من رواية “جي”
العدد 224 | 27 كانون الأول 2017
جون برجر


يستيقظ الفتى باكراً كما كان قد نوى في الليلة الفائتة. يتسلل من الفندق قبل أن يصحو أي من والديه.

لأن الناس في الشارع يتحدثون بلغة عصية على فهمه، يلف الغموض والالتباس أهمية الأحداث التي تقع أمام عينيه، ويختلط عنده العادي بالخارج عن المألوف بصورة يصعب تفسيرها. ذلك الرجل المهيوب الذي يرمي بنفسه في العربة ويصرخ على السائق، أهو خائف أم متأخر عن موعده؟ تلك الفتيات الست اللواتي يتقدمن وهن ممسكات بأيدي بعضهن (وشعر كل منهن معصوب بوشاح)، هل يكنسن باقي المارة عن الرصيف كل صباح كما يفعلن اليوم؟ وهذا الرجل الذي يقف قرب حاجز الرصيف الحجري وهو يقرأ بصوت مرتفع من صحيفة في يده… أهذه محطة يتوقف فيها قطار النقل الداخلي؟  يبدأ الرجال المتجمعين حوله بالصراخ. هل هم يصرخون تأييداً أم شجباً وغضباً؟ يغلق الجواهري متجره ويعلق قطعة من الورق كُتبت عليها بضع كلمات على باب المتجر.

أعداد غفيرة من البشر محتشدة في الشوارع لدرجة أن قطار النقل الداخلي والعربات تشق طريقها بصعوبة عبرهم. عجلات الترام تصرّ وكأنها تصيح مرعوبة على سكة الحديد. يتساءل ما إذا كانت تصيح هكذا طوال الوقت.

شاب قصير للغاية تغطي وجهه لحية يرتاب بحضور ذلك الصبي الواضح من ملابسه وهيئته أنه ينتمي إلى عائلة برجوازية. الحشد بأكمله مكوّن من عمال مضربين عن العمل تجمعوا ليستمعوا إلى المتحدثين باسمهم قرب الحدائق العامة.

ما الذي تفعله هنا، يسأله بالإيطالية، لا دخل لك بما يحدث هنا.

الصبي، الذي لا يقل طوله كثيراً عن طول الشاب ذي اللحية، يومئ برأسه ويهز كتفيه. وهذا ما يغذي الشك والريبة في نفس سائله.

لن يفيدك بشيء أن تتجسس علينا، يقول له.

فيرد عليه الصبي بالإنجليزية: لا أفهم شيئاً مما تقول.

إذاً أنت لست إيطالياً.

يحاولون أن يتحدثوا معه لكن الصبي لا يفهم شيئاً من كلامهم. يضع الشاب ذراعه حول كتف الصبي. في غضون ثوانٍ يتغير موقفه بشكل كامل. إذا كان الصبي غير قادر على فهم لغتهم، فهو محصن ضد خداع الكلمات، وهذا ما يجعله شاهداً بريئاً وصادقاً على أفعالهم. صمت الصبي يبدو له الآن، بصورة مبهمة متناقضة، متطابقاً مع شمولية الثورة التي يؤمن بها. ينادي على أخته الواقفة مع مجموعة من فتيات المصنع بالقرب منهم: تعالي وتعرفي على كتكوتنا، هذا كتكوتنا الظريف Ecco il nostro pulcino.

على الرغم من قصره وضآلته، يتمتع الشاب القصير ذو اللحية بصدر مسطح عريض. له وجه يشبه وجه النمس. يعمل في قسم الصيانة في مصنع للقطن. قُبض عليه مرتين منذ العام 1894 وتم ترحيله بموجب قانون Crispi للأمن القومي (the dectro-legge).

دعيه يبقى معكِ، يقول لأخته، هو لا يتحدث الإيطالية.

من بين فتيات المصنع الست اللواتي وُضع الصبي في عهدتهن، تسترعي انتباهه بشكل خاص فتاة من روما تكبره بسنتين أو ثلاث لا غير، وجهها تغطيه آثار بثور لم تزل بزوالها، وفوق شفتها العليا نما شارب خفيف مكون من بضع شعيرات سوداء. يلاحظ أيضاً، ذلك أنها كانت ترتدي بلوزة بيضاء بأكمام قصيرة، أن ذراعيها نحيلتان بصورة شاذة، وكأنهما عصوان بنيتان متصلتان بيديها. شاربها يثيره ويحرجه في الوقت نفسه.

