من ميللر إلى نن | هنري ميللر | ترجمة: أسامة منزلجي
العدد 217 | 11 آب 2017

[فيلا سورا]
السابع عشر من كانون أول، 1934
عزيزتي، وحبيبتي أنييس،
من المفترَض أنْ يكون هذا سراً ولكن لا أستطيع أنْ أُخفيه، إنه جيد جداً، وأرغبُ رغبة جامحة في أنْ تكوني سعيدة. لقد أرسلتُ تواً برقية جوابيّة على برقيتك. قلتُ فيها إنكِ ستكونين سعيدة عندما تستلمين أخيراً الرسائل كلها، وأعلم أنكِ ستكونين كذلك، على الرغم من أنها قد تكون ممزوجة بقدرِ ضئيل من الألم والأسى. لأنه في أعماق الرسائل كلها تكمن كلمة واحدة كبيرة – الحب. يجب أنْ تتيقّني من هذا – دائماً.
لكنني يجب أنْ أخرج. عند ظهيرة هذا اليوم، لدى عودتي من مكتب البرقيات، قابلتُ فريد وتناولنا طعام الغداء معاً. إنه كثير الانشغال الآن، ويغيب معظم فترة النهار، يعمل لصالح أندارد، وغالباً ما يذهب إلى مجلس النواب، ويكتب لصالح النواب، إلى آخره. وهو مشهور. وسوف يُغادر حالما يُعطيه أندارد أول معاش شهري، أي قريباً. كل شيء على ما يرام بهذا الصدد (ما أسوأ أنْ تتأخّر رسائلي كل هذا الوقت!)على أي حال، خلال تناول طعام الغداء أخبرني أنَّ من المُرجَّح أنْ يتولّى مشكلة بودينيير. إنَّ بودينيير غارقٌ في الديون ويجب يننتزع المال منه. تناول أندارد galette "كعكة مُسطحة". " J'ai la galette, moi! ". إننا نهتف بهذه الجملة على فترات طوال النهار. إنها واحدة من عبارات أندارد المُفضّلة. ولكن انتظري. الأفضل هو ما يلي: قال أندارد إنه إذا تولّى العمل فسوف يرغب في نشر كتابك! بالفرنسية!
عندما سمعتُ أجفلت. "أخبر أندارد، بأنني سوف أبعث برقيّة إلى أنييس في الحال. أرسل رسالة ليليّة، لن تُكلِّف أكثر من 50 فرنكاً. أخبره هذا! سوف أُعطيك عنوان البرقية – سوف تبقى أرخص تكلفة". وهذا ليس كل شيء. ثمة أمورٌ وقعت هنا. لم يقع مثيل لها بتلك السرعة والعنف نفسيهما. وهي أمور جيدة. وكأنَّ تكهناتك الفلكية قد تحقّقتْ. أنا لستُ مهتماً بأموري. أنا أعلم إنني محظوظ وأنَّ القَدر في صالحي. ولهذا تراني لا أفرح كثيراً – أعني، فيما يخص أموري. يمكنني أنْ أنتهز فرصتي. أما أنت! إنني أبكي فرحاً عندما أفكّر في أنكِ سوف تحصلين على فترة استراحة. هذا كله من المُفترَض أنْ يكون سراً. وينبغي ألا تُخبري أحداً بشأن مشاريع أندارد. إذ لا شيء أُعدّ بصورة مُحدَّدة بعد، لكنني متأكّد من أنها ستُنجَز. لقد تناول كعكة " la galette " Quoi! [...]
ولهذا السبب أريد من أندارد أنْ يبعث إليك برقية. ربما يمكنك أنْ تعرضي تلك البرقية على أحد المُحررين وتضمني بها حقوقك الأميركية. ولكن لا ينبغي أنْ تقولي أنَّ أندارد يتولى أعمال بودينيير. هذا سرّ.
قد تندهشين عندما تعلمين أنَّ أندارد قد انتهى من قراءة كتابي وأبدى إعجابه غير المحدود به. قال إنَّ هناك فقرات تتفوّق على أي شيء قرأه من قبل. قال إنني "رجل،! quoi". وهذه كياسة شديدة منه إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه مُنافسي ويُحاول أنْ يُفشِلني من خلف ظهري. N'est ce pas ? (أليس كذلك؟) [...]
