمعه الله لا يفرّقه إنسانٌ يا مسرّة. العقل والقلب إمامان قاما أو قعدا. متآلفان. ولا يفرّقهما غير الحب وشيطانه. ولستُ بحال من أنحله الحب، وعبث به الوجد، واستحكم به الحزن، وتعبّد به الهوى، وخالطه الأسى إلى ما ترون. ولست من العاشقين الذين ممّن ذابوا وما تابوا. فأنا مثل الست لا أقوى على الشوق ولا عذاب القلب. ولست يا رند من المتأسّفين أو على الأقل هذا ما أحاول أن أبيّنه. وسيّدتي أشد عليّ فلا هي ترحمني ولا ترثي لضعفي وتدهور حالي.

“مصدّعة مكلومةً رضّها الهوى

ترى السقم في أعصابها يتحطّمُ

إذا ما نسيم الريح هبّ تعلّقت

وحلّ بها صعبٌ فليس تكلّمُ”

قصص الحب لا يرويها العشّاق يا ميس. فالعاشق مشغولٌ بمعشوقه عن الناس والقصّة. فات من عمري سنين وسنين. شفت كثير وقليل عاشقين اللي بيشكي حاله لحاله، واللي بيبكي على مواله. والذي يتشاغل بالروي بكلماتٍ جافّة أملاً بالنسيان. والذي يرتجف شوقاً مرتدياً معطفاً من حنين، والمستعين بنجمة تختلس الضوء من شمس نائمة، المرتعد من صوتٍ فيه أناشيدُ العائدين من القتال، وصاحب المقامات التائه، الذي يحن لضلعٍ معوَجٍّ من الوحدة ويتلمّس خاصرةً مطعونة بالنسيان. يتأمّل عقارب وقتٍ معطّلة بالتكلّس، ويردم ثقوب الأصدقاء، والهوّة السحيقة المظلمة في روحه. صوفيٌ وحيد يدور حول نفسه ويتلاشى فيها، يغيب فلا يرى أحداً ولا أحدٌ يراه. وحده يناجي نجمه والوجوه دخان. يعبث بكتب التراث وينبّش في سير العشّاق ويروي بوقاحة أخبارهم في مقاماته وينشد:

“تعبّدني الهوى فبقيت صبّاً

وخامرني فذاب القلب حُبّاً

وأضناني الهوى فشربت كأساً

يقطّعني الأسى بثّاً وكربا

رميت من الهوى بسهام حتفٍ

فما أبقت لنا وهماً ولُبّا

فما لي غير جفنٍ ذي انسكابٍ

يفيض الدمع في الخدّين سَكبا

بِعَيني طَفلَة هيفاءُ وردُ

تشير جفونها في القاب حربا

إذا نظرت بأحشاءٍ مراضٍ

يدبّ الموتُ في الأحشاء دبّا”.

4

الحرمانُ من المحبوب يحرّق القلب، والمنعُ عن المعشوق يعوّق الأنفاس بالاحتباس، وأما في الهُيام، فإن القرب والبعد واحد! ومن هنا قال القتيل الهائم صاحب “الصيهور في نقد الدهور” الحسين بن منصور:

“يا مُنية المتمنّي،

أدنيتني منك حتى،

ظننتُ أنك أنّي”

يوسف زيدان – ” فقه الهيام”

5

ألا أيّها الركبُ النيامُ ألا هبّوا

نسائلكم هل يقتل الرجلُ الحبُّ

بل تقتله ألسنة العذّال وهمسات النمّامين وثورات الغضب الزائفة يا قيس. لا يأخذنّك قلبك بعيداً يا أمين، الله خلق الأرواح وطبع الأنفس. إذ إنّ الحُب إذا اعترض أهله، دهاهم على غير اختيار، بل بجبر واضطرار، والمرء يلام على ما يستطيع من الأمور، لا في المقضي عليه والمقدور. وقد خلق الله الإنسانَ ضعيفاً. ولو كان لذي هوى اختيار، لاختار أن لا يهوى، ولكن لا اختيار له. وقيل أن وقوع العشق بأهله ليس باختيارهم ولا بحرصهم عليه، ولا لذة لأكثرهم فيه، ولكنّ وقوعه كنزول العلل المدنفة، والأمراض المتلفة. وإن العشق من تحميل ما لا يطاق[1] أي التحميل القدري لا الشرعي. أنظر رعاك الله إلى المتلهّفة أنفاسهم، المتأسّفة حركاتهم، سكونهم ضعف. وعظامهم جريش. وطعامهم أليم وشرابهم وصب. وهل يخفى عليك البَيت واليأس والشجى والهجر. وقيل أنّ أشدهم حباً أعظمهم أجراً. وأرواح العشّاق يا صاحبي عطرة لطيفة، وأبدانهم ضعيفة، وكلامهم يطرب الأرواح، ويجلب الأفراح، وتدور أخبارهم وتروى أشعارهم ولا يبقى لهم غير العشق ذكرٌ يخلدّهم. ولولاه لما ذكر لهم اسم. ولا جرى لهم رسم. ولا رفع لهم رأس ولا ذكر مع الناس. ولم يسلم منه أحدٌ غير الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم وقيل في ذلك:

((إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ مَا الهَوَى

فقم فاعتلف تبناً فأنت حمارُ))

ولا يخلو أحدٌ من صبوة، إلا منقوص البنية أو جافي الخلقة على خلاف تركيب الاعتدال.”وقيل لبعض العشّاق: ما كنت تصنع لو ظفرت بمن تهوى؟ فقال: كنت أمتّع طرفي بوجهه، وأروِّح قلبي بذكره وحديثه، وأستُرُ منه ما لا يحب كشفه، ولا أصير بقبيح الفعل إلى ما ينقض عهده”.