بالنسبة إليهن يشكل الصبي لغزاً فاتناً. بإمكانهن أن يتحدثن عنه وكأنه غير موجود.

عيناه جميلتان.

انظرن إلى جلد حذائه.

من أين هو يا ترى؟

بإمكانهن مع ذلك التقرب منه، ولمسه، ودراسة ردود فعله. كونه نصف رجل ونصف طفل، يبدو لهن وكأنه سفير بين جمهورية أحلامهن الرومانسية في فترة الطفولة ومملكة الرجال الذين سيتوجب عليهن أن يخترن واحداً منهم في القريب العاجل. (الكبيرة بينهن تكسب أقل من ليرة واحدة في اليوم).

دعونا ندعوه بخطيبي “affianzato”، صرخت بنت روما التي جعلتها الإثارة البادية على وجهها تبدو وقحة فاحشة، وما زاد من وقاحتها قبحها الذي لا يختلف عليه اثنان، وحقيقة أن الصبي ما كان ليفهم شيئاً مما تقوله.

أعداد من يحتشدون في شارع كورسو فينيتزيا والمناطق المحيطة به يُقدر بخمسين ألفاً. بعضهم منظم في أرتال وفرق آتية من مصانع بعينها، وبعضهم يتجمع في شلل صغيرة أقل تنظيماً. لا يعرفون كم تبلغ أعدادهم بالضبط، لكنهم جميعاً يشعرون بأنهم يمثلون الأغلبية. يمكن للأغلبية أن تطالب بما يريده كل فرد منها ولا يستطيع التعبير عنه بمفرده. انظروا إلى هذا الرأس وهذا الجسد قليل التعليم، سيئ التغذية، رث الملابس، مجهد بالعمل المضني… هذا يستحق أفضل ما يمكن لهذا العالم أن يقدمه.

على أطراف الحدائق العامة، يرى الصبي ذلك الشاب صاحب اللحية يقف تحت شجرة ويخطب في الحشد. يصدر إليهم التعليمات حول وجهة التحرك وكيفية الوصول إليها.

الجماهير المحتشدة تنظر إلى المدينة نظرة مختلفة لم يعهدوها من قبل. عطلوا المصانع وأوقفوا إنتاجها، أجبروا المتاجر على الإغلاق، عرقلوا السير، واحتلوا الشوارع. هم من بنى هذه المدينة، وهم من صانها وحافظ عليها. وها هم الآن يكتشفون ما صنعوه وما يمكنهم أن يفعلوا بصنيعهم. في حياتهم اليومية كانوا يتعايشون مع ما تقدمه الظروف لهم، وها هم الآن يملأون الشوارع ويكتسحون كل ما يرونه في طريقهم ليعاندوا الظروف التي تفرض وجودها على وجودهم. ها هم يرفضون كل ما كانوا عادة يذعنون له بإنكار تام لذواتهم. ها هم يطالبون جميعاً بما يريده كل فرد منهم ولا يمكنه أن يطالب به بمفرده: لماذا علي أن أموت كل يوم كي لا أموت مرة واحدة وإلى الأبد؟

معظم من في الحشد جاهل بالسياسة ودهاليزها. السياسة هي الأداة التي تبقيهم تحت نير القمع وخط الفقر. السياسة هي السلاح الذي يجعلهم ضحية للخداع ويجردهم من أسلحتهم. السياسة هي السلطة التي تقمعهم. في قلب كل منهم تسكن رغبة في تحدي المنظومة السياسية لمن يمارس القمع بحقهم مدججين بسلاح وحيد وبسيط اسمه العدالة… عدالة قضيتهم، يتضرعون إلى سماء ميلانو، ويتوسلون المستقبل لكي يكون مشرقاً. ولكن بالرغم من ذلك، العدالة يلزمها حاكم عادل… وليس هناك لا عدالة ولا حاكم عادل.

تهجم فرقة الخيالة مع انطلاق أولى الرصاصات. الرصاصات تمر فوق رؤوس المحتشدين.

