وقائع طارئة مقابل وقائع ضرورية
العدد 144 | 09 كانون الثاني 2014
بول أوستر/ترجمة: أسامة منزلجي


   إنك تعتقد أنها لن تقع لك أبداً، أنها لا يمكن أنْ تقع لك، أنك الشخص الوحيد في العالم الذي لن تقع له مثل هذه الأمور، ومن ثم، إذا بها كلها، واحداً إثر آخر، تحدث لك، بالطريقة نفسها التي تحدث لكل شخص آخر.

 

   قدماك الحافيتان على الأرضية الباردة وأنت تترجّل عن السرير وتمشي حتى النافذة. أنت في السادسة من العمر. في الخارج، الثلوج تهطل، وأغصان الأشجار في الفناء الخلفي تستحيل بيضاء اللون.

 

   تكلَّم الآن قبل فوات الأوان، ومن ثم تأمَّل في أنْ تستمر في الكلام إلى أنْ لا يتبقّى ما يُقال. فالزمن ينفد. ويمكنك أيضاً أنْ تؤجل سرد قصصك مؤقتاً وتحاول أنْ تتخيل شعورك وأنت تعيش داخل هذا الجسد منذ اليوم الأول الذي تستطيع أنْ تتذكّر من حياتك وحتى هذا اليوم. إنه جدول من البيانات الحسيّة. يمكن أنْ نسمّيه فينومينولوجيا التنفُّس.

 

   أنت في العاشرة من العمر، وهواء منتصف الصيف دافئ، دفئاً ثقيلاً، شديد الرطوبة ومزعجاً بحيث حتى وأنت جالس في ظل أشجار الفناء الخلفي، يتجمَّع العرق على جبينك.

   

   إنَّ الحقيقة التي لا ريب فيها هي أنك لم تعد شاباً. بعد شهر من الآن سوف تُكمل عامك الرابع والستين، وعلى الرغم من أنه لا يدل على شيخوخة موغلة، ولا يُعتَبَر مرحلة طاعنة في السن، لا يمكنك أنْ تمنع نفسك من التفكير في كل الآخرين الذين لم ينجحوا في بلوغ السن التي وصلتها. إنَّه مثال واحد على الأمور الكثيرة التي لا يمكن أنْ تحدث، والتي، في الواقع، حدثت.

 

   الرياح التي هبّتْ على وجهك في أثناء العاصفة الثلجيّة في الأسبوع الفائت. لسعُ البرد، وأنت تخترق شوارع خالية متسائلاً ماذا ألمَّ بك حتى غادرتَ المنزل وسط تلك العاصفة العاتية، ومع ذلك، حتى وأنتَ تكافح لتُحافظ على توازنك، تشعر بإنعاش تلك الرياح، والاستمتاع برؤية الشوارع المألوفة تتحول إلى ضباب من الثلج الأبيض المُدوِّم.

 

   متعٌ جسدية وآلام جسدية. مُتعٌ جنسية أولاً وقبل أي شيء، ولكن أيضاً متع الطعام والشراب، والاستلقاء عارياً في حمام ساخن، والهرش مكان الحك، والعطس والضرط، والبقاء في السرير ساعة أخرى، ومواجهة أشعة الشمس بعد ظهيرة يوم معتدل في أواخر الربيع أو أوائل الصيف والإحساس بالدفء يستقر على بشرتك. أمثلة لا حصر لها، ولا يمر يوم واحد من دون لحظة أو لحظات من الاستمتاع الجسدي، ومع ذلك يبقى الألم أكثر دواماً وعناداً، ولابد أنْ يتعرَّض كل جزء من أجزاء جسمك، في أوقات مختلفة،  لاعتداءٍ ما. العينان والأذنان، الرأس والعنق، الكتفان والظهر، الذراعان والساقان، النحر والمعدة، الكاحلان والقدمان، ناهيك عن البثرة الكبيرة التي ظهرتْ ذات مرة على الجهة اليُسرى من مؤخرتك، وأشار إليها الطبيب بعبارة كيس دهني، وبدتْ لأُذنيك أشبه بمرض من العصور الوسطى، ومنعتك من الجلوس على أي كرسي على مدى أسابيع. 

 

   إنَّ قُرب ضآلة جسمك من الأرض، أي الجسم الذي كان يخصّك وأنت في الثالثة أو الرابعة من العمر، وقِصَر المسافة بين قدميك ورأسك، وكيف أنَّ الأشياء التي لم تعُد تلاحظها كانت ذات يوم ذات حضور واهتمام مستمرين بالنسبة إليك : عالم النمل الزاحف الصغير والقطع النقدية الضائعة، والأغصان الصغيرة الساقطة وسدادات الزجاجات المنبعجة، والهندباء البريّة والبرسيم. ولكن خاصة النمل. إنه أفضل ما تتذكّر. جيوش من النمل تزحفُ صفوفاً داخلة وخارجة من كُثبانها الصغيرة الهشّة.

 

   أنت في العاشرة من العمر، تجلس القرفصاء على كثيب نمل في الفناء الخلفي، تُدقّق النظر في حركة أصدقائك الصِغار سُداسيّة الأرجل جيئة وذهاباً. يزحف جارك ذو السنوات الست خلفك، دون أنْ تراه أو تسمعه، ويضربك على رأسك بمدمة  دُمية. تخترق الأسنان جلدة رأسك، ويتدفق الدم بين شَعرَك ، ويسيل على قفا عنقك ، وتهرع راكضاً إلى المنزل، وتداوي جدَّتك جراحك.

