نصب الحرية….
العدد 176 | 22 آب 2015
رعد فندي


نصب الحرية في الباب الشرقي، المحطة الأولى التي حطت بها الرحال حال وصولها من مطار بغداد، لم تكن لديها حقائب سفر رغم الخمسين عاماً التي قضتها في الغربة:

– لا حاجة لي بالحقائب عندما أمسي في وطني.

 هكذا قالتها لابنها الوحيد عندما ودعها في مطار نيويورك، وعاودت ذكرها ثانية إلى سائق التاكسي في مطار بغداد، ومرة أخرى للمصور الجوال الذي لحق بها حال وقوفها تحت فيء النصب الكبير بعد أن رحبت بفكرة الصورة كي ترسلها لأحفادها هناك، و رغم إنها أحرجته بالسؤال:

– أتعرف ما ترمز له الأجزاء الأربعة عشر في هذا النصب؟ 

لكنها لم تفسح فرصة له بالرد حينما أسرعت بقولها:

– ربما لو كان جواد سليم (1)حياً، لأستبدل الكثير من الأجزاء!

كان النصب يشع بالبياض، المنعكس من أشعة شمس الصباح، وارتفاعه الشاهق حجب سعف النخيل المترامي خلفه في حديقة الأمة الطويلة، الواسعة الأطراف،  الملاصقة لشارعين عريضين أحدهما للذهاب والآخر للعودة يلتقيان في دورة ساحة التحرير المزدحمة بالسيارات، يعج الباعة المتجولين على أرصفة أحد الشارعين ببضاعتهم المختلفة الأنواع، والشارع الآخر بدا هادئاً تعمه استوديوهات ومحلات أجهزة التصوير، أما طيور( الفخاتي )بألوانها المختلفة تعيش بأمان في الحديقة وعلى الأرضية المقابلة للنصب، ومنها مَن اتّخذ عشاً بين فراغات أجزاء المنحوتات الأربعة عشر وخاصة نواجذ منحوت الحصان الكبير التي بانت واضحة وكأنه يصهل صهيلاً قوياً،  متناسق  مع حركة رفع قائمتيه الأماميتين بكل عنفوان وتثبيت حوافر قائمتيه الخلفيتين بحزم وثبات، كأنها حفرت ميمنة الصرح الكبير، أبهرها المنظر، سمعها المصور المشغول بتهيئة كرسي صغير لها رغم ضوضاء السيارات وحوارات الزائرين للنصب والمارة المتنقلين بين الشارعين:

– أترى ما زال الحصان من دون فارس منذ أن أسقط الشعب الحاكم. نعم؛ سرجه مازال بارداً، مهجوراً، عجباً؛ مازلت أتذكر قول أستاذ التاريخ أيام دراستي في الكلية؛ بجملته البسيطة: أرض السواد ولاّدة، تمنيته حياً، ليرى سرج الحصان وسيوره التي أمست متراخية. 

صمتت قليلاً، لانشغالها بترتيب هندامها وشالها الفضفاض، ثم أردفت بصوت تعلوه العبرة: 

– يا هذا لا تعني لي الصورة شيئاً، لعلك تتفهم ما أريد، ليس كل الصور للذكرى، هي أيضا لها فلسفتها الخاصة، أتمنى أن تكون محترفاً لالتقاط ما أريد إرساله لأحفادي هناك. 

قاطعها المصور:

– عذرا سيدتي، الكرسي جاهز يمكنك الاستراحة عليه، لكن أرجو أن تكوني في الجهة المعاكسة للنصب .

