لم يفكر السيد باولو سيرنتينو بأنه سيكون في ورطة عظيمة حين صنع فيلمه “الجمال العظيم” 2013 حاصداً الجوائز في “البافتا” و”غولدن غلوب” وصولاً إلى نيله أوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالانكليزية، وقد كنت حين كتبت عن هذا الجمال العظيم قد بدأت قراءتي بأسئلة: ما الذي سنكون عليه أمام من يقول لنا سأضع أمامك على الشاشة جمالاً عظيماً؟ ألا يستدعي الأمر شيئاً من الحيطة والحذر، وربما في توصيف آخر تحضر كلمة مثل الورع!
بورعٍ شاهدت ذاك الفيلم وقد تحول إلى سمة روحية وحسية، سكينة، تميمة مع تكرار مشاهدته، لكن فاتني أن أتساءل في الوقت نفسه وما الذي سيقدّمه السيد سيرنتينو بعد عظمة ما اقترفه من جمال؟
“شباب” Youth 2015 هو ما صنعه، نعم تجرأ وصنع فيلماً بعد سنتين وقد كان ترقبه على شيء من الورع أيضاً، وأنا أنظر إلى بوستر الفيلم ومايكل كاين وهارفي كيتل في بركة سباحة وردفي مادلاينا يحتلان ثلثي البوستر، كما لو أنهما لطقوس عبادة مجهولة، تستحق الاكتشاف والإيمان، وبدا أن التناقض بين يناعة جسدها واتقاده من جهة، وهرم كاين وكيتل من جهة أخرى مساحة اشتباك إنساني جوهري، بين مرور الزمن وهو يقسو على الجسد وبين خلود هذا الجسد في الصبا والشباب، والفيلم ليس إلا كذلك لكنه مستسلم للشيخوخة أكثر منه للاتقاد، ويمكن في كثير منه أن تجده مترهلاً، ولقطات سيرنتينو المتأرجحة وذاك المونتاج الذي يقطع الفيلم إلى جرعات جمالية متتابعة يظهر ويغيب، يتدخل لينقذ الفيلم من كليشهات نعرفها جيداً ولا نريد لها أن تظهر مع سورينتو على هذا النحو، وفيلليني لم يترك باباً إلا وطرقه في هذا الخصوص.
“جب” في “الجمال العظيم” يقابله في “شباب” “فرد” (مايكل كاين) و”ميك” (هارفي كيتل) وكلاهما في منتجع صحي سويسري، الأول مايسترو ومؤلف موسيقي، والثاني مخرج سينمائي، ولقد مرّ عليهما الزمن بحيث صارت أهم الأخبار التي يودان سماعها عن بعضهما البعض تتعلق بأخبار تبولهما وكم قطرة حققا في اليوم. يريد المايسترو أن يتقاعد ممتنعا عن قيادة أي أوركسترا حتى وإن كان الطلب قادما من الملكة اليزابيث، أما “ميك” فيواصل مسيرته الإخراجية وهو في صدد إخراج فيلم جديد ما زال يعمل على السيناريو رفقة طاقم عمل، وإلى جانب الشخصيتين الرئيستين ستحضر شخصية ثانوية تضيء على حياتهما مثلما هي ابنة “فرد” “لينا” (راشيل وايز) وممثل شاب هو “جيمي تري” (بول دانو) الذي لا نعرف من خلاله إلا أن “فرد” كان صديقاً لسترافنسكي، وصولاً إلى ملكة الجمال المرتقبة صاحبة الردفين سابقي الذكر. ولكي لا أنسى فإن “ماردونا” سيكون حاضراً في الفيلم وقد نما له كرش هائل وعلى ظهره وشم لكارل ماركس.
وفيما تقدم سيكون الزمن متوقفاً وحركته بالتأكيد بما يفسح المجال لاستعادة ما مضى سواء من خلال أحاديث “فرد” و”ميك” أو من خلال “لينا” ابنة “فرد” وهي تضيء على علاقتها المأزومة وأمها بوالدها الذي لم يكن مشغولاً إلا بموسيقاه.
ذلك هو الإطار العام للعلاقات التي سينسجها سيرنتينو في “شباب”، ولن تخلو من جماليات سرده السينمائي، لكن على شيء من التشويش، واتخاذ مسارات يجد لها حلول درامية جاهزة، وإن كان سيجعل “ميك” محاصراً في لقطة جميلة بكل الممثلات اللاتي شاركن في أفلامه بعد تأزم علاقته مع ملهمته “بيرندا” (جين فوندا)، ولعل هواجس “فرد” ستتعرض للكثير مما يعوقها لئلا تكون مثلما هي في منامه وهو يعبر ممراً فوق المياه تزاحمه عليه امرأة فاتنة يحتك نهديها فيه لتمر، ومن ثم يغرق، هكذا جماليات ستظهر وتغيب على عجل، ومعها توحده مع الطبيعة والخروج منها بمقطوعات موسيقية من أصواتها وأصوات حيواناتها، هذا لن يتواصل سيتقطع، فهناك خطوط أخرى درامية يجب أن تأخذ وقتها أيضاً، و”فرد” يصل في النهاية إلى أنه شاب من جديد ويقبل إدراة الأوركسترا في حضور الملكة وهذا تماما ما له أن يكون حلاً درامياً جاهزاً.
يتسع “شباب” لجرعات قليلة من جماليات سينما سورينتينو من دون العمق والأصالة المعروف بهما ولا على شيء مما قد يضعه على مقربة من “الجمال العظيم”، بعيدا حتى عن إيقاع “ال ديفو” 2008 وصولاً إلى “صديق العائلة” 2006، بما انعكس على الإيقاع الخارجي للفيلم وعدم تناغمه مع الإيقاع الداخلي كما لو أنه صنع على عجل.