ايف بونفوا.. ثباتاً
العدد 194 | 07 تموز 2016
زياد عبدالله


إلى أسامة شعبان

 

“كنت أنظر إليك تركضين فوق المشارف

كنت أنظر إليك تصارعين الريح

وكان البرد ينزف من شفتيك

ورأيتك تتفككين وتستمعين بموتك أيتها الأجمل

من الصاعقة، حين تبقع بدمك زجاج النوافذ الأبيض.”

 

ما أن يرد اسم ايف بونفوا حتى تطفو هذه القصيدة من أعماقي، محدثة اضطراباً في الفؤاد، خدراً خفيفاً في قفصي الصدري، وما في داخله يريد أن ينعتق، وغالباً ما تترافق استعادتي تلك القصيدة تخيلي امرأة تقف عند سفح جبل والريح تتلاعب بشعرها الطويل. امرأة متيمة لا تحفل بالهاوية.

  بونفوا الحي، أو الميت عن 93 سنة – كما هو منذ أسبوع مضى – ولعل حياته وموته سيان، ولم أكن يوماً أحفل بما إذا كان على قيد الحياة أو تحرر من قيدها، وعلاقتي مع شعره لم تستكن لمنطق ولا تبحث عن رأي أو مقولة، فحين وقعت على كتابه وأنا طالب في الثانوية – أعارني إياه صديقي أسامة شعبان وقد كان يحمله في حقيبته أينما ذهب –  تركته يفعل فعله المدمر البهيج، وأنا أستقبله بلذة من لا يريد أن يعلم عن صاحب تلك القصائد أي شيء، ورافقني هذا الشعور إلى الآن، محافظاً على لذة العالم بالقصائد، يقرأها مراراً ولا ينتهي من قراءتها – وأنا لم أنته بعد من قراءة أعماله الكاملة –  والجاهل تماما بكل ما يحيط بها.  

موت بونفوا يعني أن ما قاله لـ “دوف” في “دوف حركة وثباتاً” قد تحقق أخيراً “لكي تحيي ينبغي عليك أن تعبري الموت فالحضور الأنقى هو الدم المراق”

دمرتني “دوف” كما هي قصائد ذاك الكتاب الأبيض ذو الغلاف البسيط الخالي من أي صورة أو رسم، والصادر عن وزارة الثقافة السورية عام 1986. كتاب سميك من القطع الكبير: على يمين الغلاف مكتوب “ايف بونفوا” يتوسطه “الأعمال الشعرية الكاملة” وفي الأسفل على اليسار “ترجمة: أدونيس”.

قيل الكثير عن أن أدونيس تصرف كثيرا في ترجمته القصائد، وما إلى هنالك من أن الكتاب هو قصائد بونفوا كما كتبها أدونيس، وقد كان ذلك حديثاً فضائياً يجري على سطح المريخ لست معنياً به لا من قريب ولا من بعيد، بما لم يدفعني يوماً إلى الاطلاع على ترجمة غير ترجمة أدونيس، مخافة الأذى البالغ العميق الذي سيحدثه وقوعي على قصيدة “مسرح”  وقد تحوّلت “المشارف” إلى “الساحات” أو “كان البرد ينزف من شفتيك” إلى “كان البرد يسيل من شفتيك”، مهما كانت دقة الأخيرة! ألا اللعنة! كلمة واحدة كفيلة بأن تتسبب بأذى لعمر من الجمال والبراءة.

حدث معي ذلك مع قصائد بودلير النثرية، وقصيدته الرائعة “الغريب” وقد كنت قرأتها مراهقاً في دفتر صغير مصفر لأبي دوّنها فيه عام 1954 من دون أن يورد اسم مترجمها أو مصدرها، وحين صدرت قصائد بودلير النثرية عام 2007 عن منشورات الجمل بعنوان “سأم باريس” أحضرته في الحال، فتحته فإذا أولى قصائد الكتاب هي “الغريب” وكم كان مخيباً ومؤلماً ما قرأت وأنا أحفظ القصيدة كما وقعت عليها في دفتر أبي منذ أكثر من 20 سنة، وتلك “الغيوم ..الغيوم التي تمر” تصبح “السحب ..السحب العابرة”…


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.