وكأنها ألغت فكرة التصوير، حينما جلست وهي تراقب النصب عن كثب، متنفسة الصعداء، ثم انشغلت بحقيبتها الجلدية اليدوية بعد أن نزعتها عن كتفها و أخرجت منها صورة لعروسين جميلين بالأسود والأبيض، دفعتها للمصور:

– هو زوجي رحمه الله، أعدموه و لم أعثر له على قبر، صنعوا من جسمه طعام لأسماك نهر دجلة،  كان يحب ذلك النصب كثيراً، هو مع هؤلاء المنحوتين على النصب، المرسومين على يسار الفرس،  وكأنها قبورهم، كانوا يحملون اللافتات المخطوطة بقلم واحد، لها صوت واحد والتي أمست متغيرة الآن، متعددة الصيحات،  كان يقول لي أن جواد سليم فنان مراوغ، ضحك على ذقون الحكام، كان يحاكي بنصبه شيء آخر بعيداً عمّا يظنوه وما قال لهم حينذاك … لا تتفاجأ بوجه زوجي في الصورة؛ الحقيقة كان وجه أبهى وأجمل، أنظر إلى وجهي كان وردياً، والآن بات مثل لون أجزاء هذا النصب رمادياً، مصبوغا بورنيش الغربة.يمكن القول أن جواد سليم تنبأ بحالنا وما دارَ طوال تلك السنين.

كان المصور مذهولاً، مكتفياً بإيماءات رأسه التي تشير إلى الأسفل دوماً بالإيجاب. 

– بني، دعك الآن من الصورة، انظر إلى ذلك الطفل الصغير ويديه المبتورتين في الثلث الأول من ذلك الصرح، ألديك أولاد أيها المصور؟

– لا سيدتي، لم أفكر بالزواج إطلاقاً بعد تلك الظروف التي يمر بها البلد.

– هربت بولدي قبل خمسين عاماً، أراده أن يكون من الذين يحملون اللافتات البيضاء من دون أن تتلطخ بالدم،  لم أع ما كان يفكر به، خفت عليه أن يكون مبتور اليدين مثل ذاك التمثال، يا لغبائي، تصور أيها المصور: الآن  خسر يديه ورجليه، أصبح مشلولاً، سيلعنني زوجي وجواد سليم وصورتك وطيور الفخاتي وجميع الأصوات التي تحيط بنا الآن،  أيها المصور: دعك من ترهات النقاد التشكيلين، صدقني لست عجوزاً شمطاء، لكن ما فسره زوجي كان صحيحا وواقعياً.

تنهدت قليلاً، طأطأت برأسها، التفتت إليه:

– أليس لديك عائلة؟

وكأن المصور انسجم تماماً مع حديث العجوز، افترش الأرض، متكأ بحنكه على يده اليمنى:

– نعم سيدتي، لدي اثنان من الأخوة، أنا تقني حاسبات، وأختي خريجة كلية العلوم، كلانا عاطلين عن العمل، أما أخي الأصغر مني بسنتين هو الوحيد الناجح في حياته بيننا. 

– ماذا يعمل؟

– لص محترف.

ضحكا، لكن العجوز عادت إلى حزنها، قامت من مقعدها بصعوبة، واضعة حقيبتها الجلدية على الكرسي، مدت  يدها اليمنى وكأنها تساعده على النهوض، تقربا نحو منتصف الصرح، أشارت بيدها:

– ذلكما المتصارعين وبجوارهما الأم المكظومة الباكية  المصبوغان باللون الرمادي،الأمر يفسر تشابه الأشياء بجنسها وعقائدها وميولها، لم يقصد هذا الفنان الكبير  أن هناك طرفاً آخر يشترك بينهما للنزاع في النصب ذاته، لو كان كذلك لتغيرت الألوان، ف ( جواد ) نحات محترف، ربما  قد يكون  مَن يدير حلبة الصراع  بإتقان خارج الصرح،لكن بكل الأحوال؛ يصعب علي معرفة ما كان يدور في ذهن جواد سليم حتى الآن! لكنه يؤكد صحة تفسير زوجي للأشياء من خلال المرأة التي افترشت الأرض باكية، خنساء ناحبة على أمد الدهر، أيها المصور: كانت عمتي تذهب كل مرة للسجان، لا تطلب منه شيئاً غير رفاته، قال لها صراحة آخر مرة؛ إنّه في نهر دجلة، سرت المسكينة كثيراً، واظبت على إشعال الشموع كل يوم عند النهر، حتى ذلك اليوم التي لم تعثر عليها مفارز الإنقاذ النهري .