وأنت أيها الجاهل الغارق في مقاماته، والمنشغل في ذكر بطلاته المتخيّلات، ومصادره العلمية، ورسالته السامية في الحياة في بعث فن لا يقرؤه أحد، وإحياء علومٍ اندثرت وعلوم لم توجد بعد. ألم تفهم قول الست وأنت تكتب هذه المقامة عن القلب وتنهيده عند الوصال والفراق؟ وهل عرفت الدنيا وحلاوتها يوماً؟ هل غنّيت بطرب ولقيتني بحب واذوب في الحب مسحوراً بشموع الشوق؟ الْعِشْقُ يا صاحب المقامات لِلْأَرْوَاحِ بمنزلة الغذاء للأبدان، إن تركته ضرَّك، وإن أكثرت منه قتلك، ونحن على معرفتنا بك نعرفُ سلفاً أنّك شهيدٌ قتيل وإن أنكرت. ونعرف أنّ ملاك الهوى قد قبض روحك وألّفها. وإنّك على حالك هذا تحاول الفكاك من قيدٍ محكم وموت محتم.

“بنفسي فتى سهل الخلائقِ طيبٌ
يمازحُ دهراً عابساً لا يُمازح
ويُكثِر قول الشّعر في الحربِ لا الهوى
لأن الهوى لو قِيسَ بالحرب جارح
ففي كلّ حربٍ ثَمَّ حقٌ وباطلٌ
وفي الحبِّ لا هذا ولا ذاكَ واضحُ
فإن قال لا أهوى فليس بصادقٍ
وإن قال أهوى أخجلتهُ المذابحُ”

6

كل حبّ لا يتعلق بنفسه وهو المسمى حبّ الحبّ لا يُعوَّل عليه: فالأصل حبّ الحبّ، وحبُّ بلا حبٍّ للحب ينفي عن صاحبه ذوقَ الحبّ والشرب من بحره، فمن شرب شراب الحب أحبَّ الحب، وطلب المزيد منه، وذلك هو التعلق بالمحبوب المرتبط بالضرورة بالتعلق بالحب وحب الحب لذاته.

محيي الدين بن عربي –”رسالة ما لا يعوّل عليه”

7

الحب أقسام يا شيماء: هوىً وصبابة، شغفٌ وكلف عشق ونجوى ثمّ هيام. لست بصدد شرحها فأنا كما يزعمون لا أنطق بالحكمة إلّا متنوراً بالوهم. وقعت على سيرة أهله وشاهدتهم يسقطون صرعى واحداً تلو الآخر. كانوا آتين لتوّهم من جلسة CBT[2]  أسّستها عيادة السماء، وأشرفت عليها الملائكة. ليأس العشّاق يا أطياف رأسٌ تائه يتدحرج في الشوارع. فضاؤهم زفيرٌ شمسي. والشهداء منهم يفحصون جثثهم المتناثرة على ضفاف من أمل.

وأنا خدني الحب لقيتني بحب، لقيتني بحب وأذوب في الحب، وأذوب في الحب وصبح وليل، وليل على بابه.. لا ضوء كمثل الضوء الذي شعّ من وجه أمّك عندما سمعت سيرة الحب، وأدركت صوت الست (التي لم تعرفه) وأطربت عليه. في قلبي مجرّات حبٍ تدور، وفي رأسي تدور سيرة أهله المساكين. أتّكئ على الزمان وأجوب الأكوان عاشقاً. قلبي يخفق بسيرتهم جميعاً، فيه أكفّ لأدعية الأمّهات، وغبار على وجوه التائهين والغرباء والعطاشى والمتعبين.

“كنتُ ينبوعاً في ما مضى

أغنية في قلب عاشقة

أمنية في صلاة طفلة

نسيماً في كمنجة

وردةً على سور،

موعد حبيبين تحت المطر

…ثمّ بدأتِ الحرب”.

8

قال العجوز المشلول الذي فقد زوجته وحبّه الوحيد إنّ رأسه مغروسٌ في الأرض. وإنّ تربة العراق الخصبة ستنبت له رؤوساً أخرى. وإنّ جسمه المشلول محبوسٌ في زنزانة. وإنّه يجهل السجّان. كان أبو غايب مقطوعاً من شجرة، ولم يورق له في حياته أيّ غصن. زار كواكبَ شبه منطفئة، وتزلّج سلالمَ غير مرئية، وسمع أنغاماً تتصاعد من آلاتٍ تتقلّب في أحضان الأثير. تعكّز على أشعّة تلبس الظلال، ورأى مجازر العصر ومذابحه والمقابر التي تحفر في السماء. تتبّع ضوءاً يخيط للفضاء معطفاً كأنّه الليل، وكنّس طرقاً مملوءة بأقدام لم تعد قادرة على السير. تعثّر بقرابين، ومقابر، وأجسام مطحونة، ورؤوس مقطّعة، وأنبياء مغدورين. عقد مآتماً للغبار، وأعراساً للغيم، باحثاً عن ماءٍ جديد يروي جذوره. قلت لوسناء إنّ سيرة أهل الحب أنهكتني. وإنّني سأضطر لحذف المقامة. حتّى دخلت امرأة وهي تدفع عجوزاً مشلولاً يعاني من أعراض ذهانية بعد أن فقد زوجته. كان أبو غايب صامتاً. لكنّ ملامحه المنطفئة روت قصّته بدلاً عنه. وقالت إن أهل الحُب صحيح مساكين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] إشارة إلى قوله تعالى “ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به”.

[2] العلاج المعرفي السلوكي.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من العراق. صدر له "مقامات إيلاف"" 2021."

مساهمات أخرى للكاتب/ة: