صدرت حديثاً عن منشورات المتوسط – إيطاليا، الطبعة العربية لمجموعة المترجم والشاعر السوري أحمد م. أحمد الجديدة: “أصيدُ طائر كوليريدج”، بالتزامن مع طبعة المتوسط الفلسطينية “الأدب أقوى” والتي توزعها الدار الرقمية في الداخل الفلسطيني. والأدب أقوى هو مشروع أطلقته المتوسط لإصدار طبعة فلسطينية لعدد من كتبها بالتزامن مع صدور طبعتها في العالم العربي، لتكون كتب الدار جزءًا من العمل المقاوم لسلطات الاحتلال، وكسراً للحصار الثقافي المُمارس على القارئ الفلسطيني.
يعودُ الشاعر أحمد م. أحمد، بعد سنواتٍ، بكتابٍ شعري جديد هو عبارة عن نصٍّ واحد مُتقطِّع كما جاء في غلاف المجموعة، والذي يُطالعنا فيه طائرُ كوليريدج حقيقي بدل توصيف: الطائر، وليكون فعلُ الصيد هنا دعوة للقارئ بأن يحظى بطائر كوليريدج، كأنَّ الشاعر بتبنِّيه العنوان – جملة فعلية بضمير المتكلم، ومصمِّم الغلاف برسمه لكلمة “طائر”، يجعلان القارئ يتورَّط في الصيد ويصبح طرفاً منذ البداية في قراءة جديد أحمد م. أحمد الشعري، الذي يهديه: “إلى غير المصدِّقين”.
كمن يفتحُ أبواباً حديديةً عتيقة، نسمعُ صرير الكلماتِ الجارحة والمجروحة في آن، منذ الجملة الأولى، والحرف الأول، نصدِّقُ كلَّ شيء، ونتأهَّبُ لقراءةٍ تجعلنا نتعطَّشُ أكثر لما يأتي بعدها:
جنائزيٌّ سِفْرُنا الأخيرُ.
حبيبان كحَدَّيّ شفرة الناسيت
تبتلعين، مذعورةً، ما استطعتِ مِنّي في حمّى الجنسِ الأخير،
وأنا، ألوذُ بالأرضِ اليبابِ – أُدرِّبُ سُعالي
على ألا يشبهَ سعالَ أبي.
*
هذه العشبةُ العطشى التي تشمُّ رائحة الغيم البعيد،
ثم لا يأتي الغيمُ،
اسمها كلمة.
بلغةٍ تنحتُ من الأساطير والقواميسِ المنسية كلماتها، بنفسٍ ملحميٍّ يعيدُ كتابة المأساة الإنسانية في أبشع صورها، بحزنٍ يلفُّه السواد الذي ينزُّ من داخله؛ يكتبُ الشاعر أحمد م. أحمد نصَّهُ الطويل هذا، الموزَّع عبر عناوين تشبه مفترقات طُرقٍ في أمكنة خالية، كما يوجدُ تحت العنوان الواحد عناوين أخرى، كطرقٍ فرعية، وإن تشعَّبت، تؤدي كلها إلى سوريا، حتى أن باباً كاملاً اسمه “سورياليزمات” ينفتحُ أمامنا، ليستولي على الجزء الأكبر من الكتاب، ومن المقطع المعنون “ظلالٌ تتفصَّد بالدَّم في حفل تصحيح الأخطاء”، نقرأ:
كنتُ العسكريَّ في الأرض البعيدة،
لم أعرف مع مَن، أو ضدَّ مَن قاتلتُ!
لم أخشَ أن تنهشني جثّتي في نعشٍ مظلم واحد، بقدر ما خشيتُ من فكرة أن ليس لديّ من يتذكّرني ويبكيني.
*
كنتُ القطّةَ على حافّة سطح الطابق التاسع، ورائي الهاوية، وأمامي يأتي ولدٌ شرير ملوِّحاً بعصاه!
*
حين كان الليلُ طفلاً، كنتُ أتبارى معه مَن يبزُّ الآخرَ بالسَّواد.
كان ذلك في فناءِ المنزل العتيق المهجور.
مجموعةُ أحمد م. أحمد الشعرية الجديدة، هي كتابٌ عن الحرب والجنون والدمَّار والتوحُّش الإنساني وقد بلغ مداه، عن الدبابات آكلة اللحوم، عن المذابح والمجازر والمقابر الجماعية، عن التاريخ والميتافيزيقا والله، عن الواقع الذي تجاوز في بشاعته الخيال، عن جرو يترنَّم بأغنية وموتٍ أنيق بنيران صديقة، عن شاعر يتغطَّى بساعات سلفادور دالي، عن سرَّتها والماء، وعمَّن يتدرَّبُ على الغرق الأكيد، عن الطفل السوري الذي قال: “سأُخبر الله عمّا رأيت”.
تتجلَّى واضحةً روافدُ الشاعر المتعدِّدة والثريّة، وهو المُترجم الذي نقلَ عديد الأعمال الأدبية من اللغة الإنجليزية، بما فيها ترجمة الشعر والرواية، ويعيش أحمد م. أحمد لما يقارب العقدين من الزمن متنقلاً بين سوريا والولايات المتحدة الأمريكية، مع ملمحٍ أصيلٍ للغةٍ تنحازُ إلى التجريب والمغامرة الشعرية والأسلوب الخاص، كخطوة تنضاف لحشد الخطوات التي نقطعها في طريقنا لاصطياد طائر كوليريدج، حيثُ “كلُّ Step ملحمةٌ”.
“أصيدُ طائر كوليريدج” مجموعة شعرية جديدة للشاعر أحمد م. أحمد، صدرت في 104 صفحات من القطع الوسط، ضمن سلسلة “براءات” لسنة 2019، التي تصدرها الدار وتنتصر فيها للشعر، والقصة القصيرة، والنصوص، احتفاءً بهذه الأجناس الأدبية.
أحمد م. أحمد:
شاعر وكاتب ومترجم من سوريا. صدر له: “جمجمة الوقت”، قصص 1993، و”أحرق سفنه إلا نعشاً”، نصوص 2014. من ترجماته: “رجل في الظلام”، بول أوستر (2010)، “العالم لا ينتهي”، تشارلز سيميك (2010)، “مع بورخيس”، ألبرتو مانغويل (2015)، “المكتبة في الليل”، ألبرتو مانغويل (2015)، “ذلك الشيء الصغير وسيد التبديات” تشارلز سيميك (2015)، “مقدسات ومحرمات وحروب”، مارفن هاريس (2017). كما وترجم لمنشورات المتوسط سنة 2018، آخر رواية للكاتب الأمريكي بول أوستر “1234”. وقبلها رواية “زومبي” لجويس كارول أوتس. مقيم بين سوريا والولايات المتحدة منذ سنة 2000.