مسحت العجوز ما بان في مآقي عينيها من مدامع لكنها أكملت حديثها:

– تمنيت لو كنت تصورني حينما رميت له أبننا (سلام ) في حضنه وهو في السجن، كان يرتجف كالسعفة اليابسة، لم يُقبلّه إطلاقاً، شمه بمنحره، وشوش بأذنيه، وكأنه منحه سراً أراد إخفائه عني، لكنه بادرني بالقول أمام السجان صراحة: لبنى، يجب أن تعلميه كيف يكتب اللافتات، لم أف بتنفيذ الوعد الذي وعدته إياه، نعم كنت حقيرة، أنانية، ظننت أن الهروب يحفظ لي ما تبقى من الدنيا، على العكس يا بني، طوال سنين الغربة، وأنا أشعر أن ولدي أمسى يوماً بعد يوم غريباً عني، وكلما كبر ازدادت غربتي معه، ها،و كي لا أنسى؛ حتى أحفادي أمسوا غرباء، ليس هناك ما يشدني إليهم غير النسب، أعرف جيداً أنني خيبت أمل زوجي، مَن سيكتب اللافتات، أبني (سلام) أمسى أعجمياً لا يفقه ما سأقوله به بعد الآن، الوقت تأخر كثيراً، نعم كثيراً يا هذا، وأنا هنا ما جئت لتصحيح الأمور .

انفجرت بالبكاء رافقتها نوبات سعال شديدة، انتبه لها المارة، والمصور مازال مذهولاً، لم يعقب، مكتفياً بإيماءات رأسه المتنوعة:

– لنكمل مع جواد سليم ومحاكاته بمنحوت السجون المتكسرة المتاريس، نعم قُتلوا، صُلبوا، لكن أفواههم أرسلت ألينا صراخ الحرية، نعم قد تكون مترسبة في أرواحنا، لكننا أغلقنا أسماعنا، أغمضنا أبصارنا، يا لحقارتنا، عجبي من الذين يرون تلك التماثيل ولا يبصقون على أنفسهم، صدقني يا بني: أن جواد سليم يشتمنا كل يوم، وكلما ننظر إلى صرحه، أترى ذلك الجندي المسكين  في منتصف النصب، مازالت حرب البسوس تطغي على المشهد، سيوف الأعراب على حناجر الأعراب، والأغراب يجيدون حبك المسرح، ماذا تريدون من جواد سليم أن يقول لكم عندما وضع الشمس الرمادية فوق خوذة المقاتل؟ يعمها الكسوف، هي لا تضيء للمقاتل دربه للنزال في ساحة الحرب الحقيقية، وهل ترى تلك المرأة التي تحمل شعلة الحرية؟ إنها من دون قدمين، معاقة، يكتنفها القنوط، نعم يائسة كحالي!   

أخذت تسعل سعالاً قوياً أكثر من سابقتها، شعر باختناقها من خلال عينيها الجاحظتين، ساعدها بالاستناد والارتكان  في زاوية سياج الحديقة  من الجانب الخلفي للنصب المؤدي لحديقة الأمة، كي تنتعش بأريج الزهور المنبعث منها، لكنها ما عادت تقوى على الوقوف، تكورت جالسة، أحست ببرودة تلازم  أطرافها،  لفت جسمها بالشال ، أومأت برأسها نحو الحقيبة، ركض المصور نحو الكرسي، بحث كثيراً عنها و لم يجد لها من أثر، عاد أدراجه إليها ينتابه الخجل، وكانت أحسن حالاً من ذي قبل، شعرت باضطرابه وخجله، وبصوت يختلج منه الحزن العميق :