فرقة الخيالة منتظمة في أرتال، وكل رتل مكون من خمسة أو ستة فرسان. وكلما ما مر رتل من بين المحتشدين، بدا وكأن قطاعات من الحشد تعود لتنظم صفوفها، ليس بغرض المقاومة، ذلك أن المقاومة الآن غير واردة، لكن لكي يتجنبوا الأحصنة عليهم أن يحشروا أنفسهم في جماعات تتكوم فوق بعضها بصورة لا يمكن تخيلها، وبمجرد أن يعبر الخطر بصورة مؤقتة، تتوسع من جديد بضغط انضغاطها الذي لا يحتمل طويلاً. أرتال الخيالة تلف وتدور وتناور، وقطاعات من الحشد تتقلص وتتمدد متل قلوب نابضة. الصيحات تعلو وتخبو والصراخ لا ينقطع.

يتقدم رتل من الخيالة. يشب الحصان الأكثر قرباً فوق جماعة تكوّم من فيها على بعضهم. لم يكن الصبي حتى تلك اللحظة قد رأى حصاناً من الأسفل وهو يُستخدم كسلاح ضده. مثله مثل خاله، اعتاد أن يكون فارساً يعتلي الخيول ولا تعتليه. مخيفة رؤية الجانب السفلي من حصان يشب وأنت تحته، مخيفة للغاية. جسد هائل وثقيل له حوافر تنتعل حدوات معدنية تحت سيقان مكسوة بعضلات مرعبة. لكن التهديد الجسدي مشوب بشيء آخر. الحصان مكون من أعصاب أيضاً… الحصان مخلوق من عظم ولحم ودم. الحصان يتنفس بصعوبة… الحصان خائف. عنف خيّاله يشوّه طبيعته. الحصان عاجز مثلك وهو يوشك أن يدهسك ويحطمك. يبدو وكأن خوفك على حياتك قد تسلل بصورة خارجة عن السيطرة إلى نفس الحصان الذي يهدد حياتك.

عينا الخيّال تحدّق بثبات في منتصف المسافة المنظورة، وبين حين وآخر تلقيان نظرات خاطفة نحو الأسفل. يضغط على صف أسنانه السفلي بشدة يصبح من المتعذر معها أن يبلع ريقه. يبدو رأسه وكأنه معلّق من عند مستوى العينين على خط يعلو خمسة أقدام فوق وجوه الحشد… هذا هو الحد الذي تقف عنده الأوامر التي أعطيت له. حذاؤه المزود بمهماز يركل جانبي الحصان من دون توقف ليحثه على المضي قدماً.

مفتوناً ومخدراً برؤية الأحصنة والفرسان، لا يتحرك الصبي من مطرحه إلى أن تقوم بنت روما بجذبه من ذراعه بشدة تكاد أن تطرحه أرضاً. يبدآن بعد ذلك بالركض. تجرّه خلفها بيد وباليد الأخرى تمسك بتنورتها وهي تركض. يلاحظ مرة أخرى كيف أن ذراعيها نحيلتان بصورة شاذة، إلا أن يدها كبيرة بما يكفي لتطوق يده وتبتلعها تماماً. تعلم في أي اتجاه تركض، إنه اتجاه الأشجار في الحدائق العامة، لا تتردد للحظة. 

يمران بقرب جماعة تحمل رجلاً مجروحاً ينزف دماً. أشخاص آخرون يركضون أيضاً. الصراخ يتدفق مع الدماء – لكن مصدرها ليس الشخص نفسه دائماً. الدماء تسيل فوق وجه امرأة، والعيون التي تتدفق الدماء فوقها مغلقة بإحكام. رجل مفرط البدانة يمسك بها من خصرها ويجرها معه. المساحات الخالية تتيح للفرسان الهجوم بسرعة أكبر على الثابتين في أماكنهم. رجل في منتصف العمر يقف وحده في وسط الشارع وهو يوجه لكماته إلى قلب الهواء ويصب لعناته على الجنود ناعتاً إياهم بالجبناء والمرتدين الخونة. يقترب من رتل من الفرسان مصطف بتشكيل ثابت في انتظار الأوامر. ضابط يقف وراء الرتل يأمرهم بالتوقف. يتابع الرجل التقدم. عندما يطلقون النار عليه يسقط على وجهه.

فراشات بلون الحجر الرملي وأخرى بلون زهر العسل. عشب وزهور برية يصل ارتفاعها إلى نصف متر. بتلات يطغى وهج الشمس على لونها فتبدو بيضاء اللون، لكن بياضها لا يشبه البياض الطيني الذي تتمتع به الحلزونات الصغيرة التي توجد في الأماكن ذات التربة المغبرة. زهرة سيف الغراب البرية بلون حجر المرو الكريم شفافة وأصغر من عقلة الإصبع. احمرار الخشخاش الذي يشبه اللون الذي يحضر في عقل الطفل عندما يتخيل النار. زهور خشخاش محتجبة، ورطبة، رؤوسها المتساقطة بلون لطخات الخمر. نتوءات سطحية لصخور مسطحة ناعمة ورمادية كجانبي الدلفين. الحقل كله محاط بأشجار البلوط. أن تموت في ذلك الحقل، يعني أن تتدفق دماؤك إلى قلب الأرض الرطبة. أن يُطلق عليك النار، وتسقط على سكة الترام لتجعل الدماء الحصى زلقة. تخيلت الميتة الأولى لأصنع أكليلاً من الزهور للثانية.

تقتاده عبر الحدائق نحو ساحات السكك الحديدية والشوارع القريبة من محطة ساحة الجمهورية. لا تفلت يده أبداً طوال الطريق. لا تمسكها بطريقة من يحب أو من يحرص على حماية من معه، بل بنفاد صبر وكأنها تجبره على أن يجري أو يسير بسرعة. وعندما يتوقفان تمسك بها بإلحاح كأنها تريد منه أن يفهم في الحال ما الذي يشاهدانه. بين الحين والآخر تتحدث إليه بالإيطالية بالرغم من معرفتها أنه لا يفهم كلمة مما تقوله. الصدمة، وغرابة الوضع الذي وجدا نفسيهما فيه، وربما اليأس المتأصل في نفسها جعلها تغرق أكثر في خيالها الذي ولد كمزحة في البداية. سرعان ما تدعي أنهما يوماً ما سيتزوجان. هذا الادعاء ليس مستبعداً إلا بقدر ما هو مستبعد ما يجري حولهما من أحداث. هكذا تتمكن من أن تخلق نوعاً من التوازن بين عنف الظروف المحيطة بهما، وجموح غرقها التام في خيالها، وهذا التوازن يمكّنها من أن تصبح هادئة تماماً.

يراقبان كيف يتم قلب عربة ترام لتحويلها إلى متراس. بمجرد أن تسقط على الأرض يتحطم زجاج نوافذها. وبعد أن يقوموا بفك الحصان، يقوم الرجال والنساء بجر العربة ليقلبوها ويضعوها قرب عربة الترام. رتل من عمال السكك الحديدية يحملون قطع غيار ورافعات ومعدات من مستودع السكة الحديدية. تسري أخبار تقول إن الأوامر قد أعطيت للجيش ليخلي المدينة شارعاً تلو آخر، ويلاحق ويلقي القبض على كل “متمرد”. مجموعة أخرى من عمال السكك الحديدية يفككون حديد السكة.

كل شيء على وشك أن يتحوّل.

تصوّر معي نصلاً عملاقاً لمقصلة بطول قطر المدينة يهوي ويقطع جزءاً من كل ما يجده في طريقه… الجدران، وخطوط السكة الحديدية، والعربات، والمتاجر، والورش، والكنائس، وأقفاص شحن الفاكهة، والأشجار، والسماء، وحجارة الرصيف. هذا النصل كان قد سقط على بعد بضع ياردات من وجه كل من قرر أن يكافح ويصمد. كل واحد منهم يجد نفسه على بعد بضع خطوات من حافة شديدة الانحدار لهوة سحيقة لا يرى قرارها إلا هو. هذه الهوة، الشبيهة بشق عميق في لحم الجسد، هي الهوة نفسها من غير ريب… ما حدث قد حدث بما لا يدع مجالاً للشك. لكن في البداية لا يشعر أحد منهم بالألم.

