على الأرجح أن “دون” لم يحب “بلكونته”!
العدد 271 | 18 حزيران 2022
إبراهيم توتونجي


… و”دون” غاضب الآن! لا يظهر ذلك للوهلة الأولى. لكن المخاوف تقتات من قلبه. الصحافيون أتوا لكي يسجّلوا معه حديث ذكريات، ويلتقطوا مشاهد حيّة من موقع تصوير فيلم “راف كات” (1980)، الذي يخرجه “دون” وقد بلغ من العمر 68 سنة. ليس عمرا مثاليا للتذمر، لكنه، قلق هذا الصباح. ثم يظهر للكاميرا رضاه عن إطلالة بلكونة بيته المشرفة على وادٍ خصيب، لكنه سرعان ما يستدرك بروع مفاجىء:” الأمر قد ينقلب سريعا الى أمر خطر في الشتاء، حين يطوف الماء ويُغرق الوادي”.

مثل مخرج قصص جريمة خبير، اعتاد أن يكون متشككاً، يمضي من البلكونة إلى غرفة المكتب، معلّقاً وراءه علامات استفهام غامضة، سيتوجب علينا، نحن المشاهدين، أن نلمّها، كما تلمّ مشابك الغسيل عن الحبال.. قبل أن نقفل الباب..

هل يحب دون “بلكونته” حقاً؟

لقد انفعل لتوّه حين تخيّل مشهد الطوفان. كان من السهل لنا أن نلحظ ذلك. ثم، على مضض، استدرج هدوءه:” بات آي لايك ات.. اتس نايس هير”.

في الداخل، يتمطى. يتعلّق بقضيب حديدي مثبّت تحت حاجب الباب ويتمايل مثل قرد يستعرض. وحين يتصرف على هذا النحو، تومض من عينيه شعلة. لعله الإحساس بلحظة شباب عابرة. غامرة.

ثم يعود مرة جديدة لغضب يصبّه بمفعول رجعي، مثل “فلاش باك” حاد القطع للماضي. ينتفخ خدّاه فجأة كجرابي كنغار، بزفير يحبسه في فمه، مكوّرا بالوناً من التأفف، يذكّر بالطريقة التي غالباً ما يتحدث فيها الفرنسي لا الأمريكي: النفخ المتأفف للحروف. ثم يسرد شكواه، فنعرف أخيراً، مكمن غضبه. يعترف أخيراً، مثل أب، ارتمى في لحظة اختلال توازن نفسي، على كرسيه، وقرر، بعد عقود من العمل الجاد، والتحامل على تعبه، والصمت الصاخب، أن يفتح صدره ويتحدث أخيراً. هنا، لا نشاهد الصحافي الذي يحاوره من وراء الكاميرا، نستمع فقط الى صوته الرنّان ونخمّن أنه شاب. عليه في مطلق الأحوال، أن يكون كذلك، فنحن في حضرة مشهد انهيار “الأب”.

“لقد تعبت، تعبت كثيراً في الأفلام. صناعة الأفلام مهنة مضجرة تستنفذ الوقت والطاقة. عليك أن تكون في حالة فعل مستمرة إن كنت مخرجاً. لا سكينة. لا هدوء. من السهل على المؤلف أن يتحدث عن شخصية تصعد جبلاً، وتمشي على الحافة، وتعاني من برد الجليد. هذا خيال، على ورق، على ظهر مكتب، في مكان مريح وآمن. لكن تحويل هذه الخيالات إلى صور سينمائية، أمر آخر تماماً. عمل شاق. لقد صنعت الكثير من الأفلام. بعضها لم يشتهر في أمريكا. لكنني لم أكن أعرف أنني مشهور في فرنسا. كان علي أن أذهب لهناك منذ زمن مبكر”، يصدمنا المخرج الذي صنع 50 فيلماً في حياته منذ أول أفلامه القصيرة “ستار أوف ذا نايت” (1945) وصولا الى “جينكيسد” (1982).

ربما يعاني “دون” من “متلازمة الافتقار الى التقدير”. وهو ما دفعه إلى هذا التأرجح الحاد بين الانفعالات. وربما هو ببساطة لم يحب بلكونته أبدا!