– بني، لا تثريب عليك،دعك منها، ليس فيها ما احتاجه بعد الآن، فما عدت بحاجة إلى جواز السفر،ولا الأوراق النقدية ولا الخشل البراق ، كنت بحاجة إلى البخاخ  فقط، الأطباء هناك يتنبئون بكل الأشياء، حتى اللحظة التي تتوافق مع انطفاء منبهات التنفس الصناعي،  لم أكن خائفة أو قلقة بقدر ما أن يكون رفاتي هنا تحت هذه الثرى، ذاك الأمر حفز تلك السنين الطويلة بين ليلة وضحاها، آه، آه؛ أمر فوق طاقة الاحتمال، عندما تكون روحك هائمة تريد السلام والنوم باطمئنان تحت التراب الذي منه نشأت ولأجله عشت، رغم إنني في يوم من الأيام أصبحت منه طريدة، هاربة،  والآن جئت هاربة إليه ، لكن الوقت قد فات للصيحات ورفع اللافتات، أي معادلة صعبة، لا أتصور أن زوجي سيغفر لي أبداً . 

وكأنها تذكرت شيئا وبصوت خافت لفتت انتباهه:

– لكن كيف سترسل الصورة لأحفادي؟ من المؤكد أنك  تملك موقعاً على صفحة التواصل الاجتماعي، إذا كان كذلك، انشرها، ستصل لا محال إليهم.

– نعم سيدتي، لكن؛ أرى حالتك تزداد سوءاً، دعك من تفاصيل أجزاء النصب، لنعد أدراجنا عند ذلك الكرسي أو أقلك لأقرب مستشفى.

لم ترد عليه، لكنها استسلمت له، ساعدها على النهوض، أخذت تترنح في مشيتها، مكتفية بابتسامة، وعينيها مازالت ترنو نحو النصب، ساعدها بالجلوس على  الكرسي، لكن عكس اتجاه النصب هذه المرة، أخذ يجهز كاميرته لالتقاط الصورة، لكن سعالها اشتد كثيراً، انهارت تماماً، أمسى جسمها بارداً، مصفراً،  متخشباً.

 

وفي هنيهات، بدا الأمر سريعاً، لم يتوقعه المصور أبداً، وهو  يقف قبالة الكرسي، وشالها العريض يغطي جزءا كبيراً من جسدها المتراخي تماماً، تحير بأي أسم سيدعوها، لكنه شعر حينها أن لا أهمية للوجوه ولا للأسماء ولا لترتيب الأشياء اللازمة للصورة، سواء في هذا المكان  أو غيره، وفي هذا الصباح  بالذات أو مساء هذا اليوم أو يوم غد بعد أن باتت الحقائق مبهمة، الموت هو الشيء الوحيد الواضح الذي سيكون في الصورة وخلفه نصب كبير لا يفهم مغزاه الكثيرون في بغداد؛ ماذا إن وصل إلى نيويورك؟ 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جواد محمد سليم علي عبدالقادر الخالدي، يعتبر من أشهر النحاتين في تاريخ العراق الحديث، من أعماله نصب الحرية في بغداد.

_____________________________

كاتب من العراق

الصورة من رسوم المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني (1920 – 1993) ولها أن تكون رسوماً أولية لشخصيات أفلامه متسائلاً ” لماذا أرسم شخصيات أفلامي؟ لما أدوّن ملاحظات غرافيكية عن وجوههم، أنوفهم، شواربهم، ربطات عنقهم، حقائبهم.. هي طريقتي ربما لأبدأ بمشاهدة الفيلم وجهاً لوجه، لأرى من أي نوع هو، محاولاً ترميم شيء مهما كان صغيراُ وصولاً إلى حدود العدم، لكن ذلك يبدو لي شيئاً يمكن فعله مع الفيلم، ليبدأ حديثه معي في الخفاء”.

*****

خاص بأوكسجين

   


مساهمات أخرى للكاتب/ة: