مكبث..فيلم ملؤه الصخب والعنف
العدد 187 | 07 شباط 2016
زياد عبدالله


لا يمكن لمايكل فاسبندر أن يكون “ممثلا مسكيناً يتبختر ويستشيط ساعته على المسرح‏ ثم لا يسمعه أحد!” بل هي الحياة حسب مكبث، وفاسبندر يجسد شخصيته في آخر نسخة سينمائية من مسرحية شكسبير “مكبث” وقد نقلها إلى الشاشة الكبيرة المخرج الاسترالي جاستن كارزل، في فيلم استثنائي ملؤه الصخب والعنف.

تبقى غواية شكسبير حاضرة في السينما! فهي لا تغيب إلا لتظهر مجدداً في فيلم جديد مقتبس عن مسرحياته! ولعلها غواية خطرة على الدوام، تستدعي منازلة ضارية بين المسرح والسينما، غالباً ما ينتصر فيها الأول على الثاني، بحيث تتحول السينما إلى صورة للعرض المسرحي، في استسلام لتلاقي المسرح مع السينما بكونهما فناً تركيبياً، خاصة إن تعلق الأمر بمسرحيات شكسبير، فهي شديدة الوطأة على الوسيط السينمائي ما لم تعالج بحصافة سينمائية، فهي تمسرح الفيلم بدل أن “تؤفلم” المسرحية، عدا أفلام قليلة نجت باقتدار من هذه اللعنة، ولتكون “مكبث” محظوظة في هذا السياق، كما عالجها أولاً جوستين كارزل وقبله رومان بولانسكي عام 1971، وقبلهما – بدرجة أقل – اكيرا كوروساوا في فيلمه “عرش الدم” 1957، وأورسون ويلز 1948.

تأتي قوة فيلم كارزل من المعالجة السينمائية للمسرحية (كتب السيناريو كل من جاكوب كسكوف وميكائيل ليسلي وتود لويزو) والرؤية الإخراجية الناظمة لكل عناصر الفيلم المتناغمة مع حلول سردية سينمائية لما هو مسرحي، حيث ينصهر الممثل مع المكان من دون أن يتخلى عن كونه بطلاً تراجيدياً، وأداء فاسبندر الساحر – وهذا ليس بجديد عليه – يأخذنا من دون أن تتخطى قوة تعبيره الخارجية ما يحيط به، والتكوين التشكيلي للصورة يأتي متناغماً والأداء التمثيلي وقوته الدامغة، وإن كان المونولوج ما يبرع به مكبث فإنه حاضر بقوة، ويمكن لـ “الفويس أوفر” أن يستخدم متى لزم.

ولتوضيح ما تقدّم تكفي معاودة مشاهدة “هاملت” كما قدّمها سينمائياً المخرج الانكليزي كينيث براناه عام 1996 في فيلم يمتد لأكثر من أربع ساعات، إذ إن الممثل – براناه نفسه مجسداً هاملت – متفوق على كل ما حوله، ويستعاض – كما في المسرح –  عما يمكن للمشاهد رؤيته، بالاحساس بوجوده لا أكثر، وهكذا نكون حيال صورة للعرض المسرحي، ليست بحال من الأحوال صورة سينمائية. 

لا يضطر جاستن كارزل في “مكبث” إلى نقل شكسبير إلى أزمنة معاصرة كما فعل رالف فينس في “كوريولانوس” 2011، ولا مزج الوثائقي بالروائي كما فعل الأخوين تافياني في فيلمها الرائع “على قيصر أن يموت” 2012، إنه “مكبث” المتخطي لكونه مجازاً عن الطموح، بحيث يتحول الطموح إلى رغبة بالقتل، أو الرعب كما يصف يان كوت مسرحية “مكبث” في كتابه “شكسبير معاصرنا”، حيث الرعب يعني “تذكر جرائم القتل التي اقترفت، والخوف من جرائم جديدة محتومة”، والمقتلة الكبرى التي يبدأ بها التاريخ، هي قتل الملك. إنها كابوس مضمخ بالدماء ويكفي أن نعرف أن كلمة “دم” ترد أكثر من مئة مرة في نص شكسبير حتى تتضح المقتلة التي يخوض مكبث غمارها، وبكلمات كوت أيضاً إن مسرحية مكبث “حلم بجريمة قتل تكسر دائرة جرائم القتل”، وبكلمات مكبث نفسه: “لقد خضت في الدم بعيداً، فحتى لو لم أخض المزيد لكان النكوص مرهقاً كما المضي”.

يبدأ “مكبث” من نبؤة الساحرات حين يكون مكبث قد سحق تمردا ضد ملك اسكوتلاندا دنكن ، وتشكّل تلك النبؤة الهيكل العام للمسرحية/الفيلم، وليكون قدر مكبث حتمياً كما كل الشخصيات العظيمة في التراجيديا الشكسبيرية والإغريقية. تقول الساحرات لمكبث “سلاماً يا مكبث، سلاماً يا أمير كودور! سلاماً يا مكبث، يا ملكاً فيما بعد!” بينما تقول لصديقه بانكوو “ستلد الملوك، وإن يَفُتْكَ أنت المُلك.”، 

تتحقق أولى النبؤات بتنصيب مكبث أميراً على كودور ما يصعّد من طموح مكبث في تحقيق النبؤة الثانية. تلتقط الليدي مكبث (دور استثنائي جديد لماريون كوتيارد) رغبة مكبث بالعرش، وتلعب على وتر شجاعته “هل يخيفك أن تكون في فعلك وشجاعتك ما أنت في التمني!” مذللة أمامه كل العوائق والهواجس التي تعتريه، وهكذا يقترف جريمته الكبرى ويقتل الملك دنكن، ومن ثم يقتل حارسيه، وينصب ملكاً وقد هرب ابن الملك.

سيفتح باب الدم على مصراعيه، ستتصاعد مخاوف مكبث على ملكه “مخاوفنا من بانكوو عميقة الوخز، وفي طبعه الخليق بالملوك يسود ما يجب أن أخشاه. إنه يجرأ على الكثير، وهو إلى معدن ذهنه المقدام يتمتع بحكمة ترشد شجاعته إلى الفعل بأمان”، وهكذا تحضر النبؤة المتعلقة ببانكوو كونه سيكون أباً لسلالة من الملوك بينما وضعت الساحرات على رأس مكبث “تاجاً عاقراً” حسب كلماته. سيرسل مكبث من يقتل بانكوو وابنه الصغير فليانس إلا أن هذا الأخير سينجو، ولتكون هذه الجريمة بداية انحدار مكبث، وهو يرى طيف بانكو في الوليمة التي دعا إليه لوردات اسكتولندا، إلا أنه يواصل القتل حين يبدأ التأمر عليه من قبل مالكولم ابن الملك العائد مع مكداف، منتقماً من هذا الأخير بقتل زوجته وأبنائه، وصولاً إلى النهاية التراجيدية لمكبث وزوجته.

تلك هي الملامح الأساسية لتراجيديا مكبث التي انقض عليها كارزل مكثفاً لأحداثها، معالجاً لها اختزالاً وإضافة في آن، بما يتسق وترتيب الأحداث ترتيباً زمنياً كابوسياً، حيث العنف والمعارك الطاحنة تمضي بحركة بطيئة، ولا تفارق ما يجول في أعماق مكبث، والمؤثرات تأتي من البيئة، من الضباب والبرد والجليد لتبدو مؤثرات حلمية، وصولاً إلى جعل الضباب أحمر في القسم الأخير من الفيلم.

ستتبدّى أهمية المعالجة السينمائية للمسرحية من اللقطة الأولى من الفيلم، وأننا حيال فيلم مفتوح على إضافات لها أن تنظم العلاقة بين تتالي الأحداث وتواقتها وتباعدها وفقاً لمنطق الفيلم أولاً، ولنشاهد ظهور شخصية لا وجود لها في مسرحية شكسبير وهي الفتى الذي يصيب مكبث بحزن عميق وهو يشهد مقتله في أولى معاركه في الفيلم، وليعاود الظهور في مفاصل الفيلم كشبح، كأن يعطي مكبث الخنجر الذي سيقتل به الملك دنكن، فهنا جرى استبعاد طيف الخنجر الذي يراه مكبث، بعنصر خارج من أعماقه، كما لو أن الفتى يبارك فعلته ويشد من أزره.

