أثبُ بمرحٍ في عتمةِ الكُتُب
العدد 237 | 05 تشرين الثاني 2018
مارك ستراند


الفكرة

نحن أيضاً، كنَّا نأملُ أن نستأثر

بما هو أبعد من عالم ندركُه، ومن ذواتِنا،

ومن قدرتِنا على التخيُّل، شيءٌ قد

نرى فيه أنفسَنا؛ رغبةً دائمةَ العبور،

في ضوءٍ خافتٍ، وفي بردٍ قارسٍ

يُحيلُ جليدَ بحيراتِ الوادي

صُدوعاً متكوِّرة،

الثلجُ العاصفُ يواري الثَّرى الذي رأيناه،

ومشاهدُ الماضي، حينَ تطفو تارةً أخرى على السطح،

لا تبدو كما ألِفناها، بل شبحيَّةً وبيضاء

وسطَ منعطفاتٍ زائفةٍ، وانمحاءاتٍ مخبوءةٍ؛      

لم نشعرْ ولو مرةً واحدةً أننا دنونا منها

إلى أن سمعنا ريحَ المساءِ تقول: “لمَ تفعلون ذلك،

لاسيما الآن بالذات؟ عودوا من حيث جئتُم”،

ثم يطلُّ من نقطةٍ نائيةٍ في المدى المُصقعِ،

كوخٌ يحتدمُ الوهجُ في نوافذِهِ،

نقفُ قُبالته، مبهوتينَ من وجودِه هناك،

ولربما نمضي قُدُماً، نفتحُ البابَ،

ونلجُ النورَ حيثُ نتدفَّأ،

غيرَ أنه كان لنا، بعدم كونه لنا،

وعليهِ أن يظلَّ شاغراً،

تلكَ كانت هي الفكرة.

 

انتفاءُ الموت

هذه التغضُّناتُ ليست شيئاً.

هذا الشَّعْرُ الرماديُّ ليس شيئاً.

هذه المعدةُ المتبلدِّةُ

بأطعمةٍ عتيقةٍ، هذان

الكاحلانِ المتورِّمان، المثخنانِ بالرضوض،

وعقلي الغارقُ في العَتمة،

كل ذلك ليس شيئاً.

أنا الفتى ذاتُه

الذي اعتادتْ أمّي تقبيله.

الأعوامُ لا تُبدِّلُ شيئاً.

في ليالي الصيف حيث تنتفي الرياحُ

أشعرُ بتلك القُبُلات

تتسلَّلُ من شفتيها القاتمتينْ

في مدى بعيدٍ،

وعند الشتاء

تطفو على الصنوبراتِ المتجمِّدة

وتجيءُ مكسوَّةً بالثلج.

تبقيني فتيَّاً.

ولعي بالحليب

ما يزالُ جامحاً.

تدفعني الغَرَارةُ.

ومن الفراشِ إلى الكرسيّ أحْبو

أعودُ مرة أخرى.

سوف لن أموتَ.

تلك النتيجةُ المتأصّلةُ للولادة

وعلامتُها، جسدي

يستحضرُها، ويقبضُ عليها سريعاً.

 

أكلُ الشِّعْر

حبرٌ يسيل من زوايا فمي.

ليس من سعادة تفوقُ سعادتي.

أنا الذي كنت آكلُ الشِّعْر.

أمينة المكتبة لا تُصدِّقُ ما ترى.

عيناها واجِمتان

تخطو وأجيابُ ثوبها محشوَّةٌ بكفَّيها.

القصائدُ ارتحلتْ.

الضوءُ شاحبٌ.

والكلابُ في الدورِ السفليّ تصعد الأدراجَ.

مُقَلُ أعينها تدور،

قوائِمُها الشقراءُ تَتَّقدُ كما الأجمَّة.

أمينةُ المكتبةِ المسكينةُ شَرعتْ تضربُ الأرضَ بقدميها وتنتحب.

هي لا تفهمُ.

حين أنهضُ على ركبتيَّ وألعقُ يدَها،

تصرخُ.

أنا رجلٌ جديدٌ.

أُزمجرُ بوجهها وأعوي.

أثبُ بمرحٍ في عتمةِ الكُتُب.

 

Xvi

حقيقةٌ، كما زَعْم أحدُهم، أن عالماً

دون فردوسٍ، محضُ وداع

سواء ألوَّحتَ بكفِّكَ أم لم تلوِّح،

إنه وداعٌ، وإن لم تُباغِتْ عينيكَ الدُّموع،

وسيبقى وداعاً، حتى إن تظاهرتَ أنكَ لا تلاحظ،

فكراهةُ ما انقضى، لا تنفي كونهَ وداعاً.

وداعٌ في الأحوالِ كلها. والنخلاتُ التي تنثني

فوق البحيرةِ الخضراءِ النيِّرة، والبجعُ

الغاطسُ في الماءِ، وأجسادُ المستحمِّينَ المتلألئة تحتَ أشعةِ الشمس،

جميعها أطوارٌ في سكونٍ نهائي، وحركةُ الرمل، والريح،

وتقلُّباتُ الجسدِ المتوارية،

ليست سوى جزءاً من الأمرِ ذاته، بساطة تبدُّلِ الكينونة

إلى مناسبةٍ للحدادِ، أو فرصةٍ للاحتفاء

فماذا بوسعِ المرء فعلهُ غيرَ

أن يحسَّ بثقلِ أجنحةِ البجع،

وكثافةِ أخيلةِ النخلِ، والخلايا التي تُعْتِمُ

على ظهور المُستحمِّين تحتَ أشعةِ الشمس؟ أشياءُ تبدو

أبعدَ من تشوُّهات التغيُّر، أبعدَ من سناء الموسيقى.

النهايةُ تتخلَّقُ مراراً، ونشعرُ بها

في غواياتِ الرُقادِ، في إيناعِ القمر،

وفي النبيذِ الرابض في القَدَح.

*****

خاص بأوكسجين


مارك ستراند شاعر ومعلم ومترجم كندي (1934 – 2014). له أكثر من 20 مجموعة شعرية منها: "النوم بعين واحدة مفتوحة"" (1964)، و""قصة حياتنا"" 1973، ومرثية لأبي"" (1978)، و""ميناء معتم"" 1993.حصل على العديد من الجوائز الأدبية، كجائزة بوليتزر عام 1998 عن مجموعته «عاصفة ثلجية من ندفة واحدة»، وجائزة والاس ستيفنز عام 2004."