الألم ينبع من تفكير كل واحد منهم في أن موته قد أصبح قريباً جداً. يخطر للنساء والرجال الذين يبنون المتاريس أن ما يفعلونه ويفكرون فيه هو على الأرجح شيء سيفعلونه ويفكرون فيه لآخر مرة. الألم تتزايد حدته وهم يبنون دفاعاتهم.

يصرخ رجل يقف على السطح لينبههم أن مئات الجنود يحتشدون عند زاوية شارع فيا مانين.

أمبيرتو وأربعة من عمال الفندق الذين دفع لهم خصيصاً ليبحثوا عن ابنه ووعدهم بمكافأة إضافية مئة ليرة إذا ما نجحوا في العثور عليه، يبحثون في الشوارع الواقعة وراء الفندق، والتي لا يُرى فيها لا جنود ولا متاريس.

تقول بنت روما بالإيطالية، في البداية سنعيش في روما لأنني أظن أننا سنكون أكثر سعادة هناك.

كلما فتحت فمها لتقول شيئاً، ينظر إليها بالطريقة نفسها التي كان سينظر إليها فيها لو كان يفهم ما تقوله. تبدو معاني كلماتها غير مهمة بالنسبة إليه، المهم هو ما يراه… ما يراه في حضورها.

تتابع بالإيطالية: وستشتري لي بعض الجوارب النسائية البيضاء وقبعة يزين حوافها الشيفون.

عند حدود المتاريس يتوقف الألم. يكتمل التحول. يكتمل بصرخة تأتي من السطح معلنة أن الجنود يتقدمون. فجأة لم يعد هناك شيء يندمون عليه. المتاريس قائمة بين المدافعين عنها والعنف الذي يمارس ضد وجودهم ويهدد حياتهم. ليس هناك ما يندمون عليه الآن لأن روح ماضيهم تتحرك الآن ضد حاضرهم. ما وراء المتاريس حيث يتحصنون كان المستقبل قد بدأ فعلاً.

يتوجب على كل أقلية حاكمة أن تخدّر، وتقتل إذا ما استطاعت، الإحساس بالوقت في نفوس أولئك الذين تستغلهم من خلال فرض حاضر أزلي لا يسبقه ماضٍ ولا يعقبه مستقبل. هذا هو سلاح الفاشية لتبقي شعوبها تحت نير القمع. المتاريس تحطم هذا الحاضر وتضع حداً لأزليته.

تقتاده بنت روما إلى ممر يبعد بضع ياردات عن المتراس. سننتظر هنا قليلاً، تقولها بالإيطالية كزوجة تتحدث إلى زوجها الطاعن في السن عند اندلاع العاصفة.

الجنود يتقدمون، يقتربون رويداً رويداً. الأمل الأخير بأن الهجوم قد يؤجل لبعض الوقت يتلاشى. عند أحد أطراف المتراس ترى عجوزاً أشيب الشعر جاثياً وظهره مستند إلى شبك منور الطابق السفلي ومعه طبنجة قديمة موضوعة أمام ركبتيه. هناك رصاصة في بيت النار، ولديه رصاصة أخرى في جيبه. الرجال والشبان الأصغر سناً لا يزالون يفككون السكة ويضيفون ما ينجحون في تفكيكه إلى كومه من حجارة الطريق. الآخرون لا يملكون من الأسلحة سوى القضبان والعصي.

الصمت يخيم على الجميع. أصوات ضرب وطرق بعيدة تأتي من الساحات، وتبدأ بالاقتراب رويداً رويداً. يُسمع وقع أقدام تتقدم بلا رادع وتصبح أكثر انتظاماً كصوت دقات الساعة (الوعد الذي تحمله بتفريخ أوقات لا نهاية لها يمنحه شعوراً بالسكينة، لكن الطريقة التي تملأ بها دقات الساعة هذه الأوقات، والتي تؤرخ انقضاءها، تثقل عليه.) La Rivolusione o la morte! (الثورة أو الموت)… يصرخ الرجل الأشيب من قلب الصمت. وبعد ذلك يقول بصوت مرتفع: غنّوا، لعنة الله عليهم، غنّوا! يجب أن يسمعونا ونحن نغني.

