“الصدقة تؤجل الثورة”!!!
لا محيد من أن تهجم عليّ هكذا عبارات مبتورة وبعيدة عن سياقها، أنا الذي أؤمن بكامل قواي العقلية بالسياق، وأن العبارات المجتزأة والمقتبسة شوهاء مهما بلغ وقعها، مهما بلغت حقيقتها.
بالعودة إلى العبارة التي بدأت بها والتي لا أعرف ما إذا وقعت عليها في رواية لديستويفسكي على لسان شخصية اشتراكية فوضوية أو غير فوضوية، أما أنها للينين، حقيقة لا أعرف! ولم أتكبد عناء البحث، فأنا أوردها ضمن سياق واقعي أعيشه كلما دخلت الحمامات العمومية، ولتهبط علي حين يقوم عامل تنظيف الحمام بسحب عدد كبير من المناديل وتقديمها إليّ ناشراً ابتسامة كبيرة على وجهه، وحين أعطيه شيئاً من المال، تهبط عليّ “الصدقة تؤجل الثورة” في تجاهل تام لكون ذلك لا يتعدى الإكرامية أو “البقشيش”.
وفي حالات احتساء كميات كبيرة من البيرة، فإن زياراتي لهؤلاء العمال تكون متكررة، وأحياناً أرتكب حماقات على صعيد السخاء، وهذا ما يحدث غالباً وأنا على حافة الإفلاس، وحينها تهبط تلك العبارة لكن محرضة على التفكير، كأن أتساءل وأي ثورة؟ وأحياناً أخلص إلى أن نقطة انطلاقها يجب أن تكون من المراحيض العامة، منعاً لأي التباس أيدولوجي!
في أول رواية كتبتها أوردت ما يلي: كل ذلك لا شيء أمام ما أمضاه في المرحاض، حين كان حارساً أميناً على البول والخراء، لا يمنح للقذارة أية فرصة، ينظّفها فور مفارقة الزبائن المراحيض، وابتسامة عريضة لا تفارق وجهه، يبدل المناشف فور انتهائها، الصابون السائل، المناديل الورقية.. مياه متدفقة، ضراط، وأصوات ترافق فضلات البشر من كافة الأعراق والجنسيات. كان الشرود حيلته الوحيدة حينها لتمرير الثماني ساعات الجهنمية، يسترق النظر إلى الوجوه التي تنجح أحياناً في تذكيره بوجوه تشبهها ويعرفها، ليتعقبها ويعيدها إلى ذاكرته في عملية فرز لحيواتها…
هل يعرفون أنني كتبت ذلك؟ ما همّهم! لو كنت مكانهم لما قرأت ذلك أصلاً حتى وإن وضِع أمامي، ولطالبت بالإكرامية/الصدقة وتأجيل الثورة، ذلك أنهم لا يريدون مجابهة أسلحة فتّاكة بعصا ممسحة، لا يريدون أن يتحولوا إلى ممسحة لمراحيض هذا العالم الخرائي.