من رواية ” كآبة المقاومة “
العدد 255 | 24 نيسان 2020
لازلو كرازناهوركاي


 

    بما أنَّ قطار الركّاب الذي يصل العزب التي تكتنفها الثلوج في الأراضي المُنخفضة الجنوبيّة، والممتدَّة من ضِفاف نهر تيزا وحتى سفوح سلسلة الجبال الكارباثيّة تقريباً، فشِلَ، على الرغم من التفسيرات المُحرَّفة للحارس المُعاق بصورة مؤسفة ووعود مدير المحطة المندفع بعصبيّة جيئة وذهاباً على رصيف المحطّة، في الوصول (” حسن، أيّها المُرافق، يبدو أنَّه تلاشى في الهواء من جديد… ” هزَّ الحارس كتفيه، وهو يتجهّم)، رُبِطَتْ الحافلتان القديمتان بمقاعدهما الخشبيّة الوحيدتان الصالحتان للخدمة من أجل مثل هكذا “حالات طارئة ” بـ 424 عفا عليها الزمن، ولا يُعتَمَد عليها، ولا تُستخدَم إلّا كملجأ أخير، وتوضَع في الخدمة، على الرغم من تأخّرها ساعة ونصف الساعة، وِفقاً لجدول المواعيد الذي لم يكونوا يلتزمون به والذي لم يكن على أيّ حال إلّا جدولاً تقريبيّاً، لكي يصل في نهاية المطاف السكّان المحلّيون الذين كانوا ينتظرون بلا طائل نقلهم إلى الشرق، وقبلوا تأخّر القطار بما بدا أنّه مزيجٌ من اللا مبالاة والاستسلام العاجز، إلى غايتهم التي تبعد حوالي خمسين كيلومتر على طول الخط الفرعيّ. والحقيقة هي أنّه لم يُفاجأ أحد بهذا بما أنَّ السفر بالقطار، كأي شيء آخر، عُرضة للظروف السائدة: كل التوقّعات العاديّة التي تعبر لوحة الإعلانات وعادات المرء اليوميّة التي مزّقها إحساسٌ بعماء مُهلِك وينتشر باستمرار يجعل المستقبل مُبهَماً، والماضي منسيّاً والحياة العاديّة عشوائيّة إلى درجة أنَّ الناس يفترضون ببساطة أنَّ كل ما يمكن تخيّله قد يتحقَّق، وأنّه لو كان هناك باب واحد فقط في مبنى فلن يُفتَح بعد الآن، وأنَّ القمح سوف ينمو عميقاً داخل التربة وليس خارجها، وأنَّ سبب ذلك يبقى سرّاً مُغلقاً ومُبهَماً، بما أنَّ المرء يستطيع فقط أنْ يُلاحظ أعراض التحلُّل، لا يبقى للمرء إلّا أنْ يتمسَّك بقوة بأي شيء ما زال ملموساً؛ وهذا بالضبط ما يستمر الواقفون على رصيف محطة ريفيّة بفعله، أملاً في احتلال المقاعد المُخصّصة لهم والمحدودة العدد في الأساس، عندما يُغيرون على أبواب العربات التي بات من الصعب فتحها بسبب تجمّدها. ولعبت السيدة بلوف، التي تصادفَ أنْ كانت في طريقها إلى المنزل عائدة من زياراتها الشتويّة المعتادة لبعض الأقرباء، دوراً كاملاً في الصراع العبثيّ (عبثيّ، بما أنهم سرعان ما اكتشفوا أنّه في الحقيقة لم يتبقَ أحد واقفاً)، وبعد أنْ أزاحت جانباً الواقفين في طريقها واستعانت ببُنيتها الضئيلة لكبح الحشد الضاغط عليها من الخلف لكي تضمن مقعداً مًقابلاً للنافذة الخلفيّة، لم تعُد تميِّز بين إحساسها بالسخط من الاحتكاك الذي لا يُحتَمَل الذي اضطرّتْ إلى تحمّله وشعورٍ مختلف، يتذبذب بين الغضب والألم، حفّزه