حلم ظهيرة صيف
العدد 270 | 03 حزيران 2022
زياد عبدالله


 

” تحب الميناء أكثر من البحر!”

لم يكن ذاك ميناء وفيه سفينة أو سفينتان، لا أثر لعمال ولا شاحنات، ولولا الرافعات وبضع حاويات لكان بحراً خاوٍياً مقفراً يستدعي التفكير بالأفق وما وراءه وهكذا تداعيات.

مشينا على طول الكورنيش. استعصت الذكريات وذاب الحنين تحت أشعة الشمس، وبتنا بين حديقة ومتحف، الأولى على يميننا وفيها مزار لولي لم يكن سوى جندي من جنود الظاهر بيبرس، وفي الثاني أوابد وتماثيل تشهد على حضارة الخمسة آلاف سنة.

” صوتك مبحوح؟”

ورحت أردد كلمات خبط عشواء كما لو أنني أجرّب ميكرفون قبل إلقاء خطبة عصماء، والكلمات باتت عبارات من هذا القبيل:

 “كلما ازددنا عراقة ازددنا فداحة -“

لم تلقي بالاً لما قلت، ولا أنا أيضاً. فقد كان صوتي مبحوحاً بحق!

ثم انفتح البحر مجدداً من على يميننا، وأحسست بأنني اتخبط فيه، ولن أنجو…لن!

وكم أحسست بالعجز وأنا لا أقوى على إطلاق نداء استغاثة بصوت مبحوح.

 

***

 

أتذكر :

رائحتها.

هناءة بيتها.

اتساق أثاثه البسيط.

برودته المتحالفة مع رائحتها، وهي تنزع عني قيظ الظهيرة كمعطف.

رائحتها وهي تحنو عليّ.

صوتها وهو يعبق برائحتها.

بشرتها ومساماتها وهم في خضم رائحتها.

رائحتها

رائحتها

منجاتي وبحة صوتي.

 

***

 

في الطريق إلى بيتها، اشتريت باقة زنبق، ولم يدع لي بائع الورود ولو لمرة واحدة أن أقول “زنبق” من دون أن يتبعها – كما لو أنه يصحح لي – بـ “زنبق بحري”.

كانت باقة كبيرة، بيضاء، والشمس تسفعني وتسفعها، وأنا أتقوّى بها على ظهيرة أعرف أنها نقيض بيتها، وهو يلحق برقته وبرودته الحانية الهزيمة تلو الهزيمة بالقيظ والقسوة.

استقبلتْها بضحكة كأنها “رفرفة ألف من الطيور البيضاء”.

لم تمضِ بضعُ دقائق حتى أصبح الزنبق لعنةً، وكرهتُ الزنبق البحري والرملي والأرقط والأزغب…  

يا للوقاحة!

لقد داخل أريجُه رائحتها.

 

***

 

“أهديتني العام الماضي، زنابق للمرة الأولى

فسمّوني فتاة الزنبق،

لكن حين عدنا متأخرين من حديقة الزنبق

وذراعاكَ ممتلئتان، وشعركَ مبتلّ، لم أستطع الكلام،

وخانتني عيناي، لم أكن

حيةً أو ميتةً، لم أعرف شيئاً

وأنا أحدّق في قلب الضياء، والصمت.

مقفر وخال هو البحر”*.

لابد أن السيد إليوت كان معنا ونحن في أرض اليباب، استخلص الزنبق والبحر مقفر وخال وكذا هو الميناء، وقد أمست رائحتها حلم ظهيرة صيف.

 

———————

* من قصيدة إليوت الشهيرة “الأرض اليباب” بترجمة فاضل السلطاني الجديدة لها، الصادرة عن دار المدى 2021.

 

 


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.