مقتطفات من قصة أسناني
العدد 269 | 21 كانون الثاني 2022
فاليريا لويزلي | ترجمة: عبير عبد الواحد


* أنا أفضل بائع بالمزاد العلنيّ في العالم، ولكن لا أحد يعلم هذا لأنني من النوع المُتحفّظ الكَتوم. اسمي غوستاڤو سانشيز سانشيز، وإن كان الناس يدعونني بِــ”الطريق السّريع – Highway”، بدافعٍ من المودة على ما أعتقد. يمكنني تقليد جانيس جوبلين بعد كأسين من الرّوم. وبمقدوري تفسير كعك الحظّ الصّيني. أستطيعُ إيقاف بيضة على رأسها على الطاولة مثلما فعل كريستوف كولومبوس في القصة الشهيرة. وأعرف كيف أعدُّ إلى ثمانية باليابانية: إتش، نِي، سَن، شِي، غو، روك، شيتش، هاتشي. كما بإمكاني أن أطفو على ظهري.
هذه قصّة أسناني، ورسالتي حول المقتنيات والقيمة المتغيّرة للأشياء. ومثل أي قصة أخرى تبدأ هذه القصة بالبداية، ثم يأتي صُلب القصّة، ثم النهاية. وما تبقى، كما يقول صديقي دومًا، هو الأدب بما فيهِ من مبالغات واستعارات ومواربات وإيحاءات ومجازات وإضمارات لغوية. ولا أعلم ما الذي يأتي بعد ذلك. ربما الخِزي والموت، وأخيرًا شهرة ما بعد الممات. وفي تلك المرحلة لن أكون في مقام المتحدث بصيغة المتكلّم. سأكونُ رجلًا ميتًا، رجلًا سعيدًا مَحسودًا.
البعضُ يمتلكُ الحظّ، والبعض يتمتع بالجاذبية. ولقد حظيتُ بالقليل من الاثنين. كان عمي سولون سانشيز فوينتس، وهو بائعٌ يتاجر في أربطة العنق الإيطالية فائقة الجودة، يقول لي دومًا: “إنّ الجمال والقوة والنجاح المبكر تَفنى جميعًا، وبأنها تُشكّلُ عِبئًا على كاهل أولئك الذين يمتلكونها، لأن احتمال خسارتها يُمثلُّ تهديدًا قِلّة من يستطيعون احتماله”. وما كانَ عليّ أن أقلق بشأن ذلك أبدًا، إذ لم يكن من شيء سريع الزوال في طبيعتي. لديّ صفات دائمة فقط. ورثتُ من عمي سولون كلّ جاذبيته، كما تركَ لي أيضًا ربطة عنق إيطالية أنيقة. وهي بحسبِ قولهِ كلّ ما أحتاجه كي أصير رجلًا كريمَ النسب.
ولِدتُ في باتشوكا، المدينة الجميلة ذات الهواء الطلق، ولي أربعة من الأسنان السابقة لأوانها، وكان جسدي مغطّى بالكامل بِطبقةٍ رقيقة جدًّا من الزَّغَب. ولكنني مُمّتنٌ لتلك البداية المشؤومة، لأن القباحة كما اعتادَ عمي الآخر يوربيديس لوبيز سانشيز أن يقول هي مُكوِّنة للشخصية. عندما رآني أبي للمرة الأولى ادّعى أن ابنهُ الحقيقي أخذته الأم الواضعة حديثًا في الغرفة المجاورة. حاول بشتّى الوسائل، من بيروقراطية وابتزاز وترهيب، إعادتي إلى الممرضة التي سلّمتني له. ولكنّ أمي حملتني بين ذراعيها في اللحظة التي رأتني فيها؛ وكنتُ أسمر ومتورّما صغير الحجم، ومرتجفًا مثل سمكة الفُقاعة في بطانية المستشفى. كانت أمي قد دُرِّبت على تقبّل القذارة مصيرًا لها، ولكن أبي لا.
شرحت الممرضة لوالديَّ بأن وجود الأسنان الأربعة كانت حالة نادرة في بلدنا، لكنها حالة شائعة بين الأعراق الأخرى. وهي تُسمّى بالأسنان الخُلقية قبل الولادة.
– أيّ نوع من الأعراق؟ سألَ أبي مُتحفّزًا للدفاع. قالت الممرضة: القوقازيّ يا سيدي.
– ولكن هذا الطفل داكنٌ مثل عينِ الإبرة، أجاب أبي.
– علمُ الوراثة مليء بالمعجزات يا سيد سانشيز.
لا بدّ وأن هذه الجملة قد وَاست أبي. إذ أجبرَ نفسه أخيرًا على حَملي بين ذراعيه إلى البيت، ملفوفًا في بطانيّة سميكة من القطن الناعم.
بعد ولادتي بوقتٍ قصير انتقلنا إلى إيكاتيبك، حيث عَمِلت أمي في الخدمة بالبيوت سعيًا وراء أسباب العيش. ولم يكن أبي يُنظّف شيئًا، لا ولا حتّى أظافره! كانت أظافره سميكة، خشنة، وسوداء. وكان يقلّمها عادة بفمه. ليس من التوتر، ولكن لأنه كان تَنبلًا ومُتعجرفًا. بينما كنتُ أؤدي واجباتي المدرسية على الطاولة، كانَ يتمعّن في أظافره صامتًا، مُستلقيًا بجانب المروحة على الكرسي المخملي الأخضر الذي ورثتهُ أمي من السيد خوليو كورتاثار، جارنا في المبنى A-4، الذي توفيّ بمرض الكزاز. عندما قَدِمَ أبناء السيد كورتاثار لأخذ ممتلكاته، تركوا لنا ببغاءه كريتيريا، الذي حَلّت به حالة من الحَزَن وقَضى نحبهُ بعد بضعة أسابيع، والكرسي المخمليّ الأخضر الذي أخذ أبي على عاتقه الاسترخاء عليه كلّ مساء. ذاهِلًا عن العالم، كان يُمعن النظر في بقع الرطوبة بالسقف بينما يستمع إلى الراديو المحلي وينتزع قِطعًا من أظافره، الإصبع تلو الإصبع.

