من هنري ميللر إلى آنييس نن
العدد 163 | 12 كانون الأول 2014
ترجمة: أسامة منزلجي


4 آذار، 1932

آنييس 

   بعد أنْ غادرت بثلاث دقائق. كلا، لا أقوى على كبح نفسي. سأبوح لك بما تعرفين أصلاً – أنا أحبك. إنَّ هذا ما أعمل على تدميره مراراً وتكراراً. في “ديجون” كتبتُ لكِ رسائل طويلة، مشبوبة – لو أنكِ بقيتِ في سويسرا لأرسلتها إليك – ولكن كيف كان يمكن أنْ أُرسلها إلى “لوفرسيين”؟

   آنييس، لا أستطيع أنْ أُضيف المزيد الآن – إنني محموم. أكاد لا أقوى على التحدث إليك لأنني كنتُ باستمرار على شفا أنْ أنهض وأضمّك بين ذراعيّ. كان يحدوني الأمل في ألا تُضطرين إلى العودة إلى المنزل لتناول وجبة العشاء – كنتُ آمل أنْ نخرج إلى أي مكان لنتعشى ونرقص. أنت ترقصين – كم من مرة حلمتُ بهذا – أنا أرقص معك، أو أنت وحدك ترقصين ورأسك يميل إلى الخلف وعيناك نصف مُغمضتين. يجب أنْ ترقصي لأجلي هكذا. تلك هي ذاتك الإسبانيّة – الدم الأندلسي المُقطَّر.

   أنا جالس في منزلك الآن ورفعتُ كأسك إلى شفتيّ. لكنني معقود اللسان. إنَّ ما قرأتِهِ على مسمعي يغمرني. ولغتك تغمرُ أكثر من لغتي. أنا طفلٌ بالمقارنة بكِ، لأنهن عندما يتكلّم رحمكِ فإنه يكشف عن كل شيء – إنَّ ما أعبده هو الظلام. لقد كنتِ مُخطئة عندما اعتقدتِ أنني أُقدِّرُ القيمة الأدبية وحدها. ذلك كان نِفاقي الذي تكلَّم. إنني لم أندفع حتى الآن لأبوح بما أفكّر. لكنني أغوص – لقد فتحتِ هوّة تحتي – ولا سبيل إلى التراجع.

   لقد كنتُ أعيشُ معك على الدوام، دون عِلمٍ منكِ. لكنني كنتُ أخاف أنْ أعترف بذلك – حسبتُ أنه سيُرعبك. واليوم صممتُ على أنْ أجلبكِ إلى غرفتي وأريكِ لوحات الألوان المائية. ولكن يبدو أمراً خسيساً أنْ أُحضركِ إلى الفندق البائس الذي أُقيمُ فيه. كلا، لا أستطيع أنْ أفعل ذلك. أنتِ التي ستقودينني إلى مكان ما – إلى كوخك، كما تسمّينه. قوديني إلى هناك لكي أضمك بين ذراعيّ.

   وأكذبُ، يا آنييس، إذا قلتُ إنني لا أريد أنْ أعبدك. هل توقّعتِ أنْ أخبركِ مثل هذه الأشياء ؟ عندما شاهدتُ فيلم ماريوس [ لمارسيل بانيول]، كنتُ أحلمُ بكِ – أنتِ أشبه بذلك القارب الخارج إلى عرض البحر، وأشرعتكِ منشورة على آخرها، وأشعة الشمس تعبثُ بك. ومثل ماريوس، انضممتُ إلى القارب في الساعة الحادية عشرة – قفزتُ من النافذة الخلفية وأسرعتُ إلى رصيف الميناء. 

   ومع ذلك، لا أعلم إلى أي مدى أجرؤ على الكتابة إليك على الرغم من سماحك لي بهذا. لدي إحساس بأنني ربما أرتكب فعل تدنيس، ومن ثم أفكِّر في أنَّ هذا غير معقول. لابد أنَّ غرائزي على صواب. ومع ذلك، أنتظرُ بنهم وصول بضع كلمات منكِ. نعم، أنتِ أخبرتني، مرات عدة، بمائة طريقة مختلفة، لكنني بطيء. آنييس، لعلّي بطيء لأنه عذابٌ لذيذ. إنه كانتظار أنْ أراك تنهضين عن عرشك.

