أكثر قليلاً وستمسي أعمى
العدد 170 | 02 نيسان 2015
صموئيل بيكيت | ترجمة: زياد عبدالله


أنا في غرفة أمي. إنه أنا من يعيش هناك الآن. لا أعرف كيف أصبحت هناك. ربما عبر سيارة إسعاف، من المؤكد أنها عربة من نوع ما. لقد تمت مساعدتي. لم أصبح هناك لوحدي. هناك ذلك الرجل الذي يأتي كل أسبوع. ربما أصبحت هنا عن طريقه. قال لا. يهبني مالاً ويأخذ الصفحات بعيداً. الكثير من الصفحات، الكثير من المال. نعم، إنني أعمل الآن، قليلاً كما تعودت، عدا أنني لم أعد أعرف أبداً كيف أعمل. من الواضح أن ذلك غير مهم. ما أرغب به الآن أن أتحدث عن الأشياء التي تبقت، أن أقول وداعاتي، أن انتهي ميتاً. لا يريدون ذلك. نعم، هناك أكثر من شخص، هذا جلي. لكن الشخص نفسه من يأتي. ستقوم بذلك لاحقاً، قال. هذا جيد. للحقيقة لم يتبقَ لدي الكثير. عندما يأتي لأخذ صفحات جديدة يحضر معها صفحات الأسبوع الماضي. تكون عليها علامات لا أفهمها، على أي حال أنا لا أقرأها. عندما لا أقوم بشيء لا يهبني شيئاً، يوبخني. أنا لا أعمل من أجل المال. لأجل ماذا إذن؟ لا أعرف. للحقيقة أنا لا أعرف الكثير. وفاة أمي على سبيل المثال. هل توفيت حينما أتيت؟ أم أنها توفيت لاحقاً. أقصد بما يكفي لكي تدفن. لا أعرف. ربما لم يدفونها بعد. على أية حال لدي غرفتها. أنام في سريرها. أتبول وأتبرز في أصيصها. لقد أخذت مكانها. عليّ أن أشبهها أكثر فأكثر. كل ما أحتاجه الآن ابن. ربما لدي واحد في مكان ما. لكن لا أظن ذلك. سيكون عجوزاً الآن، ربما بعمري تقريباً. كانت خادمة غرف صغيرة. لم يكن حباً حقيقياً. الحب الحقيقي كان في واحدة أخرى. سآتي على ذكر ذلك. ما هو اسمها؟ نسيته مجدداً. يتراءى لي أحياناً بأنني أعرف ابني، وقد ساعدته. بعدئذً أقول لنفسي مستحيل. من المستحيل أن أكون قد ساعدت أحداً. نسيت كيف أهجئ أيضاً، ونصف الكلمات. من الواضح أن ذلك غير مهم. هذا جيد. إنه شخص غريب الأطوار الشخص الذي يأتي لرؤيتي. من الواضح أنه يأتي كل أحد. باقي الأيام يكون مشغولاً. إنه عطشان دائماً. كان أن قال لي أن بدأت على نحو خاطئ تماماً، وأن عليّ أن أبدأ بطريقة مختلفة. لا بد أنه مصيب. بدأت من البداية، مثل رجال الدين العجائز، هل يمكنك تخيل هذا؟ ها هي بدايتي. لأنهم يحافظون عليها جليةً. لقد حصلت لي العديد من المشاكل جرائها. ها هي. منحتني الكثير من المشاكل. كانت البداية، هل فهمت؟ بينما هي الآن تقارب النهاية. هل ما أقوم به الآن يحتكم على ما هو أفضل؟ لا أعرف. هذا لا علاقة له بالأمر. لابد أنها تعني شيئاً، لولا ذلك لما حافظوا عليها. ها هي.

