لا حاجة لنا لركوب آلة الزمن والعودة إلى القرون الوسطى، أو إلى عصر الخلفاء للإنصات إلى ما يقولونه بشأن إطلاق اللحى ونقحة الصلاة التي على كل راع أن يدمغ بها ليزاود على قاطعي الرؤوس وهو على إيمانه بالذخيرة التي توصف “ذخيرة حية” لأنها تميت.
نحن في الألفية الثالثة بلا ريب، والقتل بحز الرؤوس مظهر حداثي، لا بل ما بعد حداثي، وهناك كثر تورمت أصابعهم من الألعاب الرقمية، وقد جاء دور قبضاتهم لكي تقبض على شيء فما وجدوا بأحسن من السيف والجهاد، فيا لها من حياة مملة تلك التي كانت في البلدان الباردة، وها قد أمست في بلدان الشمس والغبار حافلة بـ “الأكشن” مع “الله أكبر” وقد كانت بالمتناول كما لكل نعجة أن تسمعها وهي تتلقى منة النحر.
إنها العدالة في أعتى تجلياتها ولا تتطلب إلا قتل الكفار، جميعهم من دون استثناء، والحرية كامنة هنا، حرية أن تقتل كل من ليس معك، لا عدالة ولا حرية كما شبّه لنا أن هناك إمكانية لتحقيقهما، ويا لها من خديعة! يا له من وهم! والدهماء فرادى وجماعات صارخين مهللين للقتل، مستبشرين به، وقد أمسى القتل لمجرد قداسة القتل.
الحلف بين الدهماء ولاعبي الألعاب الرقمية على أشده، والفعل الثقافي الوحيد السابق لهذا الحلف كان التبرير، تبرير كل شيء، على طريقة استصدار الفتاوى، وكل جريمة مرتكبة من “القوى الثورية” مبررة على بياض، ولها فتوى جاهزة سرعان ما يجري تلقفها والترويج لها، بما يبيح التشبه بمن تثور عليه، وما لم ينجح ذلك تحضر نظرية المؤمراة الجاهزة أبداً، بما يدفع من كثرة ما تراكم من نظريات، إلى اعتبار كل ما حدث من صنيع النظام السوري بما في ذلك الثورة عليه.
إن ما تقدم هو الدور الوحيد المسموح لـ “المثقف العربي” أن يلعبه في ثورات الربيع العربي، تماماً كما تستخدمه الأنظمة، إما التبرير والتجييش والكذب، أو الصمت والتهميش والتخوين لكل صوت خارج ذلك، أصلاً إن العلاقة بين المثقف والجماهير بالمعنى العريض للكلمة لم تكن يوماً لصالح المثقف، وقد تبدّى على غير ذلك حين تصدى البعض وربما كثر للعب دور ما يطلبه المستمعون وضمن خطاب عام مرسوم ومحدد الملامح والأدوات والتوجهات، في سياق ممارسة الشعبوية عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، مع إغلاق باب النقد كما هو باب الاجتهاد في الإسلام، واللعب على الغرائز، وتدبيج أشد الصيغ التبريرية رداءة وربما وقاحة، ومن ثم التساؤل في نهاية المطاف: كيف وصلنا إلى هنا؟
إنها الثقافة التي لا تعود عن شيء ولا تتراجع مهما كانت الكوارث، إنها ثقافة الاجتزاء وانعدام السياقات والجمل المشظاة والاقتباسات العشوائية، وكله ليبرالي يهلل للمسواك وفرشاة الأسنان، وما بعد حداثي لا يسعى إلا لترسيخ القرون الوسطى والخلافة وأمجاد التقطيع والتطهير في توثيق قلّ نظيره في التاريخ الإنساني للجرائم في بث حي ومباشر للقتل والترويع.