البنية السينمائية والسرد الأدبي
العدد 146 | 21 شباط 2014
قيس الزبيدي


هذا المقال واحد من سلسلة مقالات يتناول فيها السينمائي قيس الزبيدي “كتابة السيناريو” وهي مقالات تعلمية ستنشر في هذه الزاوية في كل عدد جديد، ولها أن تضيف الكثير لكل طامح في كتابة سيناريو وتعلم تقنياته وأسراره وجمالياته، كما أنها تمنح أي عاشق للسينما أدوات متعددة لمشاهدة الفيلم بعين أكثر دراية ومعرفة.

علينا من البداية أن نتعرف على المادة، أي المنتوج الفيلمي، التي يتعامل معها المنتوج الأدبي،أي السيناريو، الذي فرضت وطورت ظروف وطبيعة إنتاجه طريقة وأسلوب ونوع وتنوع كتابته. 

إن مجال الإنتاج وطبيعة المنتوج، أي شكل ومضمون ومحتوى الفيلم، محكومة من جهة بالطبيعة السلعية للإنتاج، كما أنها محكومة من جهة أخرى بعوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية ذات احتياج معين.

هناك انطباع بأن كتابة السيناريو، مسألة صعبة للغاية، لكن أكثر كتب تعليم السيناريو، تؤكد أن ذلك غير صحيح. لماذا؟ 

كتابة السيناريو معرفة قابلة للتعلم، لكن بشرط واحد أولي، وهو أن يكون كاتب السيناريو ذا تأهيل أدبي ويمتلك قابلية الكتابة، إضافة إلى رغبته، ليست فقط في الكتابة، إنما تصميمه على الكتابة للوسائل السمعية البصرية. بعد ذلك تأتى معارفه الأدبية وثقافته السينمائية واطلاعه إلى حد ضروري على تاريخ السينما، وهذا في يومنا ممكن إلى حد بعيدا، بعد توفر الأفلام وسهولة مشاهدتها عبر وسائل متعددة.

من يريد أن يكتب سيناريو عليه أن يقرأ سيناريوهات، ومن يريد أن يكتب سيناريو عليه أيضاً أن يشاهد أفلاماً، والأفضل أن يشاهد فيلماً واحداً عدة مرات، بدون أن يستغرقه حدث الفيلم، ليتعرف على اللقطات وحركة آلة التصوير وإيقاع الصورة والتفاصيل التقنية. 

ثم يأتي التأهيل.

تأهيل في المجالات الدرامية، وأصول السرد إضافة إلى الاطلاع ومعرفة أولويات الإخراج التقنية والفنية. فالأهم والمهم على من يريد أن يكتب سيناريو، هو أن يتعرف على جوهر “الوسيط – الفيلم” وقوانينه الخاصة وقواعده الدرامورتورغية الأساسية. لأن المؤلف الذي يسيطر على تقنية كتابة السيناريو يستطيع أن يعطي فكرته وهمه الفكري أشكالاً مشروعة فيلمياً، هو من يستطيع ابتكار وسائل عمله الفني السينمائي.

وقد أشارت كتابات بودوفكين الأولى إلى ما هو مهم:

“كلما أتقن كاتب السيناريو الناحية الفنية في عمله، زادت فرصته في أن يرى قصته على الشاشة بالصورة التي تخيلها في ذهنه”.

وسنبدأ قبل أن نشرع في وضع المهمة التي على كاتب السيناريو الأدبي أن ينجزها المراحل  التي تمر بها عملية الكتابة في التعرف أولا على طبيعة الوسيط السينمائي. 

تضع البنية السينمائية، بعناصرها وأساليبها وطرقها المونتاجية، أمام المؤلف إمكانية تعبير مخالفة للسرد الأدبي. ومع أننا نتحدث عن التشابه بين الأدب والسينما، لكن التدقيق في هذا التشابه يكشف لنا فروقات وخلافات جوهرية عديدة:

الخاصية الأولى

الصورة/ سلسلة صور: إعادة إنتاج بناء زمني/مكاني ملموس حسياً للعالم الخارجي. إن هذا يصنع خصوصية الفيلم لكنه مقرون بجوانب سلبية. المؤلف ينتقي الكلمات لما يكفي للتدليل عما يريد التعبير عنه. لكن الصورة في السينما أكثر دقة وأكثر عمومية في التفاصيل من الأدب.