يستبعد فيلم جوستن كارزل كل ما لا يتصل مباشرة بمكبث، فنحن لا نشهد إعدام أمير كودرو كما في نسخة بولانسكي، ولا يصور الوليمة السابقة لمقتل الملك، بل يضعنا في خضم الجريمة مباشرة، وإيغالاً في الوحشية فإن مقتل زوجة مكداف وأولاده سيكون حرقاً وعلى رؤوس الأشهاد. 

وحين تموت الليدي مكبث فإنه يمضي إلى مخدعها، ويحملها بين يديه ويرقص معها وهو يردد مونولجه الشهير “ﻏﺪﺍً، ﻏﺪﺍً، ﻏﺪﺍً، ﻭﻛﻞ ﻏﺪ ﻳﺰﺣﻒ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺨﻄﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﺮﺓ ﻳﻮﻣﺎً اﺛﺮ ﻳﻮﻡ، ﺣﺘﻰ ﺍﻟﻤﻘﻄﻊ ﺍﻷ‌ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺰﻣﻦ ﺍﻟﻤﻜﺘﻮﺏ، ﻭﻛﻞ ﺃﻣاسينا ﻗﺪ ﺃﻧﺎﺭﺕ ﻟﻠﺤﻤﻘﻰ ﺍﻟﻤﺴﺎﻛﻴﻦ، ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﻭﺍﻟﺘﺮﺍﺏ، ﺃﻻ‌ ﺍﻧﻄﻔﺌﻲ ﻳﺎ ﺷﻤﻌﺔ ﻭﺟﻴﺰﺓ! ﻣﺎ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺇﻻ‌ ﻇﻞ ﻳﻤﺸﻲ، ﻣﻤﺜﻞ ﻣﺴﻜﻴﻦ..”

 لن يترك كارزل نبؤة الساحرات الثانية كما هو الحال في نص شكسبير الأصلي الذي ينتهي بعودة مالكولم وجلوسه على عرش والده، وهذا ما سيحدث في الفيلم لكن مع إضافة جوهرية تكمن بأن فليانس ابن بانكوو سيظهر بعد أن يوضع التاج على رأس مالكولم. يأتي فليانس وينزع السيف المغروز بمكبث ويواصل طريقه إلى قصر الملك الجديد، فسلالة بانكوو كما تقول الساحرات هي من سترث المُلك، ودائرة الدم ستتواصل طالما أنه صراع على السلطة والملك.

يصلح “مكبث” بإخراج جوستين كارزل مثالاً استثنائياً للمعالجة السينمائية لعمل أدبي، وإن كان لنا أن نقارنه بأحد أفلام “مكبث” الكثيرة فإن لنا أن نجد ضالتنا في نسخة رومان بولانسكي، وإن جرى الحديث عن دموية نسخة كارزل، وهذا صحيح، إلا أن مشهد قتل أولاد مكدف في فيلم بولانسكي لا مثيل له بعنفه ووحشيته في نسخة كارزل، إذ إن بولانسكي لا يكتفي بمشهد قتل الابن الذي يصوره شكسبير في مسرحيته وهو يقول “قتلني يا أماه، أرجوك اهربي!” بل يجعلنا نرى بقية الأبناء والبنات مغمورين بدمائهم من وجهة نظر الأم، والقتلة يغتصبون خادمتها، ومن ثم تحتل الشاشة النيران.

“مكبث” هو ثاني تجارب كارزل الروائية الطويلة بعد فيلمه الأول “جرائم سنوتاون” 2011 الحافل بشتى صنوف العنف والسادية والقتل، حيث نكون شهوداً على نشأة وترعرع جيمي وتعرضه لاعتداءات جنسية متعددة، وتحوله إلى قاتل يصوغ انتقامه بوحشية مضاعفة لما تعرض له، وعليه فإن “مكبث” ليس إلا نزهة في رحاب العنف المترامي الذي حمله “جرائم سنوتاون”.

____________________________

روائي وشاعر من سورية صدر له شعراً “قبل الحبر بقليل” 2000، و”ملائكة الطرقات السريعة” 2005. من رواياته: “بر دبي” 2008، و”ديناميت”.

الصورة من فيلم “مكبث” 2015 ، إخراج جاستن كارزل.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.