علينا ربما أن نغوص قليلاً في ذكرياته لكي نفهم لماذا حين يكبر الإنسان وينظر إلى مسيرة حياته الحافلة قد يشعر.. بالغضب. بدأ “دون” حياته العملية مساعداً لموظف مكتبة سينمائي تابعة لاستوديوهات “وورنر براذر”. هل تتوقعون ما المهام التي تنطوي عليها هكذا مهمة؟ أولا التأرجح على سلم مفرود بين السقوط والارتطام، وثانيا الضجر، وثالثا النفور من الأسئلة المدّعية لصنف الناس الأغبياء، ورابعا الضجر، وخامسا هناك التعرّض باستمرار، الى نقل الغبار من أغلفة الكتب الى داخل الجيوب الأنفية تحت ثنايا جلدة الوجه، والتي حين تتضخم تصبح أيضا مثل جرابي الكنغر.. وسادساً الضجر.

سيكون عليك أن تتفق مع أحدهم للهروب ذات يوم من سجن المكتبة. وقد فعلها، الشاب “دون”. هرب من المكتبة الى داخل غرف المونتاج ثم الى وحدات الاخراج المساعدة، من دون أن يعرف أنه يرسم بذلك طريقه لكي يكون “أكثر مخرج أميركي موهوب في تاريخ سينما هوليود”.. هكذا يظنّ، على الأقل، الفرنسيون!

سيحظى “دون” خلال السنوات الأخيرة من حياته (توفي عن 79 عاما في العام 1991)، ولكن بشكل مكثّف أكثر بعد رحيله، بإعادة قراءة جادة لمجموع منجزه السينمائي، والأثر الحقيقي لأفلامه في صناعة هوليود وخارجها. تلك الأفلام التي وصفت ذات مرة بـ” الأكثر اكتمالا من النواحي التجارية”، أصبح يشار إليها اليوم بين النقّاد ومحبي السينما الفنيّة بـ “التحف ذات الثقل”. وباتت دورات إعادة عرضها تتم في احتفاليات استعادية خاصة في “المسرح البريطاني الوطني” و” متحف الفن الحديث في نيويورك” وأماكن ثقافية راقية حول العالم.

كل الجثث في أفلام “دون” ذات ثقل، باستثناء تلك التي يكوّمها كلينت استويد حاصداً أرواح ناسها بخفّة، حين، بشكل خاص، يلعب شخصية “راعي البقر”. بخلافها، يعتني “دون سيغال” بمشهد جثّته عناية تامة. سيفتتح بها الأحداث كما في “لاين آب” (1958) أو يختتمها كما في “ذا كيلرز” (1964)، أو يبني عليها عقدة وراء عقدة، وكل عقدة من عقده تلتف حول شعيرات رموشنا وتمنعها من الانغلاق: مش حتعرف تغمض عينيك”. لعلّ “دون سيغال” يستحق ملكية أولى لهذه العبارة، إذ إنه غالبا ما يصوّر جثثه من أعلى، محددا موقعها في السياق الأشمل. من فوق، يبدو الموت مثل لطخة سوداء على ثوب الحياة اليومية المتحرك والصاخب، الصادح بأصوات عجلات سيارات سباق تنبض بخيال أرنست همنغواي ( استند فيلم ذا كيلرز على قصة له) أو من إلحاحات “عقدة أوديب” حول نظرية “قتل الأب” (في لاين آب يقتل المجرم مهربا لأنه استثار لديه قسوة أبيه عليه) أو من اعتمالات صارخة في صدر راهبة مؤمنة “بها مس” (كما يصف استويد الراهبة في فيلم “بغلان للأخت سارة”).

حول تلك اللطخة، تتسع عدسة الكاميرا لكي نشاهد إطاراً يتسع لرجال تحريات يدورون حول الجثة، ونساء كنّ مارات على الرصيف بقبّعات مزينّة، ثم رفعن أجسادهن على أطراف الأصابع لكي يتبينّ المشهد من خلف أكف الرجال العريضة التي أقفلت حلقة حول الكتلة المجثاة، وأيضا الشوارع العريضة لمدن سان فرانسيسكو ونيويورك وغيرها في نهاية الخمسينيات، مروراً بحلقة الرقص على الجليد، والمباني، وطرف الميناء.. جثث “دون” معتنى بها حقا، كما لو أنها جوهر لوحات فنيّة رسمت لمدن أمريكا، ستبقى إلى الأبد معلّقة في متحف السينوغرافيا الجميلة، وموثّقة لشكل تلك المدن على مدى أربع عقود وأكثر.

في جلّ أفلام الجريمة التي أخرجها، ومن بينها التي ذكرت أعلاه، نتبيّن هذه الأفكار بوضوح. وفي فيلم “اسكيب فروم الكتريز”( 1979) نلتقي مجدداً بسيرة أمين المكتبة المستوحاة، ربما، من الحياة الشخصية لمخرج الفيلم. هنا رجل داكن البشرة يعمل كأمين مكتبة داخل سجن حقيقي، اعتبر أحد أخطر سجون أمريكا لسنوات طوال بضمه شخصيات مجرمة من أمثال “آل كابون” ودعايته بوصفه “السجن الذي لا يقهره أي مخطط للهروب”. مع تقدم الأحداث، سيحفر كلينت استويد، بطل الفيلم، مصطحبا آخرين من بينهم أمين المكتبة، عبر ممرات حفرها من خلف فتحة التهوية في زنزانته، بطرف شفرة حادة، ورأس حجر مدبب.

