وصول البرابرة
العدد 270 | 03 حزيران 2022
نوري الجراح


 

معبر وجيز إلى القصيدتين:

ها هنا قصيدتان لشاعرنا السوري نوري الجراح، تفصل بينهما ثلاثة عقود من تجربته المديدة، وهو يأخذ الشعر ويأخذه إلى عوالم وفضاءات وحيوات مترامية.

لقد عارض الجراح قصيدة كافافي “بانتظار البرابرة” لمرتين خلال ثلاثة عقود، وقد وجدها “قصيدة كبيرة. فهي بلغتها القائمة على تقنية السرد، والتكرار، تملك قدرة عجيبة على تحريض قارئها الشاعر للذهاب بنفسه إلى مدينة تلك القصيدة، ولكن عن طريق أخرى، تجعل من تلك المدينة مدينة الشاعر ومن قصيدته مغامرة جمالية مبتكرة”.

كتب الجراح “الغزاة يولدون في المدينة” سنة 1991، ونشرت سنة 1997. وكان قد مضى على خروجه من سورية أكثر من عقد، وعلى وصوله إلى لندن 5 سنوات، سبقتها أسفار وحياة متقلبة بين مدن المتوسط: بيروت، قبرص، طرابلس الغرب، أثينا، وخبرات أليمة. وخلال ذلك العقد، “كانت حواسي، وأفكاري، وتصوراتي وانشغالاتي كشاعر، ومعها انتباهاتي مشدودة بصورة ما إلى ما كان يجري في دمشق”.

وكتب قصيدة “وصول البرابرة” في لندن أيضاً (وها هي تنشر هنا)، بعد أربعة عقود من لوعة الخسارة، “خسارة دمشق، وقد بات المنفى اللندني وطناً، والمدينة الأزلية المقيمة تحت شمس المتوسط مدينة للعذاب الأسطوري. باتت المسافة بين الواقعي والخيالي وبين التاريخي والأسطوري مفعمة بالخيالات، وعامرة بالظلال، تحول الغزاة إلى وحوش أسطورية، والساكنة إلى ظلال، ولم تعد المدينة حاضرة إلا في تلك المسافة المعلقة، في زمن خارج الزمن، هو زمن الشاعر، وزمن المخيلة، وزمن القصيدة”.

أما وقد لحق بالشاعر إلى منفاه شعب المدينة، آلاف مؤلفة من البشر الهاربين من الطغيان، وقد تركوا وراءه مدينة لم يعد فيها سوى أشباح الغزاة. فلم تعد الصيغة القديمة للقصيدة التي يحتلها الغزاة تفي بصورة المدينة التي أسطرها الطغيان.

ها قد وصل البرابرة يا سيد كافافي (أيها الإغريقي الذي احتل الإسكندرية)، وأنت يا سيد نوري الجراح (أيها الهارب من دمشق المستسلمة للغزاة)، لكن المدينة لم تعد موجودة. وصل البرابرة ولم يجدوا المدينة، لأنهم لم يجدوا في المدينة الخالية سوى الصبي/ القصيدة.

 

الغزاة يولدون في المدينة

 

إلى كافافي في الإسكندرية

 

الغُزاةُ الذينَ انتظرتَهُمُ خارجَ قصيدتكَ

كانوا وراءَك في المدينةِ

الطَّحانُ اللصُّ، وسارِقُ العَجَلةِ من المَعْبَدِ،

التاجرُ اللاعبُ بالنقودِ، القاضي المُرتشي، المحامي المصابُ بالكَلَبِ

العسكريُّ صاحبُ النياشين،

والجنديُّ الزاغبُ في سرير المُتعة.

 

وفي حَضيضِ السُّلَّمِ كاتبُ التقرير بمِدادِ العِلم.

 

الغُزاةُ الذين انتظرْتَهم في ظاهرِ المدينةِ بالأناشيدِ،

وبالصورِ الشاهقةِ

للطَّاغية..

بالزبَد

صارخاً

في فَمِ الخطيب،

وبالموازين مطفَّفةً..

-ومن وراء لافتاتِ المَعركةِ –

بكتائبِ العَسْكَرِ وعَجَلاتِ الحَربِ غائصةً في وحلٍ،

وبالشرفِ المنزلي الرَّفيعِ..

 

وراءكَ وراءكَ، في السُّوقِ وفي القَلْعَةِ،

كان الغُزاةُ.

 

ماذا سيقولُ الدمشقيون هذه السَّنة، لهلالِ رمضان؟

 

الغُزاةُ الذين انتظرتْهُمُ الأمهاتُ في الحقولِ ومعهنَّ أباريقُ الحليبِ،

والآباءُ بالمناسفِ، والجدّاتُ بالتطريز..

الغُزاةُ الذين أثاروا مخيِّلة الصبايا،

 وتسببوا للرجالِ بألمٍ في الحَالِبِ،

 

مَرُّوا في يَقَظَتِكَ،

ومرُّوا في مَنامِكَ

 

هكذا انتصرتْ المخيلةُ على المدينةِ، وسُحُبُ الدُّخانِ على الجِبالِ،

انتصرَ النائمونَ في عسلِ الفِكرةِ

على الضاربينَ أيديَهم في الملحِ

والعابرينَ في دَمِ الليل

انتصرَ الجنديُّ النائمُ على الجنديِّ المستيقظِ،

والهاربُ من السَّيفِ على المدافِع تحتَ السُّور.

 

الخطيبُ المفوَّهُ، والسياسيُّ المَرِنُ، والقُنْصُلُ المَفْضُوحُ

أنشدوا في تلكَ اللَّيلةِ

للخليعةِ الراقصَةِ:

عاشَ الوطن

عاشَ الوطن

لم يَسْأَلْ أَحَدٌ عن وجوه الضَّحايا، ولا عن أسماءِ المحطمين والمفقودين،

العرباتُ طَمَرَتِ القتلى بالغارِ والجَرحى بأكياسِ الشَّعير.

 

الغُزاةُ

الغُزاةُ

 

انتظرتَهم في القصيدةِ، وانتظرتَهم في الظِّلال،

وكانوا وراءكَ في لُبابِ المدينة.

 

كتبت 1991-نشرت 1997

 

وصول البرابرة

إلى طرواديي العصر

 

 

عندما وصلَ البرابرةُ إلى أَسوارِ المدينةِ

كانتِ الأبوابُ مُشرعةً

والسكونُ يَغمر المطالعَ والشّرفاتِ، ويهيمُ في الأَزقةِ

كان النهارُ في أَولِ شبابهِ والشمسُ بلسانها الدافيءِ تَلحس الجدرانَ..

 

الخواءُ رَجَّعَ أَصداءَ سنابكِ الخَيل..

 

لم يكنْ في السَّاحةِ المسكونةِ بالهجرانِ حصانٌ ولا عَربةٌ

لم يكنْ وراءَ الأَسوارِ قائدٌ، ولا فتاةٌ شجاعةٌ تُلهِمُ المدافعينَ،

لم يكنْ حارسٌ هناكَ ولا حتى نافخِ بوقْ.

 

 

النسائمُ تلهو بأَطرافِ الستائرِ

وفي آخر الزقاقِ صبيٌّ صغيرٌ يلهو بعجلةٍ.

 

الخيلُ راحتْ تَمشي بخيلاءَ، مباهيةً بأَعرافها، وبوقعِ سنابكها على الصمتِ.

 

***

 

عندما وصلَ البرابرةُ في ذلكَ اليوم

كان بابُ المدينةِ مفتوحاً والصائفةُ تلهو بأوراقِ الشَّجر.

 

شعرَ قائدهُمُ بالخِزي لأَن الأبوابَ كل الأبوابِ، كانت مفتوحةً،

لم تَنفلق جمجمةٌ بسهمٍ، ولم يسقط فارسٌ عن فرسٍ!