إدراكها، وهي التي تحمل بطاقة الدرجة الأولى، التي أضحتْ بلا أيّة قيمة وسط تلك الرائحة الكريهة من السجق بالثوم الممزوجة بغبَق براندي من مزيج الفاكهة وتبغ لاذع ورخيص، ومُحاطة بحلقة مُهدِّدة من “فلاحين مبتذلين” يتجشؤون، ويتكلمون بأصوات مرتفعة، أنها ستواجه شكاً شديداً ينتاب كل مَنْ يتورّط فيما كان في كل الأحوال خطر السفر في هذه الأيام، وبعبارة أخرى أنّها لا تعلم إنْ كانت ستصل إلى منزلها أصلاً. وما كانت أخواتها، اللواتي عشن في عزلة كاملة منذ أنْ جعلهن التقدُّم في السن عاجزات عن الحركة، ليسامحنها لو أنّها تجاهلت زيارتها الشتويّة المعتادة لهنَّ ومن أجلهنَّ رفضَتْ أنْ تتخلّى عن هذه الرحلة الخطرة على الرغم من يقينها كأي إنسان آخر من أنَّ شيئاً قد تغيَّر تغيّراً متطرّفاً فيها بحيث أنَّ أشدّ السُبُل حِكمة يمكنها اتّخاذها في ظل الظروف الراهنة هو تجنّب أيّة مُخاطرة. ولكنْ لم تكن مهمّة سهلة أنْ تكون حكيمة، وتتوقَّع برصانة ما ينتظرها، لأنّه بدا كأنَّ تحوّلاً حيويّاً ولكن غير واضح قد طرأ على نسيج الهواء الثابت على الدوام، على تلك الآليّة شديدة النأي حتى الآن أو على المبدأ المجهول – الذي، كما لوحِظَ غالباً، يجعل العالم يدور، وأوضح دليلٍ عليه هو ظاهرة وجود العالم – فقَدَ فجأة بعضاً من قوّته، ولهذا السبب كانت المعرفة المُقلِقة لاحتمال الخطر في الحقيقة أقلّ وطأةً من الحسّ الشائع المتشائم القائل إنَّه قريباً يمكن أنْ يحدث أيّ شيء وإنَّ ذلك الـ “أيّ شيء” – والقانون الذي يتحكَّم في احتمال وقوعه يتجلّى في عمليّة التحلُّل – يؤدي إلى قلقٍ أعظم من التفكير في أي سوء حظ شخصيّ، وبالتالي يحرم الناس باطراد من إمكانيّة تقييم الحقائق بهدوء. وقبل أنْ يُصبح ترسيخ المرء لاتجاهه بين الأحداث الأكثر إثارة للخوف خلال الأشهر السابقة أمراً ممكناً، ليس فقط لانعدام تماسُك مزيج الأخبار، والثرثرة، والإشاعات والتجربة الشخصيّة (قد تتضمَّن الأمثلة عليها فترة البرد الشديد المُبكِّرة جداً في أوائل شهر تشرين ثاني، والكوارث العائليّة الغامضة، وحوادث القطارات السريعة والمتوالية وتلك الإشاعات المُرعبة عن عصابات الأطفال الإجراميّة التي تطمس النُصُب العامة في العاصمة النائية، التي لا يوجد بينها أيّة صِلة معقولة)، بل أيضاً لأنّ لا معنى لأي خبر من تلك الأخبار، فكلّها تبدو مجرّد تكهّنات لعددٍ متزايد من الناس بأنّه “الكارثة القادمة”. بل إنَّ السيدة بلوفْ سمعَتْ أنَّ بعضَ الناس بدأوا يتكلّمون عن تغيّرات معيَّنة طرأتْ على سلوك الحيوانات – وبينما كان يمكن رفض هذا – في الوقت الراهن على الأقلّ، على الرغم من أنَّ لا أحد يعلم ما الذي سيحدث لاحقاً – بوصفِهِ ثرثرة غير مسؤولة، فإنَّ شيئاً واحداً كان مؤكَّداً، وهو أنّه خِلافاً لأولئك الذين يعتبرون أنَّ هذا مجرد فوضى تامة، كانت السيدة بلوف مقتنعة، على العكس، بأنّه مناسب تماماً في توقيته بما أنَّه لم يعد هناك أي إنسان محترم يجرؤ على أنْ يطأ بقَدَمَه عتبة دارها، وفي مكانٍ يمكن لقطارٍ أنْ “يختفي ببساطة” لم يعُد هناك، أو هكذا اعتقدتْ، “أي معنى لأي شيء”. وهكذا أعدَّتْ نفسها ذهنيّاً لرحلة العودة إلى المنزل، التي من المتوقَّع أنْ تكون أقلّ راحة بكثير من رحلة خارجيّة، يُحيط بها كما كان وضعها الاسميّ حينئذٍ بوصفها مسافرة على الدرجة الأولى، بما أنها قالت في نفسها بعصبيّة إنه “يمكن لأي شيء أنْ يحدث على هذه الخطوط الفرعيّة المُريعة” ومن الأفضل أنْ توطّن نفسها على الأسوأ ؛ لذلك جلستْ كَمَنْ يُسعِده أنْ يكون خفيّاً، مستقيمة الظهر، ورُكبتاها مشدودتان معاً كتلميذة مؤدَّبة، وترسم على وجهها تعبيراً فاتراً، وممتعضاً نوعاً ما، بين تجمّع الناس الذي يخفّ ببطء ولا يزالون يتزاحمون على المقاعد، وبينما هي تنظر بعين الشك إلى مجموع العيون المُرعبة لوجوه غير مُحدَّدة يعكسها زجاج النوافذ، تراوحت مشاعرها بين القلق والتوق، تفكر تارَّة في المسافات المشؤومة الممتدة أمامها وتارة في دفء المنزل الذي اضطرَّتْ إلى تركه؛ في تلك الأوقات الممتعة مع السيدة ماديه والسيدة نوزبك، وفي تلك النزهات القديمة أيام الآحاد سيراً على الأقدام على طول جادّة فرايرز ووك التي تحفّها الأشجار، وأخيراً في السجاد الناعم وأثاث المنزل المُرهف، وفي ذلك الهدوء المُشعّ للأزهار المُنسّقة بعناية وفي ممتلكاتها الصغيرة كلها التي، كما كانت تعلم جيداً، لم تكن فقط بمثابة جزيرة وسط عالمٍ غامض تماماً أضحت فيها أوقات بعد الظهيرة وأيام الآحاد مجرد ذكرى لكنّها الملجأ والمواساة الوحيدة بالنسبة لامرأة وحيدة صُمِّمَ نظام حياتها ليوفّر السلام والسكينة. وأدركتْ بشكلٍ مُبهَم، وبدرجةٍ من الاحتقار الحاسِد، أنَّ أقرانها من المُسافرين الصاخبين – مُعظمهم من الفلاحين الخشنين القادمين من أشد حنايا وزوايا قُرى نائية ظُلمة – يتأقلمون بسرعة حتى مع مثل تلك الظروف الضيِّقة : بالنسبة إليهم كأنَّ لا شيء غريباً حدث، ففي كل مكان كان يُسمَع حفيف أوراق مُضادة للشحم تُفتَح ويستخرَج منها الطعام، وفرقعه فلّين زجاجات، وسقوط أغطية عبوات البيرة على الأرض اللزجة، وكانت تسمع هنا وهناك ذلك الضجيج “المقصود به إهانة أشد مشاعر المرء رهافة” ولكنه، حسب رأيها، ” شائع تماماً بين العامة من الناس “جرّاء المضغ والسحق بالأسنان”؛ وزيادة على ذلك، كانت مجموعة من أربعة أشخاص جالسة أمامها هي الأعلى ضجيجاً، وقد بدأتْ تواً اللعب بالورق – وبقيَتْ، إلى أنْ تُرِكَتْ وحدها، منعزلة، جالسة بشكلٍ أشدّ جموداً بين الصخب الإنساني الذي يزداد علوّاً، صامتة، تُدير وجهها بتصميم نحو النافذة، وفرو معطفها محميّ ضد المقعد بورق صحيفة، وهي