   وبالنسبة إلى هيوغو – آنييس، لا أستطيع أنْ أفكِّر في هيوغو. من المستحيل أنْ أفكّر فيه وفيكِ. أرجوك لا تكذبي على نفسك الآن. ليس أمامي !

   قد أتّصل بك غداً وأُعلِمكِ أنَّ هذا انتظارٌ لك. سوف أتصل بك على الفور، ولن يكون هيوغو موجوداً. 

   هناك جهاز هاتف في فندقي لكنني لا أعرف الرقم، وأخشى ألا يكون موجوداً في الدليل. على أية حال، إذا نجحتِ في الاتصال، فإنَّ رقم غرفتي هو 40.

حينئذٍ لن أتمكن من رؤيتك يوم الأحد. وهذا أيضاً أمر صعب. لكنه أفضل – أنتِ على صواب.

هنري

 

6 آذار، 1932

***

… آنييس، أنت التي حرّكتِ نسغ الحياة. أنا لم اعُد مسؤولاً عما أقول أو أفعل بعد الان. اسمعي، سوف تستلمين الرسالة وقد تُصابين بخيبة الأمل. إنها لا تمثّل إلا جزءاً يسيراً مما أريد أنْ أُفضي به إليك، ولا أزال خالي الوفاض من الشجاعة التي ينبغي أنْ أتحلى بها. لماذا، اللعنة، لماذا ؟ أنت التي منحتني الإذن. ولكن هل تتوقعين كل ما أريد أنْ أقول ؟ اقرئي على مسمعي ملاحظاتك – نعم، نعم، هناك فرق بين ما أكتب وما أقول، وما أفعل. فلنقُل، قد كان هناك.

   آنييس، إنني أتعرَّض للمقاطعة على الدوام. سوف أحاول أنْ أتابع في المنزل. إنهم فضوليون هنا بحيث أنَّ عليّ أنْ أكتب أكثر. إنهم يعتقدون أنني نهِم إلى العقاب. ويسألونني لماذا لا أذهب إلى المنزل. آنييس، في استطاعتي أنْ أمكث هنا طوال الليل وأكتب لك. إنني أراك أمامي دائماً، ورأسك منكَّس ورموشك الطويلة منسدلة على وجنتيك. وأنا أشعر بأنني شديد التواضُع. ولا أعلم لِمَ اخترتني – إنَّ هذا يُحيّرني. ولكن لا أريد أنْ أُمعن التفكير. لقد طردتني والآن لم يعد في استطاعتي أنْ أعود إلى ما كنت في السابق، مجرد صديق. أكنتُ يوماً مجرد هذا ؟ يبدو لي أنه من البداية الأولى، عندما فتحتِ الباب ومددتِ يدكِ، مبتسمة، أُسِرتُ، أصبحتُ ملكك. جون  أيضاً شعرت بذلك. قالت على الفور إنكِ عشِقتني، أو أنني عشقتكِ. ولكن أنا نفسي لم أعلم أنه كان حباً. تحدثتُ عنكِ بكل حماس، بلا تحفّظ. ثم قابلتكِ جون ووقعتْ في شباك حبّك، وانزعجتُ قليلاً، ليس بسبب جون، بل بسببك. وعندما أتيتُ إلى منزلك وبكيت، عندما تمشيتُ في الغابة معك، كنت أضمرُ تحت حزني ويأسي رغبة دفينة في أنْ أضمك بين ذراعيّ، لجعلك تحبينني. ولكنَّ كلماتك الأولى جمّدتني. قلتِ، ” نحن نشتاق إليها “. مررت بلحظة رعب – أنت تعرفين هذا كله، ولستُ في حاجة إلى شرحه. لكنني لم أبتعد عنك. وللمرة الأولى في حياتي كنتُ أُصغي إلى شخص يقول هذه الأشياء دون أنْ أكره ذلك الشخص. كان في وسعي أنْ أسامحك على أي شيء… ولا أزال أستطيع ذلك.