إذن هناك أناس يُريدون مُساعدتي. هذا ما يجعلني أكاد أطير من الفرح. لقد كنتِ تساعدين الناس طوال حياتك، والآن أخيراً سوف يقومون هم بمساعدتك. إنني أهذي من الفرح!
وأنا أيضاً سوف أساعدك. قبل حلول عيد الميلاد أو يوم الميلاد، قد أبعثُ إليك برقية أخرى، أقول فيها إنِّ "ألراونه" في طريقها إليك، وهذه هي هديتي لك في عيد الميلاد. وأنا أوقّع باسمك عليها، وأريدك أنْ تتركيها هناك – شريطة أنْ توافقي على عدم أهمية المخطوط. إنه كتابي أنا، لكنَّ "السيناريو" من وضعك. وكوني كتبته لا يعني أي شيء. أنا فقط أعدتُ كتابة ما أنجزتِ.إنني فقط أعيش الإلهام الذي نزل عليكِ وأورثتِهِ لي[1].
هذا كله سوف تحصلين عليه في حوالي الثامن والعشرين من كانون أول. أنييس، عزيزتي أنييس، لو أنني كنتُ ثرياً لأرسلت إليك كامل السينارية برقياً. يُؤلمني كثيراً ألا أتمكن من إرسال المزيد من البرقيات. كنتُ سأرسل برقيات كل يوم "على نهر الحب، مع الملائكة.. إلى آخره، لأنَّ حبي لم ينتهي أبداً، إلى آخره". سوف أُرسلُ إليك قلبي في برقيّة، لو أمكنني ذلك.
صحيح أنني كنت في حالة مزرية، مزرية جداً، ولكن في الأعماق هناك الأمل، والثقة في النفس، قبل كل شيء، والحب الذي لم أكنّه لأي كائن بشري آخر. ولا واحد. صدّقيني، يا أنييس. أنتِ امرأتي ويجب أنْ تكوني لي وحدي ولن أتخلّى عنكِ أبداً. لقد ارتكبتُ خطأً فادحاً بجعلك ترعاني كأمي. ولكنْ الآن أنا قويّ وواثق من قُدراتي الخاصة. وسوف أشقّ طريقاً لنا نحن الاثنين.
صحيح أنَّ السيناريو لن يكون مغامرة تجارية. ولا لاأتوقّع أنْ تبيعيه، حتى لبائع كتب إباحيّة ممتاز.لكنه سوف يجلب إليك الشهرة، أنا أؤمن بهذا. وما أريد منكِ أنْ تفعلي هو أنْ تسألي رانك إنْ كان سيُقرض المال من أجل نشره هنا في فرنسا، بطبعة فاخرة، محدودة العدد – فلنقُل 100 نسخة. ودعيه يكتب له مقدمة! (الآن أعرفُ ثلاثة ناشرين جيدين ورخيصين). دعيه يوقّع باسمه على شيءٍ ما، بما أنه كتابك. لن أدعك تُخبريه بأنني أنا الذي كتبته! أتفهمين؟ إنه لك، كله، وأريد منك أنْ تكذبي عليه. هذه المرة سوف أستحسن أكاذيبك! لأنها ليست كذباً...
الأكاذيب! عندما أكتب هذه الكلمة يبدأ الدم يغلي في عروقي. عزيزتي أنييس، يجب أنْ تغفري لي إنْ كنتُ أحياناً أسبّب لك الألم بكلمة قاسية. يجب أنْ تدركي أنني عانيتُ أكثر من أي رجل عرفتيه بسبب هذه الأكاذيب. ليس أكاذيبك، بل تلك التي كانت قبلك، الأكاذيب التي قالتها لي جون. يجب أنْ تعلمي أنَّ أقلّ خداع، مهما كان صادراً عن صدق وطيبة، الذي أصدّقه حتى من دون أنْ أقرأ رسالتك التي تشرحين فيها، أفقدني مع ذلك توازني، أعادني إلى دوامة الألم والغيرة القديمة، وخيبة الأمل التامة. إنَّ كل شيء ثمين أنشأته من أجلي انهار. كان كل شيء يدور وكنت كمجنون يطوف بحثاً عن تلك الكلمة التي سقطتْ من فمي وبدا أنّه لم تنجح أي رسالة من رسائلك قد ذكرتها. والآن ضاعت – مؤقتاً على الأقلّ. تلاشتْ لأنني غرقتُ تماماً في غمرة فرحي لأنني جلبتُ لك ربما قليلاً من السرور عبر الأخبار الطيبة التي سردتها. فرح كوني ربما ذا فائدة لك. ابكِ إنْ شئتِ. أنا نفسي أبكي وأنا أكتب هذا. كل شيء آلَ إلى الأفضل. أنت تعلمين مقدار حبي – وهذا يستحق تألُّمي.