وبمجرد أن يصدر لهم الأمر بالغناء، تتقدم بنت روما صاعدة درجات المدخل، وببساطة، وكأنها واقفة تحت أضواء المسرح، تبدأ بالغناء “Canto dei malfattori” (يد الظلّام):

(النوطة الموسيقية للأغنية)

يصعب علي ألا أعبّر عن إعجابي بصوتها. في البداية ظننت أنه سيكون هزيلاً مثل ذراعيها اللتين أثارتا انتباهه كثيراً. لكن بالرغم من جمال صوتها إلا أن فيه خشونة زائدة عن اللزوم. لا ينضم أحد إليها في البداية، وهذا ما يجعل صوتها يملأ الشوارع، ويأخذ حقه من الإعجاب، ويبدو وكأنه يلين الحجر والشجر وكل سطح وحافة بمجرد مروره عليها.

يطلق الجنود أول وابل من الرصاص على المتراس.

الوابل الأول يحسم الأمر، صدى صوته يقتل أي شرود أو التهاء. لا يبقى شيء يدافعون به عن أنفسهم إلا ما تحمله أيديهم. يرمي بضعة رجال حفنة من الأحجار على الجنود، إلا أنها تسقط بعيداً عن أهدافها. يصدر صوت قوي من درفة إحدى النوافذ ويطلق ضابط النار من مسدسه على نافذة المنزل. على الطريق الفاصل بين الجنود والمتراس، والذي يلفه صمت كارثي، تستلقي تلك الأحجار السبع التي رماها المتمترسون وسقطت بعيداً عن الهدف.

وراء المتراس تركع النساء على ركبهن لتجمعن الحجارة على طول الثقوب التي حُفرت لهذا الغرض ويزودن الرجال بها. أحد عمال السكك الحديدية، الذي لا يزال يرتدي قبعته التي يحيط بها شريط أحمر وذهبي، يصرخ قائلاً، انتظروا، انتظروا ريثما نتمكن من تحطيم رؤوسهم! انتظروا! عندما أعطي إشارتي، علينا كلنا أن نقوم بذلك معاً في الوقت نفسه… انتظروا! يبتسم وهو يقول هذا بوجه أعجف قاسي الملامح.

 

يسد الجنود كل المنافذ. يطلقون وابلاً آخر من الرصاص. للمرة الثانية لا يصاب أحد بأذى. لا يصدقون أن هذا يحصل، ومع ذلك لا يسع أحد منهم إلا أن يعتبر أن عدالة قضيتهم هي ما يقف في وجه الرصاص. الآن!! عشرون رجلاً يرمون حجارتهم التي تخترق الهواء. يتراجع الجنود إلى الخلف قليلاً. تهزأ منهم إحدى النساء قائلة: يا أصحاب الوجوه المقرفة! Faccie di merda!

شاب يرتدي مئزراً يقول عن عامل السكة الحديدية: يبدو هذا الرجل وكأنه ضابط في سلاح المدفعية. تُسمع كلمة “نار” fuoco وفي أعقابها صوت رصاصة واحدة ويسقط العامل قتيلاً. أتت الرصاصة من نافذة علوية، وليس من الشارع. الرصاصة تصيبه في وجهه. يعتقد أن هذه الرصاصة آتية من الماضي، الماضي الذي يسبق طفولته. الجرح الذي خلفته الرصاصة في وجهه، والذي تشرف ثلاث نساء على علاجه، هو الجرح الذي يولد منه موته.

إذا أردت أن تعرف ماذا يشبه الموت تصور متراً مكعباً من الفراغ، أفرغه بعد ذلك من مفهومك عن الفراغ… هكذا هو الموت.

 

يتقدم الجنود مرة أخرى، يتحركون كلهم في الاتجاه نفسه. لكنهم ينسحبون هذه المرة مسافة مئة ياردة، يسود هدوء لم يعد قادراً على أن يخدع أحداً. ما وراء المتراس تسود لحظة من الخوف العظيم. العدو يقيس قدرات المدافعين على التصدي للهجوم ويخطط ليعيد الهجوم على هذا الأساس… ليس بوسع المعتصمين سوى الاعتناء بصاحبهم القتيل، والانتظار بدون أمل في مواجهة عدو يفوقهم عدداً وعتاداً.

 

تهمس له بالإيطالية: أعدك بألا أسمح لأي جندي بأن يضع يده علي، سأغرز سكيني في صدره قبل أن يتمكن من ذلك، تقولها وتلمسه بإصبعها بخفة في المكان الذي سينفذ منه سكينها في قلب الجندي. يتظاهر بأنه يموت ويميل عليها بكل ثقله وكأنه فهم ما تقوله. هذا وعد مني، تقول له. يلقي رأسه على كتفها. ساقاه ترتجفان ويخشى أن يفقد وعيه. تطوقه بذراعها وتقوده إلى الفناء الأمامي لأحد المنازل حيث ترش بعض الماء على وجهه من صنبور هناك، وتطلب منه أن يشرب قليلاً. الماء شديد البرودة، يسمع وهو يتجرعه صوت وابل آخر من الرصاص يأتي من الشارع. يمتزج الصوت الذي يتردد في أذنه بطعم الماء البارد الذي يبتلعه ويتحولان إلى إحساس واحد. يرى وجهها وحاجبيها الكثيفين اللذين يلتقيان في المنتصف وفمها الغليظ وشاربها الواضح للعيان ووجهها المضغوط المليء بالعيوب وعينيها بطيئتي الحركة… يرى التعبير الذي يرتسم على وجهها: لم يحدث من قبل أن رأى تعبيراً يرتسم على وجه شخص آخر ويعبّر تماماً عما يشعر به هو في قرارة نفسه.

 

che dio li maledica (ألا لعنة الله عليهم)، تقول له.

على امتداد الشارع يتمركز العديد من القناصين على نوافذ الغرف العلوية ليتمكنوا من إطلاق النار من فوق المتراس على المعتصمين. تحت الغطاء الناري الذي يؤمّنونه يستطيع الجنود الراجلون أن يتقدموا في الشوارع. ثلاثة من المعتصمين أصيبوا حتى الآن.

 

اسمحوا لي أن أتحدث قليلاً عن أحد المصابين. الرصاصة كانت قد أصابته تحت عظم الترقوة تماماً من جانبه الأيمن. إذا ما أبقى ذراعه اليمنى ثابتة من دون حراك، يبقى الألم مستمراً لكنه لا يتحرك… لا يندفع بقوة ويلتهم دماغه ويفقده الوعي بباقي أعضائه السليمة. يكره الألم تماماً كما يكره الجنود. الألم في جسده هو تجسيد للجنود في حياته.

 

يلتقط حجراً بيده اليسرى ويحاول أن يرميه. أثناء رميه له يحرك كتفه الأيمن سهواً. ينحرف الحجر عن مساره ويصيب الجدار.

أكتب ما تريد، حقيقة أم كذباً، غير مهم. تحدّث، لكن تحدّث بلطف، لأن ذلك هو الشيء الوحيد الذي في وسعك فعله لتخفف عنه قليلاً، ابنِ متراساً من الكلمات، أياً كان معنى هذه الكلمات. تحدّث لكي يشعر بوجودك. تحدّث لكي يعرف أنك موجود وأنك لا تشعر بالألم الذي يشعر به هو. قل أي شيء، أي شيء، فألمه أكبر من أي فارق بين الحقيقة والكذب. ضمّده بكلماتك وصوتك كما يضمد الآخرون له جروحه. أجل. الآن وهنا… سيتوقف الألم قليلاً.

هنا تسقط كل الأحكام.

عندما يصبح الجنود على بعد عشرين ياردة منهم، تصعد امرأتان على القضبان المعدنية المراد منها الحؤول دون سقوط الأشخاص والحيوانات تحت عربة الترام. وبمجرد أن تبرزا للعيان كهدفين تسهل إصابتهما حتى على الأعمى، تبدآن بالصياح في وجه الجنود: هيا، أطلقوا نيرانكم علينا، ماذا تنتظرون؟ عدة بنادق تصوب إليهما لكن لا يطلق أحد النار. تقفان منتصبتين وتسيران متبخترتين فوق نافذة الترام المكسورة. تتابعان الصراخ على الجنود: figli di putana (يا أولاد الشرموطة)، وثم: castrati! يا منايك، يا مخصيون! الصبي الواقف في الشارع يراقبهما من الخلف. كعب قدم إحدى المرأتين يظهر من فجوة كبيرة في جوربها. على كاحل الأخرى، التي لا ترتدي جوارب، يرى لطخة من الدماء. يا منايك، يا مخصيون. المزيد من النساء يصعدن على القضبان لينضممن إليهما.

