فأر في البيت
العدد 259 | 11 أيلول 2020
زياد عبدالله


في أوقات محايدة لا ينالك فيها شر ولا تنعم بخير، لا شيء من هذا ولا ذاك ولا ما بينهما، تكتسي أشياء تافهة بأهمية عظمى، كأن تكون جالساً إلى طاولة تحاول بلا أمل يذكر أن تكتب، فتمضي إلى تدخين سيجارة فتكتشف أن العلبة فارغة، فتقذف بها عالياً إلى الخلف حيث توجد سلة المهملات فتستقر بها، فتفرح أيما فرح، وتجد في ذلك إشارة متأتية من أمل غامض، بأن ما تفعله سيلقى ما لاقته علبة السجائر، وستحقق ضربة صائبة، وإصابات مباشرة في الأهداف التي تصوّب نحوها، فتمضي إلى كتابة ذلك، كما فعلت، وكما تقرأ ما فعلت الآن!

ويترافق ذلك مع صعود أفكار أكتشف فجأة بأنها تحتكم على قدر كبير من الحقيقة، فكأن أجد ضالتي فيما أعيشه وتعيشونه اليوم (إن كنتم مهتمين بمعرفة ما تعيشونه) في مقطع فيلم تحريك قصير شاهدته وأنا صغير في برنامج “افتح يا سمسم”[1]، حيث رجل يغط في نومه وقد علا شخيره أمام بيت، فإذا بامرأة تصرخ من البيت: “النجدة النجدة النجدة،” فيستيقظ الرجل ويقول: “ماذا ماذا ماذا؟” فتجيبه المرأة، “فأر في البيت.”، وليقول “لا تهتمي أبداً” ويحضر قطاً “فالفئران تهرب من القطط”، لكن ذلك يدفع المرأة إلى الصراخ مجدداً “النجدة” فالقط كسّر الصحون وأكل سمكة الزينة المتواجدة في الحوض، فيُحضر الرجل  كلباً لأن القطط تهرب من الكلاب، إلا أن الكلب يمزق المقعد ويفعل ما لا تحمد عقباه، فيقوم الرجل بإحضار فيل، لأن الكلاب تهرب من الفيلة، وبعدئذٍ لا يجد محيداً من أن يعود إلى الفأر حتى يتخلص من الفيل، مكتشفاً أن عليه مستقبلاً أن يستخدم مصيدة، ولتبدو أن القصة كل القصة ماثلة في هذه المصيدة التي لا يتبادر إلى ذهن الذي كان يغط بشخيره أن يستخدمها من البداية، فيلجأ إلى حلول متتالية عبثية لا بل كارثية، والتي بدورها تساهم بنجاعة بالقضاء على الوضع الكارثي القائم عبر استقدام كارثة تتفوق على السابقة وهكذا دواليك، والأنكى من ذلك أن شيئاً لا يتغير إذ يعود كل شيء إلى البداية – الفأر، لكن مع حجم خراب أكبر، يستدعي التفكير بشيء صغير لا يتعدى حجم مصيدة! كما هو تحويل استقرار علبة سجائر فارغة في سلة مهملات إلى إصابة محققة وجودية، وليبدو جلياً أن ذلك من دواعي الانهيارات اليومية للأسس التي قامت عليها نظرتي إلى هذا العالم، والحاصل في منطقتنا يوغل أكثر في تدميرها وتدمير تلك الأسس، ولتتطلب مواصلة ما يمت بصلة للجمال فناً وإبداعاً جهوداً مضاعفة، فالقول مثلاً إن تحويل العادي إلى جمالي إبداع، تحوّل ليصبح تحويل الكارثي إلى جمالي إبداع، وما كان يبدو من عشر سنوات كارثة أمسى رفاهية وفق المعاش والهراء الذي يعصف بهذه المنطقة من كل حدب وصوب، وليبقى أمل غامض، يتمثل بكون أي فعل أصيل ونير في هذه المرحلة قد يلقى ما لاقته علبة السجائر! ضربة صائبة لكن في سلة المهملات!   

 

———————–

[1]  الفيديو في هذا الرابط https://bit.ly/2YIXkfh


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.