وبخِزي أكبرَ شعرَ قائدهم لأن رجالَه لم يرسلوا إلى الحصونِ والأَسوارِ كراتِ النارِ

ولم تكنْ لديهمُ فرصة ليهدموا قلعةً ويقيموا في محيطِها برجاً من الجّماجمِ..

 

والمؤسفُ أكثرَ أنهم بلغوا بطلائعهمُ قلبَ المدينةِ، ولم ترتفع ملاءةٌ بيضاءُ على حانوتٍ أو بيتٍ،

لم يركعْ جريحٌ،

ولم تهتف امرأةٌ: احرقوا المدينةَ، ولا تدنسوا العذراواتِ،

لا شَكوى

لا بُكاءَ

لا تَوسلات!

 

فقط، صمتٌ مريبٌ لا يشبهه شيءٌ سوى زيارة مقبرةٍ في جبلٍ.

والسؤالُ الآنَ:

ماذا يفعل البرابرةُ بمدينةٍ تُرِكَتْ مشرعةَ الأَبوابِ ولا يُوجدُ فيها سوى صَبيٍّ يلهو بعجلةٍ؟

***

 

لم يجد البرابرةُ خائناً، ولا حتى مهرجاً أو أحمق، ليكون دليلاً في المدينة.

 

إحباطٌ كاملٌ..

 

إذْ ذاكَ نظرَ البرابرةُ في وجوه بعضهم البعضَ، ولم يجدوا كلمةً تُقال.

 

ماذا يفعلُ البرابرةُ في مدينة اختفى سُكانها، فجأة، بصورةٍ غير مفهومةٍ!

 

الخيولُ التي مَلأت الساحاتِ بالعجاجِ، ضجرة راحت تنبش بسنابكها الأرضَ..

وعلى صهواتها القلقةِ، فجأةً، دَبَّ صَمتٌ يُشبهُ رعدةً باردةً سَرَتْ في أجسادِ البرابرة.

لم تنبسْ لهُمُ شفاهٌ بحرفٍ، عيونهُمُ صارتْ خَرزاً ملوناً،

ونظراتهُمُ أُحجياتٍ حَجَريَّة.

***

في آخر الزقاق، ومن الأعلى أَفْلَتَ الصَّبيُّ العجلةَ

وتَرَكَها تتدحرجُ..

 

جهةَ

الخيلِ

إذ ذاكَ نَفَخَ حاملُ البوقِ: نحنُ البرابرةُ لمْ نَعد برابرةً!

كانت الأبوابُ المقفلةُ ومن ورائها المدافعونَ عن الأسوارِ، والفتاةُ الشجاعةُ التي تُلهم المدافعينَ،

السهامُ، والحرابُ، وصليل السيوفِ،

الجماجمُ في الأزقةِ، والنيرانُ في العَمَائرِ..

هي الحكايةُ والمغزى.

 

صَهَلَتِ الخيلُ في قصيدةِ الشاعرِ، ومَشَتْ بخيلاءٍ.

 

حقاً، لقد كانَ البرابرةَ المحبطون لكونهم لم يصبحوا برابرةً في ذلكَ اليوم،

حَدَثاً رائعاً، خلفيَّةً مناسبةً للهو صبيٍّ بعجلةٍ في قَصيدةْ.

2021

*****

خاص بأوكسجين

 


شاعر من سورية (دمشق 1956) مقيم في لندن، وأحد أبرز الشعراء العرب المعاصرين. من إصدراته الشعرية: "الصبي"" بيروت 1982، ""مجاراة الصوت""، لندن 1988، ""نشيد صوت""، كولونيا 1990، ""طفولة موت""، الدار البيضاء 1992، ""كأس سوداء""، لندن 1993، ""القصيدة والقصيدة في المرآة"" بيروت 1995، ""صعود أبريل"" بيروت 1996، ""حدائق هاملت"" بيروت 2003، ""طريق دمشق والحديقة الفارسية"" 2004، صدرت أعماله الشعرية الكاملة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في مجلدين، سنة 2008، وصدر هذا العام (2022) المجلد الثالث، كما ترجمت قصائده إلى العديد من اللغات العالمية."