* وَلم يَعُد لأبي أيّة أسنان. أو أظافر، ولا وجهًا حتى. حُرِقت جثّته قبل عامين، وبناءً على طلبه، نثرنا أنا وأمي رماده في خليج أكابولكو. وبعدها بِعام دفنتُ أمي إلى جانب شقيقاتها وأشقائها في باتشوكا، مدينة الرياح الجميلة. تهطل الأمطار هناك على الدوام، وبالكاد يَنفردُ الوقتُ بِنسمة هواءٍ واحدة. أسافرُ إلى باتشوكا لرؤيتها مرة كل شهر، في أيام الآحاد عادة. لكني لا أتخطى بعد ذاك المقبرة، لأنني أعاني من حساسية من غُبار الطلع، وهناك يوجد الكثير من الزهور. أترجّلُ من الحافلة في مكان غير بعيد من البوابات، عند الجادّة الجميلة المزينة بتماثيل الديناصورات بالحجم الطبيعي، وأمكثُ هناك بين الوحوش الوديعة المصنوعة من الألياف الزجاجية، منقوعًا بالمطر، أصلّي وأقول يا أبانا إلى أن تتورّم قدماي، وَينال مني التعب.

* في سنّ الحادية والعشرين حصلتُ على وظيفة حارس أمن في أحد المصانع في فيا دي موريلوس، نظرًا للتحفّظ ذاته، على ما أظنّ. كان المصنع ينتجُ العصائر. والعصائر بدورها تُنتج الفنّ. بمعنى أن أرباح مبيعات العصير موّلت أكبر مجموعة فنّية في القارّة. وقد كان عَملًا جيّدًا منذ ذلك الحين، مع أنني كنتُ مسؤولًا فقط عن حراسة مدخل المصنع، ولم يكن يُسمح لي أبدًا بالدخول إلى صالة العرض حيثُ تُعرض الأعمال الفنية، كنتُ بمثابة سَادنٍ لطائفة من الأشياء امتازت بالصدق والجمال الحقيقي. عملتُ هناك مدة تسعة عشر عامًا. فإذا ما نَحيّنا جانبًا ستة شهورٍ كنتُ مصابًا فيها بالتهابٍ في الكبد، وثلاثة أيام عانيتُ فيها من تسوّسٍ أسنان مريع لينتهي بي الحال بمعالجة مزدوجة لقناة جذر السنّ، وإجازتي السنوية، فأكون بهذا أنفقتُ بالضبط ثمانية عشر عامًا وثلاثة أشهرٍ بعملي حارس أمن بالمصنع. لم تكن أعوامًا عسيرة، ولكنها في المقابل لم تكن طيبة.

* لكن الأيام لم تكن كلها بَتلات زهرٍ مُخمليّة وسُحُبًا من المارشميلّو، كما يقول المغنّي نابليون. إذ أن بعض الموظفين في المصنع، وبالأخص مدير خدمة العملاء، بدأوا يتذمرون من أنني أتقاضى أجرًا مقابل قَضم أظافري والتحديق في السّقف. حتى أن البعضَ صاغَ نظرية مؤامرة مفادها أني أنا ومُشغِّل البسترة قد فبركنا هذه الخدعة ليحصل هو على إجازة مرضية مدفوعة الأجر، ولأحصل أنا على ترقية؛ بالضبط كما هي القصص المختَلَقة السخيفة التي يعتمدها الأشقياء المساكين، الذين لا يُحسنون التعامل مع حظوظ الآخرين السعيدة.

