يمشط شعر الشياطين ويغني
العدد 217 | 11 آب 2017
عبد العزيز جاسم


سوء فهم

ترى ما الذي يفعله، رجلٌ طويلٌ

مع امرأةٍ قصيرةٍ

في نهاية

الشارع؟

 

لم يطلب منها الجلوس

كلما مرّ عابرٌ

ولم يباعد الخطو ما بينهما

مبتسماً، بلا سببٍ

يخالجه شعورٌ

بقتلها.

فيما هي، مندفعة، تقلّد

مشية ذكر البط

وتصمّد له، نفس النية

أيضاً.

 

ها هما الآن، منذ سويعات، يتجولان

على الشاطئ

يركض بعيداً عنها

وتتبعه

يغطس في البحر الكاريبي

يبتعد

وتظل، مذعورة في مكانها

تناديه.

 

وكان كلما صادف جمهرة

حملها على ظهره

مثل طفلة

أو دمية

وفكّر بالاختفاء سريعاً.

 

رجل طويل مع امرأة قصيرة

ها هما بثياب العرس

بطابور الأولاد

بالعكاكيز

يلتقيان في كل صبح كعدوين منهزمين

على مقعد البحر

هو يودّ الفتك بها

من الخجل

وهي تود افتراسه

من الحب.

 

بالغبار المهلك سأتبعك

انزع أيها العابر الأعمى

الشوكة الدامية

من رجلك.

 

انزعها ببساطة

ادفنها أو احرقها

دق رأسها بحجر إن أردت

اطحنها وانثرها

أو حتى اغرزها في مؤخرة الهواء

الذي رماها في طريقك.

ولكن لا تكرهني، أنا الشجرة

لا تحرقني

أو تقطع أوصالي.

 

الحجر المظلم حولي، سيتبعك

الطيور التي تحط فوقي

وتقيم في أعشاشها

أطياف من استظلوا بظلالي

وناموا تحتي

بقايا النجوم العالقة بين أغصاني

غضب القمر الأحمر

وجنون الريح الحمراء.

 

وأيضاً

الطريق الذي يعبر على جذري

تقف أنت عليه الآن

بالغبار المهلك

سيتبعك

ويسحقك.

 

بدرهمين تبيع كازابلانكا

تحيّرك!

ليست هي من تحيّرك

 

الخليلة في موقدِ

الخفةِ

بعنفها الساطع كالمجد

وهواها المتمرجح

في العيون.

 

لا، ليست هي من تحيّرك:

 

الجدة العرجاء

من شهدت الانهيار

كلّه

وسربتك للجبال

في يوم ماطر

مع شحنة من الجبن

الجبلي

على جملٍ بلا رأس.

 

لا، ولا حتى الطليق في الجو

يترحم على وردة غابرة

وينهش سحابه.

 

ولا حتى النزيل الوحيد مثلك

في غرفةٍ خاويةٍ

بلا تكةٍ ولا حنينٍ

يمكن أن يحيرك.

 

وأنت إن درت العشرَ الخوابي

من الدهور

منشوراً

مبدداً

غير مبالٍ بالمرة

في سلتك عظامٌ قديمةٌ

وورقة صبارٍ

على الكتف.

 

وإن استعنت بمن لا تراه أبداً

إلا من عُقلةِ الإصبع

وهو صلِفٌ حقودٌ

ترنّ نواياه

كما لو أن سدّادةً

سقطت

على الرصيف

ونبهتك.

 

صدّقني، ليسوا هم من يحيرونك!

ولا ضحكة الرحمة

تتصادى

بين الرواق الطويل

وهي غِرّةٌ

نبيهةٌ

تغسلها وتجففها

كجواربك.

 

خذ مني، أيها السيد، وأعطِ

فلا أحد منهم

يحيرك.

 

ولا حتى الباب الذي ستفتحه غداً

بلسانك

الباب الشفيف كالطيف

باب المغارة التي لا تردُّ

والتي ستغوص فيها كما لو أنك تَدفعُ

جبلين طريين بكلتا يديك

حين تجد الحيرة ماثلة أمامك

مثل ثمرة الأزل

ولا تحيّرك؟

 

وحدها المرأة البربرية

الموشومة تحت الشفتين

المائلة في وقفتها دوماً

فرح البيت وشبحه

من تغسل وجهها بالدخان

من تبيع، حين تثمل

كازابلانكا بدرهمين

من تأكل الرؤوس المبخّرة

من كانت تنظف غرفتي

وتمسح جبهتي

من تسرق أشيائي يومياً

وتناديني في الصباح

بعينين حانيتين:

يا ولدي!

 

يُمشّطُ شَعْرَ الشياطين ويُغنّي

يشعل فانوساً، ويفتّش عن حصالته في

النهر. يطرق أبواباً، فيخرج من كل

باب مريض في يده كيس من الدمع،

 أو بضعة ظلال تتقدم دون رفقة

أصحابها.

