“وأخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأني المهدي المنتظر. وخلّفني عليه الصلاة والسلام بالجلوس على كرسيه مراراً، بحضرة الخلفاء الأربعة والأقطاب والخضر عليه السلام وأيدني بالملائكة المقربين وبالأولياء الأحياء والميتين من لدن آدم إلى زماننا هذا، وكذلك المؤمنين من الجن. وفي ساعة الحرب يحضر معهم سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بذاته الكرمية وكذلك الخلفاء الأربعة والخضر عليه السلام…”
اقتطع ما سبق من الصفحة 303 من رواية “شوق الدرويش” للروائي السوداني حمّور زيادة (دا ر العين للنشر – الاسكندرية 2014) وهو من خطاب لمحمد أحمد المهدي مطلق الثورة المهدية (1881 – 1889)، والتي أتت ثورة على المظالم التي ابتلي بها السودانيون جراء الحكم المصري التركي للسودان، وفي سياق ظروف تاريخية أخرى، دفعت بمطلق تلك الثورة أن يعتبر نفسه المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلاً وإيماناً، محارباً كل من لا يؤمن به من مسلمين أو غير مسلمين، وهو يتطلع إلى فتح مصر والشام والوصول إلى مكة وجزيرة العرب.
كل ما تقدّم يضيء على الفترة التاريخية التي تتحرك فيها أحداث رواية “شوق الدرويش”، ويأتي حصار الخرطوم من قبل المهديين ومن ثم سقوطها بأيديهم وقتل حاكمها الانكليزي غردون، حدثاً رئيساً في هذا السياق، وإلى جانب ذلك حكم خليفة المهدي عبد التعايشي، كون المهدي لم يعمر طويلاً وقد توفي إثر اصابته بإلتهاب السحايا عام 1885.
لا تحضر تلك التواريخ كما هي ها هنا، بل تشكّل خلفية للأحداث، كوننا أولاً وأخيراً حيال عمل روائي مأخوذ بشخصياته، وهي متأثرة تماماً بالفترة التي عاشتها، ومصائرها مصاغة وفقها، ولعل أهم ما يهب هذه الرواية غناها وعمقها، هي الزاوية التي تسرد من خلالها الأحداث، ولشخصيتها الرئيسة بخيت المنديل أن تكون معبراً نحو كل ما سنخلص إليه، فهو عبد “مرة أخرى هو عبد. كلما خرج إلى حرية ألفى نفسه عبداً من جديد. يسلم نفسه لقدره. بارع هو في التسليم لقدره. بارع هو في أن يكون عبداً”. كما أنه درويش من الدراويش الذي قاتلوا في جيش المهدي، ومتصوف عاشق لمن صارت جارية اسمها “حورية” وقد كانت راهبة في دير الخرطوم اسمها ثيودورا المولدة في الاسكندرية لأبوين يونانيين.
قصة الحب التي تنشأ بين بخيت وحورية (ثيودروا سابقا) ستكون الخط الناظم للأحداث الكثيرة التي ستتوالى في الرواية، ولعل هذا الحب سيكون تجسيداً تاماً لتصدير زيادة روايته بعبارة ابن عربي الشهيرة “كل شوق يسكن باللقاء، لا يعوّل عليه”، لكن إلى جانب ذلك سيتسيد الرواية نفس ملحمي يحيط قصة الحب سابقة الذكر، أولاً من خلال حياة بخيت هو الذي سيمسي عبدا وتنقلاته بين سيد إلى آخر، الأول أوروبي مثلي، بينما الثاني تركي، والثالث مصري بعد هزيمة جيش المهدي على أعتاب مصر، ولعل استحضار حكاية ثيودورا والطريق الذي ستقطعه عبر قافلة من الجمال وما يحيط بها من شخصيات مثل الأب بولس وهورتنسيا وغيرهم، وصولاً إلى مصير والدها في مصر الذي سيذبح لأنه مسيحي، كل ذلك وغيره الكثير سيكون معبراً للكثير في السياق الملحمي، بما في ذلك نظرتها لـ “البرابرة” ومن ثم بالتأكيد مصيرها ومصير من حولها حين تدخل القوات المهدية وتقتل وتسبي الكافرات، وتحولها إلى جارية ومن ثم ختانها.
الرواية محتشدة بالحكايا والمصائر، وهي تتأسس من خروج بخيت من السجن بعد أن هُزمت القوة المهدية ودخلت القوات الانكليزية/المصرية، وسيشكل المسعى الرئيس لبخيت في الانتقام بعد خروجه من السجن – الانتقام لحورية (ثيودورا) نقطة انطلاق للعودة في الزمن (فلاش باك) وضمن تلك العودة ستكون هناك استعادات للشخصيات التي ستحضر عوالمها في مسار الأحداث المستعادة، ولعل وضوح دوافع الانتقام لدى بخيت سيكون صياغة للحكايا ولكل شخصية مطلوبة للانتقام مسارها وسياقها وعوالمها، مع التأكيد أن غموض الدافع بداية سيؤسس بنية الفضول لدى القارئ، كذلك الأمر بالنسبة لمصير حورية نفسها، ولماذا على بخيت أن ينتقم لها، وإن كانت الخيوط الكثيرة للأحداث والوقائع والحكايا قد تتشابك أحياناً أو “تتشربك”، ورغم ذلك سيبدو أن الأمر صالح تماماً للتغاضي عنه أمام غنى ما يعتمل في ثنايا هذا العمل الروائي الهام.
تقرأ رواية حمور زيادة وقد مضى على أحداثها أكثر من مئة سنة، وما أن تبعد عينيك عن صفحاتها بضع دقائق حتى تجد في حاضرك خليفة لا يخلف مهدياً، وأميراً له المهدية وهكذا مما نعيشه في ظل اشراقات داعش والنصرة، والفتح المبين لما يوصد كل شيء.