 

أحد الضباط يلاحظ رجلاً يقف على درابزين الدور السادس في آخر الشارع خلف المتراس. الرجل يصدر بعض الإشارات والإيماءات. يعطي الضابط أوامره إلى فرقة من الجنود ليطلقوا النار عليه.

 

يرى الرجل الجنود وهم يضعون بنادقهم على أكتافهم ويصوبونها نحوه. يفكّر بينه وبين نفسه، إذا قفزت سيتمكنون من قتلي قبل أن تصل قدماي إلى الأرض. يقفز.

 

بالنسبة إلى الضابط، هؤلاء النساء اللواتي يشتمن ويتبخترن على الترام قحبات سيعتقلهن لاحقاً. لكن بالنسبة إلى الجنود أبناء الفلاحين والعمال القادمين من مدن أخرى، فهن يوقظن في نفوسهم ذكريات الطفولة. يظهر من أصواتهن كم هو جليل وشديد غضبهن، وكيف يتعذر معه الحصول على أي جواب. بالنسبة إلى هؤلاء الجنود، تلك النسوة قد اكتسبن، بغض النظر عن أعمارهن، سلطة الشيوخ وهيبتهم. غضبهن لا يمكن فصله عن الحكم المبرم… أمام غضب كهذا يجب على المرء أن يطلب الغفران.

 

يُعطى الأمر للجنود بالتقدم. أعاد الأمر لهم إحساسهم برجولتهم، والذي كانوا مهددين بفقدانه منذ لحظة. مذعنين للأمر يتقدمون إلى الأمام، بنادقهم على أهبة الاستعداد، بعضهم أنيط به محاصرة الرجال المعتصمين، وبعضهم الآخر إنزال النساء الواقفات على الترام.

 

مخصيون، منايك، جبناء Castrati! Cowards!

تتكاثف الكلمات لتتحول إلى صرخة واحدة. ليست صرخة رعب، بل صرخة رفض. هن نساء يصرخن بالنيابة عن كل ما أُجهض وهو ما يزال في الرحم.

لا يمكنني أن أكمل حكاية صبيّنا البالغ من العمر أحد عشر عاماً التي جرت معه في ميلانو في السادس من مايو من العام 1898. يجب علي اعتباراً من هذه النقطة وإلى النهاية، إما أن أغطي كل الأحداث حتى نهايتها قبل أن أضع نقطة الختام، أو أن أتشعب في روايتي بشكل واسع جداً إلى أن تصبح مفككة. أن أتوقف هنا، بالرغم من كل ما سأسكت عنه من أحداث، يعني أن أعبر عن الحقيقة بصورة أكثر وضوحاً مما ستكون عليه لو أنني وصلت بروايتي للأحداث حتى نهايتها. رغبة الكاتب في الاستمرار حتى النهاية تقتل الحقيقة. النهاية توحّد بين المصائر. بينما يجب بناء الوحدة بطريقة أخرى.

 

بين السادس من مايو، وهو التاريخ الذي أعلنت فيه الأحكام العرفية في ميلانو، والتاسع من مايو، سقط مئة عامل قتيلاً وأصيب أربعمئة وخمسون غيرهم بجروح. سجلت هذه الأيام الأربعة نهاية حقبة في تاريخ إيطاليا. بدأ الزعماء الاشتراكيون يعتمدون أكثر على الديمقراطية الاجتماعية البرلمانية، وتم التخلي عن كل المحاولات الرامية إلى إدارة العمل الثوري – أو الدفاع الثوري. بالتزامن مع ذلك اتبعت الطبقة الحاكمة تكتيكاً جديداً في التعامل مع العمال والفلاحين… حل التلاعب السياسي محل القمع الوحشي المجرد. على مدى السنوات العشرين المقبلة في إيطاليا – كما هو الحال في باقي دول أوروبا الغربية، قُمع هاجس الثورة في عقول الرجال. 

_____________________________________

صدرت رواية “جي” لجون برجر” الشهر الماضي عن دار المدى.