تيتلي .. فراشة في مهب العصابات والجرائم
العدد 185 | 21 كانون الأول 2015
زياد عبدالله


ما من أغاني ورقصات في الفيلم الهندي “تيتلي” Titli، لا بل يمكن اتخاذ تنظيف الأسنان لازمة موسيقية مترافقة مع حفلات تغزيل الحلق والغمغات التي ترافق قيام تيتلي وأخيه فيكرام بتفريش أسنانهما.

سيقول لنا فيلم “تيتلي” من البداية بأن مخرجه كانو بيهل – في أولى تجاربه الإخراجية – ماض نحو تقديم كل ما هو مناهض لبوليوود، محصناً فيلمه بكل ما يجعله بمنأى عن الإصابة بأي عارض ميلودرامي بوليوودي، إنه الواقع عارياً ما سيطفو على الشاشة أمامنا، بكل قسوته وربما وحشيته، وصراع الشخصيات الرئيس هو مع هذا الواقع الذي لا يعرف رأفة أو رحمة، وحياة الإنسان في شوارع دلهي لا تساوي رصاصة، بل مطرقة تنزل على رأسك، لا لشيء إلا لسرقة سيارتك.

يتأسس الفيلم على سِفر خروج تيتلي (شاشنك أوروا) من واقعه، والهرب من عائلته المؤلفة من أب صامت (لاليت بيهل) وفي أعماقه جاهزية خارقة لممارسة شتى أنواع السفالات لضمان أكله وشربه ونومه، وأخوين: الكبير فيكرام (رانفير شوري) والأوسط بارديب (أميت سيال)، اللذين يقومان بأعمال السلب والنهب في دلهي تحت حماية عصابات الجريمة المنظمة والشرطة الفاسدة.

تعيش هذه العائلة في بيت ضيق تعمه الفوضى، في إحدى عشوائيات دلهي تقع على ضفاف المجارير ومعالجة النفايات. سيكون أمر خلاص تيتلي من إجرام عائلته أمراً بالمتناول، فهو جمع تقريباً المبلغ الذي يستطيع من خلاله استئجار موقف سيارات ليقوم باستثماره، لكن وفي إحدى عمليات السطو التي يقوم بها رفقة أخويه تتمكن الشرطة من إلقاء القبض عليهم، ويكون مبلغ المال مع تيتلي في حقيبته.

طبعاً لن يستمر إيقافهم في قسم الشرطة أكثر من ساعة، كون الشرطة متعاونة مع زعيم العصابة التابعين لها، لكن سيكون المبلغ الذي بحوزة تيتلي قد سرق منه وذلك من قبل الشرطة نفسها.

سيعود تيتلي إلى نقطة الصفر في صراعه مع واقعه، وسيضاف إلى خط قصة الفيلم الرئيس خط درامي يتشكل من قرار أخوي تيتلي تزويجه، في مسعى منهما لاستخدام الزوجة في عمليات السطو التي يقومون بها، وهكذا ستدخل بينتو (رانفير شوري) بقوة إلى أحداث الفيلم، ومعها عالمها الذي نكتشفه لاحقاً.

كل شيء سيمضي على ما يرام، بالتوازي مع دخول خطوط درامية جديدة على اتصال بفيكرام وبارديب، موقظة آمال تيتلي من جديد ومعقدة الأمور أمامها في الوقت نفسه.  سيجري استغلال بينتو في عملية سرقة سيارة حيث ستشهد كيف يقدم فيكرام على تهشيم جمجمة بائع السيارة، ووضعه في المقعد الخلفي في السيارة وضربه وهو مضمخ بدمه ليثبت لبينتو أنه ما زال حياً، والأخيرة تتبول رعباً وهلعاً.

ستكون بينتو على علاقة مع مهندس ثري متزوج، وحين هربها من تيتلي وعائلته فإن تيتلي سيعيدها بعد أن يتفق معها على أنه سيقوم برعاية علاقتها وتهريبها إلى ذلك المهندس مقابل 10 آلاف روبية تمكنه من شراء موقف السيارات سابق الذكر.

سينفتح الفيلم على كل ما يرزح تحته الإنسان جراء واقع مروّع لا يعرف الرحمة، ولأفعال الشخصيات أن تكون على الدوام أمراً إجرائياً للتأقلم ومجابهة المفاجآت التي يحفل بها هذا الواقع، على شيء من صراع بقاء أولاً وأخيراً، وإن كان لهذا الصراع أن يفرز قيماً، فإنها لن تكون بحال من الأحوال مندرجة في سياق ثنائية خير وشر وما إلى هنالك من هراء، إنه فيلم عن بشر جاؤوا إلى هذا العالم ولم يعرفوه إلا على هذا النحو من الرداءة والقسوة، وكل شيء مباح في سياق صراع الإنسان مع هذا الواقع المفترس.

وبما أنني أصف الفيلم بالواقعي، فإنه أي الواقع – وفي أبسط تمثيلاته الفلسفية – “مجموع ما هو موجود” وفيلم كانو بيهل واقعي لأنه متأسس أولاً من هذا الموجود في دلهي، وتيتلي مليء بالامكانيات غير المحققة، والتي لكي تتحقق فإن عليه أن يجابه الكثير من المنعطفات والمتغيرات، والتي لن يكون هو نفسه بمنأى عنها، وتغير شخصيته درامياً سيأتي في النهاية من علاقته ببيتو التي كان يرافقها للقاء المهندس وانتظارها في الصالون بينما تنتهي من غرامها معه.

تيتلي ( تعني فراشة بالهندية) الاسم الذي يبدو نقيضاً لكل ما هو عليه، لكنه ما أن يمتلك استقلاله وينجز خلاصه فإنه سيتاح له الانحياز للنبالة ذلك أنه أصبح قادراً على أن يختار، ولم يبق ضحية من ضحايا الواقع كما كل شخصيات الفيلم.

ما من أدوات تزينية للواقع في فيلم “تيتلي” الذي عرض في “مسابقة نظرة ما” في الدورة الأخيرة من مهرجان كان، وهو بوصفه فيلماً مستقلاً مناهض تماماً لمملكة بوليوود وألوانها ورقصاتها وقصة حب الفقيرة للغني والعكس بالعكس، حيث يكون الإيهام حقيقة، وكل عناصر الفيلم تتواطأ لتتجاهل الواقع.

ولن يكون غريباً أن يكون منتج الفيلم هو المخرج ديبكار بانرجي صاحب “إل سي دي: حب وجنس وخيانة” والذي كتبه كانو بيهل، وهو كوميديا ساخرة من بوليوود وأفلامها، حيث علاقة الحب تكون بين طالب سينما يقوم بصنع فيلم تخرّجه وبطلة فيلمه الغنية المحاصرة بسلطة والدها المتنفذ، والذي سرعان ما يتدخل بالفيلم فارضاً عليه الأغاني وكل العتاد البوليوودي. 


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.