هنا والآن “رسائل عن سبق إصرار وترصد..”
العدد 165 | 21 كانون الثاني 2015
زياد عبدالله


عزيزي بول أوستر “كنتُ أفكر في الصداقات، كيف تنشأ، ولماذا تدوم – أو بعضها – طويلاً، بل أطول من الارتباطات العاطفية التي تُعتَبَر أحياناً (خطأً) تقليداً باهتاً لها” لست أنا من يكتب رسالة إلى أوستر، بل هو صديقه الروائي الجنوب إفريقي ج. م. كوتزي، وهذا أول سطر من أول رسالة بينهما وقد نشرت هذه المراسلات في كتاب بعنوان Here and Now  “هنا والآن” عن ” فينتاج”، وقد تبادلاها بين عامي 2008 – 2011 (يمكن الاطلاع في هذا العدد على رسالتين من الكتاب بترجمة أسامة منزلجي في المادة المعنونة “رسائل من أوستر إلى كوتزي والعكس صحيح”)

يحيي الكتاب تقليداً له أن يكون مفتقداً في أيامنا هذه، ألا وهو نشر المراسلات الأدبية، وقد أمسى البريد الإلكتروني الوسيط الرئيس في التراسل، مع تحلي هذه العملية بالسهولة التي تدفع للنسيان، وفي أحسن الأحوال يخصص لها ملف يبقى لصيقاً بالبريد الإلكتروني الذي صارت تتهدده وسائل التواصل الاجتماعي، في اختفاء للورق في هذه العملية، الأمر الذي لا ينطبق على صاحب “ثلاثية نيويورك” بول أوستر المعروف بأنه لا يملك بريداً الكترونياً، وآخر تقنية لإرسال الرسائل توصل إليها هي “الفاكس”، وكل رسالة تكون مرسلة من قبل كوتزي عبر الإيميل تكون موجهة إلى زوجة أوستر الروائية سيري، والتي يسألها كوتزي أن تطبعها له.

طبعاً كوتزي هو من اقترح فكرة المراسلات، ولعل اختياره أوستر لارتكاب هذا الفعل معه يتخطى صداقتهما إلى كون أوستر ما زال ورقياً تماماً، وهذا ما يجعل من الرسالة رسالة بحق (إن صح هكذا تفسير)، وهي في النهاية رسائل غير شخصية لا بل ليست حتى بذاتية، إلا إذا كان الحديث عن هوس أوستر بالبايسبول عبوراً إلى شخصية صاحب “ليلة الوحي”، الذي يعتبر مقاربة كوتزي للرياضة “جمالية” بينما  يرى هو فيها “لحظة مباركة” حين “يتسق كل شيء ويأتي كل شيء في مكانه في لحظة مباركة”. سنعرف من خلال الرسائل أن رسالة الماجستير التي قدمها أوستر في “جامعة كولومبيا” كانت تحت إشراف إدوارد سعيد وذلك بين عامي 1969 – 1970، بينما سيخبر كوتزي أوستر أنه تلقى رسالة من قارئة تتهمه بأنه معادٍ للسامية في روايته “الرجل البطيء” سائلاً إياه ما الذي يجدر به فعله، وكم هو متضايق من كون القراء ما زالوا يقاربون الأدب الروائي على هذا النحو. 

لا يخلو الكتاب من التماعات وأفكار ليست بغريبة أبداً على الكاتبين الكبيرين، لكن لها  أيضاً أن تأتي في سياق مقال أو مقاربة نقدية للأدب والسياسة والاقتصاد والرياضة والسينما، ونحن نخوض من خلال الرسائل حفلة تبادل أفكار، حيث الرسائل في “هنا والآن” تنتقل من محور إلى آخر، محاور فكرية يجري نبشها من الرأس، فهما يتراسلان بقصد الخلوص إلى كتاب يستعرضان من خلاله أفكارهما، كأن يتناول صاحب “خزي” الأزمة المالية عام 2008 في رسالة يقول فيها “ما الذي حدث لنصبح أفقر؟ والإجابة التي أعطيت أن أرقاماً محددة قد تغيّرت، أرقام محددة كانت عادة مرتفعة فانخفضت، ونتيجة لذلك فإننا أصبحنا أفقر”. وفي رسالة بتاريخ 7 أبريل/نيسان 2010، يقارب أوستر اسرائيل من خلال عبارة يوردها كوتزي في رسالة سابقة تقول “نحن نفضل العيش في الجحيم الذي نصنعه”، وليقول أوستر بأنه وبعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر فقد الأمل تماماً بحلّ الدولتين، إلا أنه فكّر بحلول كثيرة للصراع العربي الإسرائيلي مورداً واحداً منها يتمثّل بـنقل كل الاسرائيليين إلى ولاية “وايومنغ” الأميركية وليقول “لكني أعرف أن هذا مستحيل لأننا نفضل العيش في الجحيم الذي نصنعه”.

تطغى الأفكار على رسائل كوتزي (نوبل 2003)، ولعله على شيء من “الدينامو”، بينما تكون ردود أوستر في الغالب سرداً لقصة حصلت معه على علاقة بالفكرة التي يطرحها كوتزي.

لا تشكل الرسائل في كتاب “هنا والآن” خرقاً لمجاهيل في البنى الأدبية أو النفسية للروائيين، ولا يحتوي شيئاً من الغوص في أعماقهما، ولا يضع بين يد القراء أو العشاق لأدبهما – وأنا منهم – ما لا يعرفه عنهما، كما مجاميع الرسائل التي تكتشف فتقلب صورة الكاتب رأساً على عقب، وتهب دارسي أدبه مفاتيح لمجاهيل ظلت مستعصية، كما رسائل فلوبير أو كافكا أو حتى بيكت الذي يتردد ذكره كثيراً في الكتاب.

إنها رسائل مكتوبة لتكون في كتاب مطبوع عن سبق إصرار وترصد، فالرسائل (كما أعتقد شخصياً) مجال حيوي يتأسس بعيداً عن الكتاب المنشور، وفيها الكثير من الانفلاتات والبوح، وهذا مما لن نعثر عليه في “هنا والآن”، وربما علينا انتظار موتهما – بعد عمر طويل –  لنكون حيال رسائل بحق. 

_______________________________

روائي وشاعر من سورية صدر له شعراً “قبل الحبر بقليل” 2000، و”ملائكة الطرقات السريعة” 2005. من رواياته: “بر دبي” 2008، و”ديناميت” 2012. 

الصورة من مجموعة بعنوان “كهربا مقطوعة” للمصور السوري أحمد بلّة

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.