المكتبة.. هناك حيث تفترش الأرفف عفاريت ابتدعها كتّاب مرفهون لم يتصبب منهم العرق على حاف جبل ولا تصلبت شرايين أذرعهم على ضفاف بحيرة جليدية. مكان مخيف، بحق، يجدر دوما، الهرب منه!

بات من الواضح لنا أن “دون سيغال” لم يحب بلكونته بصدق.. ولا المكتبة!

قد يدفعنا ذلك إلى تخيل أنه كان كذلك على الدوام. طيلة حياته. متبرّماً. نزقاً مثل مخرجين كثر. ملولا ًومزاجياً. لكنه في الواقع، على عكس ذلك. فإن هو اشتهر بشيء، فبمقدرته العجيبة على “تنفيذ كل شيء وأي شيء ضمن الميزانية” وبأن يكون “فعالاً للغاية”، خاصة أنه تخصص بإخراج مشاهد مطاردات تأخذ خلالها الخيول أو السيارات مساحات واسعة من موقع التصوير. و”كل شيء” عبارة قد تشتمل على لائحة مدهشة من العمليات الشاقة: التعامل مع حالة السكر التي يأتي بها روبرت ميتشوم الى “اللوكيشن”، ناهيك عن تأخره لأن الشرطة أوقفته على الطريق لتصادر لفة “حشيش” من ثيابه، اضافة الى تذمر ألفيس بريسلي من مشهد انهيار نفسي، مرورا بإقناع كلينت استويد بأن يظهر بأطول لقطة عري كامل لجسده صوّرها في تاريخه. يمشي في بداية فيلم ” اسكيب فروم الكتريز” فاردا ًعضلات فخذيه وصدره على امتداد رواق السجن.

كعارض أزياء بهي يتفرج عليه المسجونون من خلف قضبان الزنزانات ويمص بعضهم شفاهه، يقدم “دون” بطله. لقد دفع “دون” استويد للثقة به. عرّاه في مشهد، لكنّه كسا نجوميته ببريق خاص في عدة أفلام، عدّ بعضها من كلاسيكيات السينما. منحه أيضا التشجيع لأن يجرب إخراج الأفلام وهو ما استمر عليه استويد الى اليوم بدءاً من فيلمه الأول ” بلاي ميستي فور مي” (1971). منحه أيضا إحدى أكثر الشخصيات السينمائية جدلا لدى ظهورها، كسرت الصورة النمطية للبطل وقدمته على أنه نافر اجتماعياً، ومتطرفا (وصفها بعد النقاد بالشخصية التي تروج الفاشية): التحري “ديرتي هاري”.

بالمقابل منح استويد صديقه تدفقاً أكبر لميزانيات الانتاج، وأفاع وتماسيح وخيولا وحتى أسودا ًمكلّفة، كما في الفيلم الذي صوّر كاملا في المكسيك:”بغلان للأخت سارة” (1970) الذي تمكن المشاهدون من خلاله من رؤية طرف ضيئل من خط ردفيّ “الأخت” شيرلي ماكلين، مقابل رؤية مؤخرة استويد كاملة في ” الكتريز”!

في عام 1915 كان عمر “دون سيغال” ثلاثة سنوات فقط حين أصدر شاعر أميركا الرحّالة فاشيل ليندساي (الذي سينهي حياته جثة متأرجحة بحبل مثل قرد غير مبال)، كتابه المرجعي عن السينما ” فنون الصورة المتحركة” (1915) وتنبأ فيه بوصفة الفيلم الناجح: تشويق وابهار وحميمية. وهو ما سارت عليه هوليود إلى اليوم، وما امتهنه “دون” بحرفة.

لكن القاعدة لا تنطبق على أفلامه فقط، فهو بشخصه، وان كان محبّاً وخائفاً من بلكونته، لاعنا للكتّاب ومحتضنا إبداعاتهم، قائداً لاستويد ومنقاداً له، كان، بلا شك: مبهراً.. حميمياً.. مشوّقاً.. ومن الأكثر موهبة!

لقد صدق الفرنسيون.. أخيراً!


كاتب وصحافي من لبنان، ومن المساهمين الأوائل في الكتابة في أوكسجين.