أتذكر وصفاً للطبيعة من رواية “الحرب والسلام” يحتاج فيه تولستوي إلى صفحات هائلة. أما المخرج فيضع آلة التصوير ويسجل لقطات الطبيعة بشكل محسوس وملموس. 

هناك من الكتاب من يقول :إذا شاهدنا الفيلم وسمعناه فيكون مؤلف السيناريو هو قد كتب صوره وحواره، وهذا كلام غير دقيق، لأن مؤلف السيناريو الأدبي يكتب الشيء الأساس والجوهري والمهم للفيلم، ولا يمكنه أن يكتب كل ما يُشاهد بعد ذلك في الصورة، لأن ما يُشاهد بعدئذ هو غير ذلك.

الخاصية الثانية

تكمن في أن كل شيء في السينما يجري في الحاضر (الزمن الحاضر – نقطة الوصل  بين الماضي والمستقبل). في الفيلم كل شيء يعني دائما الحاضر. أي فلسفياً الانتقال زمنياً من الماضي إلى الحاضر.

غالباً ما يكتب الأديب بصيغة الماضي، مع أن الحوار يأتي بصيغة الحاضر. بينما في البينة السينمائية يتم الحوار في أزمنة مختلفة: ماضي ،حاضر، مستقبل.

إعادة بناء الواقع في وقت زماني ومكاني يعني أن في السينما كل شيء هو في الزمن الحاضر (الآن)، الحاضر الذي هو فلسفياً انتقال من الماضي إلى المستقبل، والحاضر هو نقطة الوصل بين الزمنيين. وغالباً ما يكتب الأديب في صيغة الماضي: “حصل حدث كان” وفقط الحوار بين الشخصيات يُصاغ بصفة الحاضر… وفي البنية السينمائية يمكن أن يكون الحوار بعدة أزمنة: ماضي وحاضر ومستقبل..

إن الزمن حسب القديس اوغسطين في كتابه “اعترافات”، هو وليد الانقطاع المتواصل بين ثلاثة مظاهر للحاضر:

1. التوقع الذي هو حاضر المستقبل

2. التذكر الذي هو حاضر الماضي

3. الانتباه الذي هو حاضر الحاضر 

في الحوار فقط تتعدد مستويات الزمن. أما الفعل فهو حاضر. كل ما يحدث أمامنا يحدث في الحاضر، حتى العودة إلى الماضي “الفلاش باك” تظهر كأنها الحاضر.. ما حدث في الماضي كأنه يحدث الآن. المشاهد المتمرس يعرف أن ما يشاهده هو ماضي وهذه خاصية لا تعني النوع أو الجنس الفني وإنما خاصية الوسيط وهي قانون حتى في سرد الماضي فنياً في السينما. وعند إعادة صياغة الماضي سينمائياً، فإن المسألة تحتاج إلى معالجة مبتكرة وتقنيات مختلفة: في الفيلم الملون مثلا يقدم الماضي بالأسود والأبيض. ومن التقنيات على مستوى القول: حصل قبل ثلاث سنوات، وفي بعض الأفلام نرى أجندة او نسمع صوت يعلن أن الأحداث تجري في الماضي.

الخاصية الثالثة

في هذه الخاصية يتطابق البصري والسمعي بشكل عام. ولكن هذا التطابق له حدوده، وهو على خلاف طريقة السرد الأدبية، ففي الأدب يكتب وصف المرئي والمسموع بالتتابع، بينما في السينما يتزامن المرئي والمسموع في الوقت نفسه. وهذا ما كان الدافع أصلا وراء تحديد طريقة كتابة السيناريو بوساطة تقسيم صفحة السيناريو إلى نصفين، الأول للمرئي والثاني للمسموع.

____________________________


مخرج ومصوّر وباحث سينمائي. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: "بعيداً عن الوطن""، و""فلسطين سجل شعب""، و""شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب""، و""وطن الأسلاك الشائكة"". وقدّم روائياً ""الزيارة"" 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و""اليازرلي"" 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض. من كتبه: ""فلسطين في السينما""، و""المرئي والمسموع في السينما""، و""مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم""، و""مونوغرافيات في الثقافة السينمائية""."