   أعود إلى الغرفة ولا أزال محموماً. بحثتُ في كل مكان عن الرسالة. لا استطيع حتى الآن أنْ أكتب لك رسالة. أسمع المولِّد يدور خارج النافذة. ثمة ظاهرة غريبة في الخارج – هناك مبنى يتوهّج كمعدن حامٍ وبعده منزل بلون أبيض ناصعاً، لبنياً، والباقي يطفو في الفحم. أتلفّت حولي في الغرفة لأرى ماذا في وسعي أنْ أقدِّم لك ؛ لا أرى إلا اللوحات المائية وملاحظات – ملاحظات في كل مكان، وخلفها اسمك – أري هذه لآناييس، اسأل أناييس، قابل آنابيس.

   أويتُ إلى السرير لكنَّ النوم جافاني. نهضتُ من جديد، أرتعش، مع رغبة في الكتابة. كان الوقت فجراً والزُرقة تصبغ كل شيء. أمامي مُقتطفات من توماس هاردي. وهي تقريباً آخر ما اهتممتُ به، وها أنا ذا، ماذا أرى – ” عاد إلى الغرفة وجلسَ كما يجلس المتفرجون في أمسيات منتصف الصيف القديمة، متوقعاً أنْ يرى شبح الحبيبة ” سوف أجلب الملاحظات معي، إنها لك. وأنت، هل لكِ أنْ تعطيني نسخة من تلك الأسطر التي قرأتها من يومياتك ؟  إنها رائعة – وأعتقد أنَّ روعتها هي التي تمسسني أكثر من أي شيء آخر. فكيف، بعد أنْ أصغيتُ إليها، أستطيع أنْ أكتب لكِ أي شيء وافٍ ؟

   تتسابق المقاطع في ذهني – عاجزاً عن إعطاء أي شيء حقّه من التفكير. قولك ذات يوم إنَّ المرأة الإسبانية تحبّ حبيبها أنْ يأتيها ورائحة الخمر تفوح منه… وقولك إنكِ أردتِ أنْ تتعرّفي إلى رجل ” خليع “، لكي تفهمي شخصيته… ووصفك لنفسك وأنت تسيرين في شوارع باريس وذؤابتا ثدييك مشدودتان وتخزانك. إنني أشعر، وأنا أقرأ من دفترك، انني للمرة الأولى سوف أعرف ما هي أحاسيس المرأة العاشقة…… وأتساءل مراراً وتكراراً، أهي تنظر إلى الرجال دائماً بتينك العينين الثابتتين ؟… ومن ثم، دعوة للسير في أرجاء الريف – للسير، ليس خلال الريف، ولكن إلى حانة مغمورة، لأمطرك بالخمر، وأشمّ رائحة دماءك العربية. دماؤك – أريد مسحةً منها لأضعها تحت المجهر. ذات مرة أتيتِ ووقفتِ أمامي، وجهاً لوجه، وبيننا ظهر الكرسي – كيف استطعتُ أنْ أكبح نفسي ؟ وفي أوقاتٍ أخرى لم أشعر إلا بعقلك، وعقلك مُراوغ، إنه يتسلل بين أفكاري وأُضطر إلى بثّ رمال وإلا انزلقتْ الدواليب… خائفاً من أنْ تقتربي مني كما تقتربين من وحش، من أنْ تتفحصيني – وحتى الآن كنتُ أنا الذي يقوم بالتفحُّص…….

______________________________

من “مراسلات هنري ميللر وآنييس نن”

 

الصورة من فيلم “الخروج للنهار” للمخرجة المصرية هالة لطفي. للتعرف على الفيلم  يمكنكم قراءة  (“الخروج للنهار”..بيت لا يسجن حياة ولا يطلق سراحها) ضمن مواد هذا العدد. 

*****

خاص بأوكسجين