هذا النص هو تقديم الروائي السوري الراحل خالد خليفة لمعرض الفنان دلدار فلمز الذي أقيم في زيوريخ في 22 شباط/فبراير 2024 حيث يستحضر ويحاور ديوان الشاعر السوري فرج بيرقدار “مرايا الغياب” مستلهماً قصائده ومجسداً من خلالها اللجوء والمنفى بصرياً وتشكيلياً.
حين كنت شاباً صغيراً، أردت أن أصبح كاتباً، في مرحلة مبكرة قرأت قصائد ديوان فرج بيرقدار الأول “ما أنت وحدك “وتداولته مع رفاقي الكتاب الشباب خاصة اليساريين من أبناء جيلي، صدرت بعد ذلك قصيدته “جلسرخي” في كتاب صغير عام 1981، تبادلناها كمنشور سري، خاصة وأن القصيدة تحتفي بالشاعر الذي أعدمه جهاز السافاك لشاه إيران.
لم يطل الوقت حتى وقع فرج بيرقدار في الأسر، واعتُقِل مع رفاقه ليقضي أربع عشرة سنة في سجن ظالم عقاباً على قول ” لا ” في وجه النظام، رفعنا كأس شاعرنا المعتقل في أغلب سهراتنا، هذا ما كنا نستطيع فعله، وأعدنا قراءة قصائده، رغم أننا لم نكن منتمين ولا حتى نفكر في الانتماء إلى أي حزب سياسي، كنا مجموعة كتاب شباب يساريين هوسنا الكتب والفن ولدينا طموح واحد أن نصبح كتاباً.
أذكر لقاءاتي مع فرج بعد الإفراج عنه في أمسيات وأماكن مختلفة من العالم. ما زال رفيقي الذي أنتظر منه الكثير. ما زالت صداقتنا التي نمت في أوقات متباعدة تحمل ذكريات عاطفية لا يمكن لها أن تنتهي. دوماً لدينا كلام معلق نتركه وراءنا.
حين وصلت إلى زيورِخ منتصف شهر كانون الثاني تلقيت مكالمة من دلدار فلمز الصديق الغائب، ببساطة أخبرني أنه في زيورخ وقريب من منزلي، إنها المفاجآت الحلوة التي أنتظرها في كل مكان. التقينا من جديد كأنه لم يمض أكثر من عشر سنوات عن آخر لقاء لنا في دمشق.
ما زلت أذكر دلدار الشاب القادم من الحسكة حاملاً رائحة حقولها على جلده إلى دمشق، كان مفترقاً عن أبناء جيله، يغرد خارج سربهم، يحمل ألوانه الترابية، ألوان حقول الحسكة معه وينثرها أينما حل.
ما زلت أتذكر لوحاته الأولى التي رسمها في دمشق، أتذكر فرادتها، وحيرتها في الأسلوبية التي ينشدها، كان الجميع غارقاً في الألوان الحارة والزاهية، بينما دلدار كان غارقاً في ألوان التراب الباردة.
أن يرسم دلدار قصائد فرج بيرقدار في ديوانه “مرايا الغياب” صاحب الحكاية التراجيدية السورية الخالصة، الذي كتبت قصائده في السجن وهُربت إلى خارجه، والذي صدر للمرة الأولى عام ٢٠٠٥ بعد رحلة طويلة من المصادرة والمنع.
هذه الشراكة الإبداعية بالنسبة لي حدث شخصي، يجمع صديقين ويعيدني إلى الذكريات التي لم تتركني بعد، يعود دلدار إلى التجريب الذي هو حلم البقاء بالنسبة لأي رسام، يرسم بمواد ثقيلة، بالطين ومواد مختلفة يخط لوحاته على قماش سميك وألواح خشب، بحنينه إلى تلك الحقول المفتوحة يعيد خلق عوالم قصائد فرج بيرقدار الذي لم تغادره سوريا، ولن تغادره رغم عيشه بعيداً عنها منذ عقدين، رغم الأسى الذي عاشه وعشناه معه كسوريين.
لا يمكن لنا إلا ملاحظة قوة التعبير في لوحات دلدار فلمز هذه، بألوانها الكابية، الأقرب إلى الألوان البنية، واختلاطها مع كل ما يذكرنا بتلك الأرض البعيدة التي تحفل قصائد فرج في التغني بحزنها ووحدتها وغياب أحبابها عنها. لكني دوماً أبحث عن المعاني، كيف سيرسم دلدار هذه القصيدة:
” قلبه جرس
وجسده كنيسة
وعيناه مغمضتان
على امرأة
ترتدي حزنها
وتقيم لعودته
قداساً من الدموع ”
كيف لنا رسم الغياب، خطوط اللوحات النافرة، عوالمها المفاجئة تخبرنا عن نقلة جديدة لدلدار الرسام أيضاً الذي ما زلنا ننتظر منه الكثير كشاعر ورسام.