تقبض على حقيبة يدها وتشدّها نحوها بارتيابٍ مرعوب ومُصمِّم بحيث أنّها لم تلاحظ تقدُّم القطار، ومصباحيه الحمراوين يخترقان الظلام المتجمّد، متقدّمان بتردُّد داخل المساء الشتويّ. كانت مُساهمتها الوحيدة في ضجيج الارتياح العامّ (همهمة الرضا، وزفير الفرح) هي تنهيدة سرّية، بحيث أنّه بعد فترة طويلة ورهيبة من الانتظار حدثَ أمرٌ أخيراً ؛ على الرغم من أنَّ ذلكَ لم يدُم طويلاً، لأنه بعد أنْ قطع القطار مسافة مئتيّ متر فقط عن رصيف القرية الذي أصبح الآن يرين عليه الصمت وبعد بضعة ارتجاجات خرقاء – وكأنَّ النظام الذي سمحَ لهم بالتحرُّك أُبطِلَ فجأة – توقفَ القطار مع اهتزاز؛ وعلى الرغم من أنَّ صيحات الشعور بالخيبة أفسح المجال لضحك الحيرة والغضب، حالما أدركَ الناس أنَّ من المتوقَّع اسمترار هذا الوضع وأنّهم مُجبرون على الاعتراف بأنَّ رحلتهم – ربما بسبب استمرار الفوضى الشاملة نظراً لتشغيل قطار من خارج الجدول الموضوع – محكومُ عليها للأسف بالتذبذب بين التقدُّم والتوقّف، استسلموا جميعاً للامبالاة مازحة، وبلادة حسّ تتلو عادة عندما يُضطر المرء إلى قبول حقائق معيَّنة، وهذا يُبيِّن ببساطة سلوك الناس، عندما يفشلون، بصورة مُحبِطة، في فهم شيء ما، فيحاولون أنْ يكبتوا خوفهم الذي سبّبته صدمةٌ حقيقيّة بنظامٍ يبدو أنَّ العماء طغى عليه، ولا يمكن مواجهة أمثلة متكرّرة منها بصورة ترهق الأعصاب إلّا بسخرية مُهلِكة. وعلى الرغم من أنَّ مزاحهم الفظ المتواصِل (“ينبغي أنْ أكون شديد الحذر وأنا في السرير مع السيدة…! “) أثار طبعاً حفيظة حساسياتها المُرهفة، فإنَّه كان لسيل المزاح الأشدّ فظاظة الذي كان كلٌ منهم يأمل في أنَّ يبزّ كل منها سابقتها – على كل حال، كانت نكاتاً تتلاشى – أثرٌ مُهدِّئ، حتى على السيدة بلوف، وبين حين وآخر، إثر سماعها إحدى أفضل النكات – ولم يكن هناك مفرّ من الضحك الفظ الذي يتلو كلً منها – كانت هي نفسها لا تقوى تماماً على كبح رسم ابتسامة صغيرة خجول. بل إنها غامرتْ، بحياء وبحذر، باستراق بضع نظرات سريعة، ليس إلى جيرانها الأقرب إليها بل إلى الجالسين أبعد منهم، وسط جو المرح الغريب الممتع والمُستهتر – بما أنّه بينما ظلَّ الجالسون في العربة (الرجال الذين يصفعون أفخاذهم، والنساء ذوات الأعمار غير الواضحة الضاحكات وأفواههن ممتلئة) يعتريهم الخوف، بدوا أقلَّ تهديداً مما كانوا – ظلَّت تكبح مخيّلتها القلقة وتقول لنفسها إنها ربما ليست مُضطرّة في الواقع إلى مواجهة الرعب الكامن من العامة القبيحين والعِدائيين الذي يكتنفها، وإنَّ ذلك مردَّه فقط إلى حساسيتها الشديدة حيال نُذُر سوء الحظ وإحساسها المُفرِط بالعزلة في تلك البيئة الباردة والغريبة، وإنها قد تصل إلى المنزل، سليمة كما يبدو، ولكن مُرهَقَة من فرط الحذر المتواصِل.  

 

*****

خاص بأوكسجين