العدد 173 | 17 أيار 2015
زياد عبدالله


يفتتح فيلم رومان بولانسكي Carnage “مجزرة” بلقطة طويلة مترافقة مع «الجنريك»، ومن ثم يبدأ ترقب تلك المجزرة التي لن تقع بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن يمكن الحديث عنها مجازاً.

ما نشاهده في تلك اللقطة الافتتاحية سيكون الحدث الوحيد في فيلم بولانسكي، هناك مجموعة من الفتية في حديقة مدرسة أو ساحتها نراهم من بعيد، ثمة خلاف دائر بينهم، ولنشاهد أحدهم يضرب الآخر بعصا على وجهه، قطع، لننتقل إلى كل ما سنشاهده على مدى 80 دقيقة، ألا وهو اجتماع أهل كلا الولدين لحل النزاع الذي أدى إلى إصابة ابن مايكل وبينلوبي بتورم في وجهه، وفقدانه اثنتين من أسنانه.

موقع التصوير الداخلي لن يتجاوز شقة واسعة في منهاتن قد تجري التنقلات فيها بين الصالون والمطبخ والحمام أو مدخل البيت على مقربة من المصعد، وقد اجتمع أهل كلا الولدين للتباحث بالكيفية التي يحلون فيها تلك المشكلة التي ستقود إلى مشكلات الأهل الوجودية والشخصية والاجتماعية، بما يجعل من أنماط العيش ومقاربات الحياة المتباينة بين الشخصيات الأربع صراعاً درامياً تصاعدياً ينتقل من ذروة إلى أخرى، ولينتهي الفيلم بلقطة لحيوان “الهامستر”، ومن ثم لقطة خارجية تعود بنا الى ساحة المدرسة سابقة الذكر.

يؤكد بولانسكي في جديده أن الدراما ــ كما هو متعارف عليه ــ موجودة في ردود أفعالنا تجاه العالم وليس في العالم ذاته، لكن ردود الفعل في «مجزرة» ستكون ممسرحة ومتكئة على الحوار أولاً وأخيراً، كون الفيلم مأخوذا عن مسرحية بعنوان “إله المجزرة” لياسمين رضا التي شاركت بولانسكي كتابة السيناريو، وليبقى الرهان على أداء الممثلين وتمايز كل شخصية على حدة واتساقها مع آرائها، الرهان الذي لن يكون إلا ناجحاً تماماً لإبقائنا مشدودين إلى الشاشة حتى النهاية.يمكن الحديث بداية عن جبهتين في الفيلم، أي أن تكون بينلوبي (جودي فوستر) ومايكل (جون رايلي) في جبهة، كونهما أصحاب البيت ووالدي الابن الذي تعرض للضرب على يد ابن نانسي (كيت وينسلت) وآلن ( كريستوفر والتز)، لكن سرعان ما يتحول ما يبدو في البداية اتفاقا حضارياً بين الطرفين، إلى منازعة، وبالتالي جبهتين تمنعهما أمور كثير للاعتراف بأنهما في حالة صراع حادة، ولعل عامل التوتر الرئيس سيكون آلن الذي لا يتوقف عن التحدث على هاتفه، ويبدو غير مبالٍ بكل ما يحصل، لكن سرعان ما ستتضح صورة كل شخصية على حدة، فبينلوبي عصابية تبالغ في كل شيء وتحمل هموم البشرية على كاهلها، وتجد في إفريقيا ملاذاً روحيا لها «لعقد ذنبها»، كما سيقول لها آلن، بينما ستكون نانسي امرأة خرقاء وعلى شيء من تقبل كل شيء، بينما يكون مايكل رجلاً طيباً خاليا من العقد والغرور، وما إلى هنالك من خصال يمكن لآلن أن يحملها.

ستتوالى التغيرات الدرامية أثناء الحوار الذي يتشعب ويتصل وينفصل، يتصاعد ويهدأ، يكون تهكمياً وساخراً أحياناً، وحزيناً ومأزوماً في أحيان أخرى، والتغيرات تحدث وفق فواصل متعلقة بتقديم بينلوبي القهوة التي تمنع آلن من أن يغادر هو وزوجته، أو انتقالهم إلى شرب الكحول، كما في النهاية، أو عبر الاتصالات الكثيرة التي يتلقاها آلن واتصالات والدة مايكل به. بالعودة إلى الحديث عن الجبهات فإنها ستتغير مرات عدة، كأن يصبح الرجال في خندق واحد ضد النساء “النساء يفكرن كثيراً”، كما يقول آلن، ستتمرد نانسي على آلن وترمي بهاتفه، بعد أن تكون قد تقيأت على كتب بينلوبي، وهكذا تتنوع الصراعات والتغيرات الدرامية بحنكة معلم كبولانسكي، كما يقول لنا في النهاية: كم محزنين ومضحكين نحن البشر.

__________________________________

يوجد ضمن مواد هذا العدد أيضاً، ترجمة لقسم مطول من مسرحية ياسمينا رضا “إله المجزرة” ولقاء معها.


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.