“عزيزة”.. اللجوء من زاوية علوية
العدد 255 | 24 نيسان 2020
نوار عكاشه


الواقع المجنون يذهب بِالمُلزَم بِه نحو أعلى مستويات الصدمة، مما يفرض تحولاً ذهنياً أوتوماتيكياً نحو الأوهام وأحلام اليقظة والحوارات العلنية مع النفس.

يكشف الخيال الروائي في الفيلم القصير «عزيزة» (2019،  13دقيقة – فاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى من مهرجان صندانس) عن جدوى الخيال كَوسيلة وسلاح للاستمرار، لكن مخرجته السوريّة سؤدد كعدان (1979) تتخطى ذلك نحو استمزاج حالة شعورية اجتماعية تشمل السوريين عامةً عبر حكاية رمزية عن زوجين سوريين لاجئين في لبنان، أيمن (عبد المنعم عمايري) الذي يحاول تعليم زوجته عليا (كاريس بشار) قيادة سيارته “عزيزة” في شوارع بيروت، وليتحول الدرس إلى فعل جنوني تتكشف معه نوستالجيا الوطن والفقد.

تأخذنا كعدان التّي كتبت السيناريو بِالشراكة مع مي حايك في رحلة بوح عفوية مُطعَمة بفنتازيا التكيف، فَالمكان بعيد عن الوطن مما يفرض حالة شعورية مركبة على الشخصيات، لكن وطن اليوم أيضاً بعيد عن أبنائه ولا يشبه ما كان بِالأمس، اللجوء والبقاء لم تكن خيارات للأغلبية، والنجاة أصبحت حلم الحاضر العبثي.

يتوزع السرد في الفيلم على ثلاثة محاور درامية، البداية مع لعبة تمثيلية للزوجين للسياقة في شوارع لبنان، تختار المخرجة الكادرات الضيقة والأداء التمثيلي المتوتر للتعبير عن فضاء درامي مشحون في المغترب، وحتّى الخيال يعجز عن تجميله ومواربته، فَالخوف سيد الموقف، واللاجئ ضعيف أمام رفض المكان لهُ.

ثم تنتقل لِلواقع المُعاش، وتطرح في هذا المحور بعضاً من فوضى المكان وعوائق العيش فيه، مما يشكل صراعاً بين عجز الخيال وصعوبة الواقع.

تستعصي هناءة العيش في تلك البيئة الرافضة، ويبدو حلم اليقظة حلّاً ضرورياً للاستمرار وإخماد الحنين، فَتأخذنا كعدان مع أبطال فيلمها لِمحور آخر عبر مشهد تصوري تمثيلي في شوارع دمشق وطريق عودتهم لبيتهم، وعودة المهجّرين من أصقاع الأرض وكأن الوطن عاد وطناً.

حرصت كعدان في هذا المحور على تقديم صورة واسعة للمكان لِتعكس رحابة الوطن والطابع الحميمي الهادئ لِلعيش بِه. يتعاظم الخيال ويطمع بالمزيد، يقترح رحلة إلى البحر، لكن الطريق مسدود! فَهل طاقة الخيال قادرة على مجابهة الواقع باستمرار؟ أمّ أنّها تُستَنزف مع توالي المطبات ومرور الزمن؟

قدّم اجتماع عبد المنعم عمايري وكاريس بشار أداء تمثيلياً مُفعماً بالحيوية والتناغم، شاركت به “عزيزة” بطرازها العتيق ولونها الأحمر القاني ومراياها التّي عكست أحياناً انفعالات الشخصيات، والقدرات الأدائية المميزة التي يحتكم عليها عمايري وبشار، فضلاً عن رمزيتها التّي أعطتها روحاً وجعلتها شخصية أساسية في الشريط.

في ظلّ تداعيات الحرب والانقسامات السياسية؛ عبّرت كعدان في “عزيزة” (إنتاج: كاف برودكشنز) بشفافية وبساطة مرهفة عن الانقسام بين الواقع ورغبة الإنسان بعيش واقع مختلف، كما شهد الفيلم مشاركات وجوائز عديدة في المهرجانات السينمائية الدولية، وكان قد سبقه نجاح كبير لِباكورة أفلامها الروائية الطويلة «يوم أضعت ظلّي» (جائزة أسد المستقبل في مهرجان فينيسيا). ما يجعلنا في حالة ترقب لِجديدها الروائي الطويل “نزوح” الذّي تحضر له حالياً وتستكمل به البنية التي تأسس عليها “عزيزة” ولكن بِرؤية عكسية، حيث تعالج فكرة رفض مغادرة الوطن ومعاندة التحول للاجئ في الغربة.

 

*****

خاص بأوكسجين


ناقد سينمائي من سورية.