عبدالعزيز جاسم ولزوم ما يلزم
العدد 217 | 11 آب 2017
زياد عبدالله


لن يكون صدور “الأعمال الشعرية 1” (دار التنوير 2017) للشاعر الإماراتي عبد العزيز جاسم حدثاً عابراً – بالنسبة لي على الاقل – فهي تتضمن أولى مجموعاته الشعرية “لا لزوم لي” والتي حين قرأتها في منتصف تسعينات القرن الماضي، وقد كنت حينها لا أعرف شيئاً لا عن الإمارات ولا عن كتّابها وشعرائها، قلت: اللعنة من هذا الذي يكتب بهكذا حساسية مدهشة هناك؟ من هذا الذي يقترف قصائد نثر دامغة ويقول أشياء مثل “لتسترح/ فماذا يهم لو أن الأحلام ضاعت في الممشى/ والسماء طالت لحيتها وأخذت شكل مكنسة./ ماذا يهم لو أن الدعة قيّدت في جارور/ والأحبة – سريعاً –دفنوا ألبوم صورنا في الرماد/ وأفرغوا لمسة الفجر منا.”

وكان كل سطر في “لا لزوم لي” يقول هذا لزوم ما يلزم لمعرفة ما تمارسه المتغيرات الدراماتيكية في دولة الإمارات، وما يمكن أن تكون عليه القصيدة وليدة مدن مفرطة الحداثة خرجت فجأة من رمال الصحراء، مدن قيد الإنشاء على الدوام، “خمسون عاماً، ونحن في الشاحنة ذاتها. في المدينة ذاتها. في المقبرة ذاتها. بوجوه مدمرة كبلدة مقصوفة. نتساقط كحبات الحبق، بين غبار الصحراء واسفنجة الوهم والليل الزيتوني بلا حدود. نميل على بعضنا خوف أن ننكسر. خوف أن نتلاشى كالدخان ولا يعرفنا أحدٌ. وكنا بعد أن سدّ اليأس أفواهنا. لم نعد نتكلم، ولا نغني، ولا نسمع شيئاً، ولا نعرف إلى أين نمضي. وحتى أننا كنا نقف على قارعة الطريق، ونبول على هذه الحياة التي جئنا منها”. ولعل قصيدة جاسم في أحد ملامحها متأسسة على سباق شعري مع هذا النمو المتسارع الذي شهده، ينتصر فيه الشعري كونه يلاحق هذا التسارع وطبقات من الماضي متوارية في متنه، ذاكرة تستدعي منه التمسك بها على طريقته، بالتجريب، بقصيدة النثر، الشكل الأقدر على استيعاب جنون الطرقات السريعة والأبراج وصدمة من يستيقظ في كل يوم ليجد ما حوله قد تغير”هناك فوق العمارة التي تذوب قوائمها/ والصمت الذي يمزق الكلمات/أحسب المرساة ريشة/والإنسان فقاعة.”

تحتوي أعمال جاسم الشعرية (يمكن الاطلاع على مختارات منها في المادة المعنونة: “يمشط شعر الشياطين ويغني” ضمن مواد هذا العدد) إضافة إلى “لا لزوم لي” مجموعتين هما “آلام طويلة كظلال القطارات” و”افتح تابوتك وطر” واللتان صدرتا للمرة الأولى عام 2010، ويمكن أن يلتمس القارئ فيهما التوسع المكاني الذي ألمّ بتجربة جاسم، سواء الواقعي أو الافتراضي، ففي النهاية يؤسس جاسم لكل قصيدة عالماً خاصاً بها، ومن ثم يستدعي إليه استعارته، عتاده من التقاطات تنعطف إلى عوالم أخرى تشد من عالم القصيدة، محافظاً دائماً على بنية القصيدة، امتدادها، استكمالها، والوصول إلى نهايتها وقد استنفدت تنويعات جمالية حثيثة في الإطباق على ما يتسرب من بين الأصابع، وتركيب ما هو متضاد ومتجانس شعرياً وحياتياً ووجودياً “ولكنهم، في غفلة منا، خرجوا/ ولم يثنهم مزلاج الرقة/ ولا الصقور الطينية عادت من هجراتها/ بل إنهم قذفوا بنا، هكذا دون رحمة/ في لجة النهر المرسوم على الجدار وخرجوا.”

صيغة الجمع التي تحضر كثيراً في قصائد جاسم تضعنا حيال ما له أن يكون استنطاقاً لجماعات وأقوام بشرية، للشاعر أن يكون منتمياً أو غير منتمي لها، أحياناً يرمقهم من بعيد أو عن كثب، وأحياناً أخرى ينغمس بآلامهم ومآلاتهم، ولتكون أناه حاضرة ومموهة من دون تنصل، هذه الأنا التي تتقدّ أيضاً منفردة من دون صيغة الجمع “هذا حصاد خاسر إذاً، أنتم يا من تركتموني أذوي/ بلا فحم في البرد/ أمضغ لحيتي ولساني وذاكرتي/ وأرقب الدروب التي ضيعتني”.

_______________________

اسم الكتاب

“الأعمال الشعرية 1”

اسم الكاتب

عبد العزيز جاسم

الناشر

دار التنوير 2017


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.