 

كان هذا في حفلة بردٍ، حين كانت

 الخيول المتعبة ترمق صحراء الرماد

بنظرات الوداع الأخيرة. وقد اختضّت

الأحلام، حتى طلعت عجوزٌ من القبر

ودَقَّت عنقها بحجر.

 

من يخون من؟

الفلاح

أم الشجرة شاحبة؟

الغرباء

أم المماشي التي

تضيق؟

 

لربما كان هذا الأفق مضبضبٌ

بالنهايات، بينما في الشمال يعتذر

الجميع عن العافية، ويوشكون كلما

أحببناهم كثيراً، أن يجففوا شبق الهواء.

 

ما الذي تصنعه إذاً؟

 

ما الذي تصنعه أنت، يا من تفترش

الأرض خلف محل القصاب. هناك

 قرب عمال يرتعشون وأجفانهم مٌخيّطة،

حيث على ضوء مجمرتهم، تقرأ رسالة

 امرأةٍ سممت أبناءها بعرق الثعالب.

 

 ترُى هل انتهى كل شيء، وأصبح

بمقدور الضفادع أن تلعب مطمئنة عند

رأسك. أتُراك مِتَّ، ولكن نسيت أن

تقفل عيونك. ولم تُدَلّك قلبك الآن،

وأنت من مشَّط شعر الشياطين؟

 

لتستقبلني الراحةُ المِعرَقةُ بشهيقها.

ليأخذني الرعاة إلى حتفهم الجميل،

حيث في كل سهل أنزل، أطالع

الغصون النابتة من الصدر. قال،

وقال: هناك أشياء كنت أسمعها مثل

موجاتٍ ترتطم بطرَّادٍ راسٍ. إلا أنّ

الزلزالَ على حد علمي، أصلعٌ ويتباهى

بغرسِ زهرةٍ في جيبه العلوي. وقال:

البرابرة من ثقب التُّورِ في مرحاضي

رأيتهم، يبرقون كشظايا اليأس في

المخيلة، حين جمعت وطني دفعة

واحدة وأخذت معي غباري.

 

لتنظر، أيها الشمالي، يا وجهي الأحبّ.

 

إنها الرياح، صديقةُ الخاسرين. الأيام التي

 تقلصت، وأصبحت كعملة من

 البلاستيك على طاولة قِمَار. إنها

الرضّات، شتيمتنا، والتي لطالما لازمتنا

 طويلاً، كلما غفونا على صخرة

 الندامة.

 

أجل ، هل تتذكر؟ وكيف تنسى؟ تلك

 الظلمات التي كان يصادفنا فيها، في

كل ثانية، ملاك مُلتحٍ ويشخص

كإيماءة قطار ضائعٍ. هل تذكر؟ لقد

 كنا بلا حاشية وبلا مواعيد. نقشّر

الجوز على تلة. ونتآخى مع سحلية

طافت بنا، وهب تسحب هدب بلدتنا

إلى منفىً غير معلوم. تاركة الكارثة

وحدها، تصعد وتلوح فتضل الطيور

طريقها.

 

الآن، القبلة لك، أيها العزيز، يا ساكن

الفنار. لقد تأملت البحارة في غيابك،

وأدهشني نبوغهم في الموت. لقد

تأملتهم، حين كنت تقطع الدرب جيئةً

وذهاباً، بحثاً عن نتفة حُلم. الآن،

لأهزهز المستقبل على تلك الحافة،

وليسقط المتآمرون من حياتي.

 

أنا ليس لدي مشكلة مع الصبر.

 

فذات يوم تناولنا العشاء في كوكب،

وتصرّفنا مع المودة كمن يربي الألوان

في مغارة. ثم ثملنا ونمنا، وفي الصباح

سدد بندقيته إلى الشمس فأطفأها. ميتةٌ

عملاقة، كان يقول، وكنت أحسده

مليون مرة على دقته تلك. فالشمس

ليست بالجمجمة الهينة التي تخرُّ من

طلقة واحدة.

 

إلا أن الصبر أراني إياها، وهي تهوي

بأصواتها المفزعة ورائحتها التي

تُضعِف، كقارة انزلقت سريعا من على

كتفي.

______________________________________

القصائد المنشورة هنا من “الأعمال الشعرية 1” لعبد العزيز جاسم والتي صدرت أخيراً عن دار التنوير.

*****

خاص بأوكسجين


شاعر وصحافي من الإمارات العربية المتحدة. من إصداراته الشعرية: "لا لزوم لي"" 1995، و""افتح تابوتك وطر"" 2010، و""آلام طويلة كظلال القطارات"" 2010. كما صدر له في الفكر والنقد ""جحيم نيوتن: تأملات ثقافية في تحولات العالم"" 2010."