 

   كلمات جدَّتك لأمك: ” كان يمكن لوالدك أنْ يغدو رجلاً رائعاً – لو أنه كان شخصاً مختلفاً ” 

   في صباح هذا اليوم، تستيقظ في عتمة فجر يوم آخر من شهر كانون ثاني، ويرشح ضوء باهت، يميل إلى اللون الرمادي، إلى غرفة النوم، وها هو وجه زوجتك يستدير نحوك، مُغمضة العينين، ولا زالت مستغرقة في النوم، الأغطية تمتد حتى عنقها، ورأسها هو الجزء الوحيد المرئي، وتُبدي إعجابك بمدى جمالها، وبشبابها، حتى الآن، بعد مرور ثلاثين عاماً على مُضاجعتك الأولى لها، ثلاثين عاماً من العيش معاً تحت سقف واحد وتقاسُم السرير نفسه.

 

   المزيد من الثلج يهطل اليوم، وبينما تغادر السرير وتمشي حتى النافذة، تتحول أغصان أشجار الحديقة الخلفية إلى اللون الأبيض. أنت في الثالثة والستين من العمر. ويتكشّف لكَ أنه لم تكد تمر عليك لحظة واحدة طوال رحلتك المديدة من عهد الفتوة الأولى وحتى الآن لم تكن فيها عاشقاً. ثلاثون عاماً من الزواج، نعم، ولكن خلال الثلاثين عاماً التي سبقتها، كم من مرة فُتِنتَ وهمت حباً، وبكم من امرأة تدلهت ولاحقت، وكم من مرة اجتاحك هذيان الرغبة ونوبات جنونها ؟ منذ بداية حياتك الواعية وأنت عبد لإله الشبق طوعاً. الفتيات اللواتي أحببتَ وأنت فتى، والنساء اللواتي عشقت وأنت رجل، كل واحدة منهن تختلف عن الأخرى، بعضهن مستديرات وبعضهن نحيلات، بعضهن قصيرات القامة وبعضهن ممشوقات، بعضهن مولعات بالقراءة وبعضهن رياضيات، بعضهن كئيبات وبعضهن منطلقات، بعضهن بيضاوات وبعضهن سوداوات والبعض آسيويات، لم تكن تهتم بأي شيء ظاهريّ، الأهم دائماً كان النور الداخلي الذي تتقصاه فيها، شرارة التفرُّد، وهج الذات المكشوفة، وذلك النور الذي يجعلها جميلة في عينك، حتى لو كان الآخرون عميان أمام الجمال الذي ترى، ومن ثم تشتاق إلى أنْ تكون معها، إلى جوارها، لأنَّ الجمال الأنثوي شيء لم تقو مرةً على مقاومته. تعود على طول الماضي كله إلى أيام المدرسة الأولى، إلى صف الحضانة حيث وقعت في حب الفتاة ذات شعر ذيل الحصان الأشقر، وكم من مرة عاقبتك مس ساندكويست لتسللك مع الفتاة الصغيرة التي أحببت، وانفرادكما معاً في إحدى الزوايا لتقوما بعمل شائن، لكنك لم تكن تهتم بتلك العقوبات، لأنك كنت حينئذٍ عاشقاً، وتصرفتَ بحمق من أجل الحب، كما تتصرف بحمق من أجل الحب الآن.

 

   مخزونك من الندوب، خاصة تلك التي يحملها وجهك، التي تراها في صباح كل يوم عندما تنظر في مرآة الحمّام لتحلق ذقنك وتمشّط شعرَك. إنكَ نادراً ما تفكِّر فيها، ولكن كلما فعلتَ، تُدرك أنها علامات الحياة، أنَّ الخطوط المُثلّمة المُنسّقة المحفورة على بشرة وجهك هي أحرفٌ من أبجديةٍ سريّة تحكي حكايتك، ذلك أنَّ كل ندب هو أثر جُرحٍ مُلتئم، وكل جرح سبّبه تصادم غير متوقَّع مع العالم – أي، حادثة، أو أمرٌ ما كان ينبغي أنْ يقع، بما أنَّ الحادثة تعريفاً هي أمر لا حاجة إلى وقوعه. وقائع طارئة مقابل وقائع ضرورية، وإدراكُك، في أثناء نظرك في المرآة في صباح هذا اليوم، أنَّ الحياة كلها طارئة، ما عدا الحقيقة الضرورية الوحيدة التي ستنتهي عاجلاً أو آجلاً. 

 

   أنت في الثالثة والنصف من العمر، وأمك ذات الخمسة وعشرين ربيعاً الحبلى اصطحبتك معها في جولة تسوُّق إلى مخزن في قلب مدينة نيوارك. وهي بصُحبة صديقة لها، أمٌ لصبي في عمر الثالثة والنصف أيضاً. عند نقطة معيَّنة، تنفصل أنت ورفيقك الصغير عن أميكما وتبدءان بالركض في أرجاء المتجر. 

_____________________________

من الرواية الصادرة مؤخراً لبول أوستر بعنوان “يوميات الشتاء”

 

الصورة من أعمال لاعب الفوتوغرافيا المصري مراد السيد

*****

خاص بأوكسجين