هذه المرة، ثم مرة أخرى على ما أعتقد، ثم لمرة أخيرة ربما، ثم ستنتهي، مع هذا العالم أيضاً. هاجس المرة الأخيرة إلا واحدةً إلا واحدةً. كله يمضي إلى العتمة. أكثر قليلاً وستمسي أعمى. إنها في الرأس. لا تعمل أبداً، تقول، أنا لا أعمل أبداً. ستمسي أخرس وتبدو ذاوياً. هي كذلك كما العتبة تجتازها بصعوبة. إنها الرأس. لقد اكتملت. وهكذا تقول، سأتدبر الأمر هذه المرة، ثم مرة أخرى ربما. لقد تهيأت بصلابة لتكوين هذه الفكرة، لأنها واحدة، في مقاربة واحدة لها. ثم تحاول لفت الأنظار، لتعاين بالأنظار كل تلك الأشياء المعتمة، قائلاً لنفسك، جاهداً، إنه خطأي. خطأ؟ تلك هي الكلمة. لكن ما هو الخطأ؟ إنه ليس وداعاً، وما السحر في في تلك الأشياء المعتمة التي سيكون لديها الوقت الكافي، عندما يموتون لاحقاً، ليقولوا وداعاً. لأنه من المحتم قول وداعاً، سيكون من الجنون عدم قول وداعاً، عندما يحين الوقت. إن فكّرت بأشكال وضوء الأيام الأخرى من دون ندم. لكن نادراً ما تفكر بها، مع ماذا ستفكر بها؟ لا أعرف. يموت الناس أيضاً، من الصعب تميزهم عن نفسك. هذا محبط. هكذا رأيت “أ” يمضي باتجاه “ت”، غير مدركين لما يفعلانه. كان ذلك على درب عارٍ بشكل لافت، أي أنه من دون سياج من الأشجار أو أخاديد أو أي من المحددات، في الريف، والبقر يجتر في حقول مترامية،  جاثياً أو قائماً، في سكون المساء. ربما ألفّق بعض الشيء،ـ ربما أجمّل، لكن  هذا ما كان عليه الوضع عموماً. يجترون، يبتلعون، وبعد وقفة قصيرة يهمّون باللقمة الثانية من دون عناء. تتصلب عضلة الرقبة ويبدأ الحنك بالطحن مجدداً. لكن ربما أنا أتذكر أشياء. الدرب، قاس وأبيض، جفف المرعى الطري، يعلو ويهبط على هوى التلال والوهاد. لم تكن البلدة بعيدة. كانا رجلين، لا تخطأهما العين، واحد صغير وواحد طويل. لقد غادروا البلدة، الأول، ثم الآخر، والأول  بعدئذٍ قلق أو أنه تذكر واجباً، بدأ يتراجع بخطواته. كان الهواء قارساً، لأنهما كانا يرتديان معطفين ثقيلين. بدا متشابهين، لكن ليس بأكثر مما هم عليه الآخرون. بداية كان هناك مسافة كبيرة بينهما. لم يتمكنا من رؤية أحدهما الآخر، رغم أنهما رفعا رأسيهما وبحثا عن بعضهما، لأن المسافة شاسعة، ومن ثم لأن الأرض متماوجة، ما تسبب بأن تكون أمواج على الدرب، ليست عالية، لكن عالية بما يكفي، عالية بما يكفي. لكن حان الوقت ليمضيا سويةً  في الحوض نفسه، وفي هذا الحوض ألتقيا أخيراً. للقول إنهما يعرفان بعضهما البعض، لا، لا شيء يضمن ذلك. لكن ربما عند إيقاع خطواتهم، أو أنهما انتبهما بواسطة غريزة غامضة، فرفعا رأسيهما وراقبا بعضهما، مسافة خمس عشرة خطوة، قبل أن يتوقفا، الصدر مقابل الصدر. أي نعم، لما يجتازا بعضهما بعض، بل توقفا، وجهاً لوجه، كما في الريف، في مساء، على درب مهجور، مسافران غريبان راجلان سوف، من دون أن يكون هناك من أمر خارق، لكنهما يعرفان بعضهما ربما. الآن سيفعلان على أي حال، أعتقد الآن بأنهما سيتعرفان على بعضهما البعض، يتبادلا التحية، حتى في أعماق البلدة. استدارا نحو البحر، بعيداً إلى الشرق، خلف الحقول، نسجا عالياً في السماء المضمحلة، وتبادلا بضع كلمات. ثم كلٌّ منهما مضى في طريقه، كلٌّ مضى في طريقه، مديراً ظهره للبلدة، في طرق بدا أنه بالكاد يعرفها، أو أنه لا يعرفها أبداً، لأنه مضى بخطوات مترددة غالباً ما كان يقف لينظر حوله، كمن يحاول تحديد المعالم في ذهنه، لأنه قد يعود يوماً مقتفياً أثر خطواته، لن تعرف. من الواضح أنه يعرف التلال الخادعة التي خاطر بعبورها خائفاً من بعيد، رآها من نافذة غرفة نومه أو أعلى قمة جبل، في يوم أسود،لم يكن لديه من شيء محدد ليقوم به.

_______________________________

من رواية “مولوي”، الرواية الأولى من ثلاثية صموئيل بيكيت (1906 – 1989) التي تلاها كل من “”موت مالون” و”اللا مسمى”.

الصورة من أعمال التشكيلي الإيطالي توني ديميرو

*****

خاص بأوكسجين