هذه الرسالة يجب أنْ تذهب على متن السفينة هامبرغ. ليتني أحملها إليك بنفسي. ليتني كنتُ معك هناك. كم ابتلعت كلماتي، الكلمات الصغيرة، المتهورة التي تأذّيتِ منها ذات يوم عندما قلتُ إنني أودّ أنْ أذهب إلى أميركا وحدي. والآن أنا وحدي وأدفع ثمن تهوّري. إنني أعدُّ الأيام. وأكره أنْ أسأل متى بالضبط، لأنني أعلم أنَّ المسافة شاسعة. لكنَّ التفكير في أنكِ رحلتِ قبل الأوان – يا الله، كم يقتلني هذا ويقتلني. وأنا الذي دفعتك إلى الرحيل قبل الأوان! إنني أعرف كل ما تريدين أنْ تقوليه لي في تلك الرسالة التي لن تصلني إلا بعد أنْ أكتب هذه بوقت طويل، طويل. أعلم هذا كله. وأنا السبب. ضعفي. وا أسفاه، وا أسفاه! إنّنا نستحق كل ما يحدث لنا. نحن نصنع أقدارنا. هذا يقين. لكنَّ الألم يتراكم ويتراكم كقوس قُزح. لا شيء يضيع. من المعاناة يولد الفرح، أو القداسة. هذا أيضاً صحيح.
بعد ما مررتُ به في هذه الأيام لم تمنحني قراءة البرقية التي قلتِ فيها إنك " منزعجة " أي سرور. على الرغم من شعوري بأنك تستحقين أنْ تنزعجي قليلاً. وكان يجب أنْ أضحك، بشيءٍ من المرارة، هذا صحيح، لأنكِ انتظرتِ الرسالة التي تحملها السفينة بريمن قبل أنْ تنتظري رسالتك أنتِ! ما أشدّ مكرك! كم هو سلوك أنثويّ! نعم، هذا أيضاً يؤلم. إنه يُشبه برقيات جون. " تدفّق الرسائل " ومن ثم لا رسائل على الإطلاق. تنتظر لترى ماذا سأقول، كيف ستكون ردّة فعلي. ولكن كلا، لا أستطيع أنْ أصدّق أنْ مثل هذا يصدر عنك. لا أصدّق أنكِ ستمارسين مثل هذه الخدعة معي. ومع ذلك هكذا يبدو – من قراءة البرقيات. لكنني أنتظر. اليوم هو الثامن عشر منه. في الغالب يجب أنْ أنتظر حتى الثامن والعشرين. أي عشرة أيام. حاولي أنْ تفهمي معنى عشرة أيام من الترقّب القلق بالنسبة إلى رجل يتحرّق شوقاً لمعرفة الحقيقة من المرأة التي يُجبّ! حاولي، أنييس. اليوم لا تظهر السفينة ألبرت بالين حتى على لائحة السفن. لا زال الوقت مبكّراً جداً. إنني أبحث بهوس بين الأوراق عن أثر لألبرت بالين. أذهب إلى مكتب البرق مُطأطأ الرأس – ألبرت بالين، ألبرت بالين. أه نعم، ماذا تعرفين عن هذا كله؟ أنتِ " منزعجة ". يا الله، آمل ألا تكوني شديدة الانزعاج. آمل ألا تكوني قد عانيتِ مثلي. ما كنتُ لأتمنى هذا لأسوأ أعدائي.
يجب أنْ أتوقف. يجب أنْ أحافظ على نفسي قليلاً. الأيام العشرة الأخيرة كانت فيضاً من العطاء المستمر، الاستنزاف، الانطلاق بلا مكابح. جيئة وذهاباً إلى المحطة، إلى مكتب البرق، هنا، وهناك، وإلى كل مكان، أكتب إليك، أحلمُ بكِ، أتقلَّبُ طوال الليل، أدخّن خلال الليل، أقابل أناساً، أبتسم لهم، ولا أسمعهم، ألعبُ دور المهرّج، أضحك، وأبكي في سرّي، أعمل، آمل، أيأسْ، أصلّي، ودائماً أنتظر وأنتظر وأنتظر الرسائل، أو شيئاً ما، ولو حتى كلمة واحدة تُسعدني. (وأنت ترسلين إليّ سيلوفان! هل أُصِبتُ بالجنون؟ بل انتابني حنق شديد ومزّقتها ومضغتها حتى أضحت إرباً. اقتحمتُ ناطحات السحاب ومحطات الإذاعة وحمّمات الكروم والرخام والأبواب الدوّارة.كم أكره أثيرتكِ نيويورك!) لكنني هادئ الآن. الظلام يسود. أكاد لا أرى هنا. أتساءلُ أين أنتِ، مع مَنْ تتحدثين، في أي شارع تمشين، وأي دعوة إلى العشاء تُلبّين، بساقيّ مَنْ تحتكين، مَنْ الذي يحصل لديه انتصاب وهو يُراقصك، ويقول "حبيبتي أليس رائعاً، إلى آخره". أتساءل إنْ كنتِ قد رأيتِ صديقي إميل شنيلوك، إنْ كنتِ جلستِ معه وتحدثتما عني، ولو لخمس دقائق. أتساءل إنْ كان خطر في بالك مرة أنْ تتمشي في الشوارع التي ذكرتُها لك، وتبحثي عن ذلك المنزل الصغير في "شارع الأحزان المُبكّرة". أتساءل وأتساءل. لقد كنتِ طيّبة معي إلى أقصى مدى وأيضاً قاسية إلى أقصى مدى. إنني أغفر كل شيء، حتماً! كيف يمكن ألا أفعل؟ إنه الحب، والحب ألم. هل هذا يُسعدك، كما فلتِ عندما أرسلتِ الشيك؟ هل هذا يُسعدك؟ آه، إذن كوني سعيدة! أنا أيضاً سعيد بأسلوبي الحزين.
[هنري]
_____________________________________________
[1] - استلهاماً من رواية نن " ألراونه "، التي أصبح عنوانها في نهاية المطاف " منزل السِفاح "، كتب ميللر سياريو لـ " فيلم مع صوت " نُشِرَ بطبعة محدودة من 200 نسخة، ووضع الصورة على الصفحة المواجهة للغلاف إبراهام راتنر، في دار أوليسك بريس، في باريس، عام 1937. ضمّه لاحقاً إلى كتاب " العين الكونيّة " ، الكتاب الأول الذي نُشِرَ لميللر في الولايات المتحدة (نورفوك، CT: دار نيو دايركسن، 1939) " السيناريو " أُنتِجَ لصالح الإذاعة الفرنسية في عام 1952، وقدّمه بليز سيندرار.
*****
خاص بأوكسجين
[1] - استلهاماً من رواية نن " ألراونه "، التي أصبح عنوانها في نهاية المطاف " منزل السِفاح "، كتب ميللر سيناريو لـ " فيلم مع صوت " نُشِرَ بطبعة محدودة من 200 نسخة، ووضع الصورة على الصفحة المواجهة للغلاف إبراهام راتنر، في دار أوليسك بريس، في باريس، عام 1937. ضمّه لاحقاً إلى كتاب " العين الكونيّة " ، الكتاب الأول الذي نُشِرَ لميللر في الولايات المتحدة (نورفوك، CT: دار نيو دايركسن، 1939) " السيناريو " أُنتِجَ لصالح الإذاعة الفرنسية في عام 1952، وقدّمه بليز سيندرار.