* القطعة المبالغ بها رقم 8

بعض الأسنان تُوقِعُ بصاحِبها العذاب. كما هو الحال مع هذا السنّ الذي تعودُ ملكيّته للسيدة ڤيرجينيا وولف. عندما كانت بالكاد تبلغ من العمر ثلاثين عامًا، افترضَ طبيب نفسي نظرية تزعم بأن أمراضها النفسية مُتأتية من البكتيريا المتراكمة حول جذور أسنانها. وقرر خلع الأسنان الثلاثة الأكثر تضرّرًا. لا شيء تغيّر. وعلى امتداد حياتها، خلعت عدة آخرين، ولم يشكّل ذلك أي فارق. لا شيء على الإطلاق! !rien de rien. أنهت السيدة وولف حياتها بنفسها، والعديد من الأسنان الصناعية في فمها. معارفها لم يروا ابتسامتها إلا في جنازتها. ويُقال، إنها عندما كانت مسجّاة في نعشها شبه المفتوح في منتصف غرفة المعيشة، انتشرت ابتسامة على شفتيها فأضاءت ملامحها الحادة والذكية. من سيدفع ثمانية آلاف بيزو لقاء هذا السنّ المضنى بالعذاب؟ هل مِن أحد؟
عقبَ صمتٍ ثقيل، اشتراه رجلٌ طاعن في السنّ له وجه عنيد ولكن محترم، مقابل 8،900 بيزو.

* القطعة المبالغ بها رقم 4

لسنوات عديدة، كانت هذه القطعة واحدة من أكثر القطع المرغوبة في سوق المقتنيات الفموية المحمولة. كان صاحبها رجلًا قصير القامة، عريض الردفين، له أنفٌ مستدّق وجبهة مثل مؤخرة الخنزير. لم يكن لجنون العظمة حدٌّ في روح هذا الرجل المشين ذو القامة القصيرة. في أكثر من مناسبة قال: “أنا أدرسُ نفسي أكثر من أي موضوع آخر، فأنا الفيزياء والميتافيزيقيا لنفسي”. ولكم أن تتخيلوا، كان طوله بالكاد1.47  متر كانَ شعرهُ خفيفًا أشعثَ، لكن أفكاره كانت قوية وخصبة.
كان لدى السيد مونتين[1]، المالك الأصلي لهذه السن، نظرة هادئة صادقة. وكان في وجهه تعبيرٌ ما بين حزنٍ وَمرح. غيرَ أن عدم كفاءته في مزاولة الأنشطة اليومية قد وصل إلى حدّ السخرية: فخطّ اليد في مخطوطاته كان غير مقروء؛ وكانَ عاجزًا عن طيّ الرسالة جيّدًا، ولم يكن يعرف كيف يمتطي حصانًا أو أن يحمل صقرًا ويُطيّره؛ ولم يكن له سُلطة على الكلاب؛ ولا كانَ بمستطاعه التعامل مع الخيول. كان غير نافعٍ بالمرة، على ما يبدو. وبالرغم من ذلك، فقد تمتع بصحة جيدة في الفم، ما عدا التهاب اللوزتين المتكرر. كان يُفضّل اللحوم نيئة تقريبًا، بما في ذلك السمك. ولم يكن يحب أي نوعٍ من الفواكه أو الخضروات باستنثاء البطيخ. وربما هذا هو السبب في أن السّن في حالة جيدة. علاوة على ذلك، إن جودة السن فائقة: فهو صقيل، ونحيل، ومُدبّب بعض الشيء. وما سرّ أسنانه طويلة العمر؟ اعتادَ السيد مونتين أن يقول: “J’ay aprins dés l’enfance à les froter de ma serviette


فاليريا لويزلي (1983) روائية مكسيكية حائزة على عدة جوائز أدبية. ولدت في مكسيكو سيتي وترعرعت في كوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا والهند. وقد تُرجمت أعمالها إلى أكثر من عشرين لغة عالمية.rnبعد حصولها على إجازة في الفلسفة من الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك، انتقلت لويزلي إلى نيويورك سيتي حيث أتمت دراسة الأدب المقارن في جامعة كولومبيا ونالت شهادة الدكتوراة. تعمل حاليا في تدريس الأدب والكتابة الإبداعية في جامعة هوفسترا في نيويورك.rnتبرع فاليريا لويزلي في الأعمال الواقعية والقصص الخيالية على حدٍّ سواء، كما أنها تعتبر أحد أكثر الأصوات المكسيكية الشابة المثيرة للجدل. من أعمالها " وجوه في الزحام"" (صدرت ترجمتها العربية عن دار المدى بترجمة عبير عبدالواحد)، "" أرصفة ""، "" قصة أسناني ""، "" أخبرني كيف تكون النهاية"" ومؤخرا "" أرشيف الأطفال المفقودين "".rnحازت على جائزتين من جوائز لوس آنجلس تايمز للكتاب، بالإضافة إلى جائزة الكتاب الأميركي. وقد رُشِّحت مرتين لجائزة الدائرة الوطنية لنقاد الكتب دائرة نقاد الكتب الوطنية، وجائزة مراجعات كيركوس لأفضل الكتب الأدبية."

مساهمات أخرى للكاتب/ة: