مقاطع قصصية من “الگراطيط”
العدد 227 | 19 شباط 2018
محمد اشويكة


-1-

 

استفاق العائد إلى القرية على صوت زياد الرحباني وهو يردد:

أنا مش كافر.. بس الجوع كافر
أنا مش كافر.. بس المرض كافر
أنا مش كافر.. بس الفقر كافر والذل كافر
أنا مش كافر لكن شو بعملك
إذا اجتمعوا فِيِّي كل الإشْيَا الكافرين
أنا مش كافر…

استعاد صدى حلقات الجامعة حين كان زعيماً طلابياً ينتصر للمصلحة الطلابية ويُنَصِّبُ نفسه شارحا لـ”البيان الشيوعي” و”الإيديولوجيا الألمانية”.. مستنسخا لأوراقها، محافظا على سريتها، معتقداً في صلاحيتها لتفسير واقع استعصى على التفسير. خبت عاصفة الثورة فيه. قتلتها فيه البيروقراطية. مكتبه بارد كالصقيع. يسير بالتعليمات ويتوقف عند التعليمات وبفعلها. تحول إلى مجرد آلة بيروقراطية تنفذ. يسحب أجره من المخدع الأوتوماتيكي. يرتكن إلى زاوية في بار غير صاخب. يشرب. يتأمل. يكتب.. ولا ينشر. لا يؤمن بقيمة ذلك ما دام الناس يتعلمون القراءة والكتابة من أجل أن يصبحوا موظفين.. ها هو اليوم موظف.. وماذا بعد ذلك؟!

-2-

كسرت الكلاكصونات والزغاريد والهتاف والصفير.. روتين الصمت بالقرية. سارع الصديقان باتجاه الحشد الصاخب.. المنفعل.. الهاتف…

جاء القائد. سيدي القائد. قال القائد. نعم سيدي القائد. كلام القائد حقيقة. يأمر القائد. يسجن القائد. يعفو القائد. يشتهي القائد. يملك القائد. يختار القائد…

القائد.. القائد.. عاش القائد.. عاش عاش.. آش.. آش..

آشْ هَادْ لَحْرِيرَة؟

ينطقها الاثنان دفعة واحدة دون اتفاق مسبق وينصرفان!

– ألم يجد وقتا آخر إلا هذا كي يأتي فيه؟ يعلق أحدهما.

-3-

ما أن يحل شهر الصوم حتى يصبح العديد من الناس منقطي الأنوف. نقط صفراء تتراكم يوما بعد يوم إلى أن تتقشر من تلقاء ذاتها أو تزول بفعل التمخط أو الحر!

نقط تتكون نتيجة ترسبات سائل الحريرة، الأكلة الرئيسية للإفطار في رمضان. يشربها الناس بمغارف كبيرة تتجاوز حدود شفاههم العليا فلا تحجزها إلا أرنبة الأنف. يَعْلَقُ مَا يَعْلَقُ ويحتسي الناس محتويات المغارف مصدرين أصوات عجيبة:

– بخ.. بخ.. بخبخ.. بخبخ.. فت.. فت..

لا يغسلون أنوفهم. أما الاغتسال فتلك حكاية أخرى!

-4-

هناك من يغتسل لأنه قد تزوج امرأة.. وهناك من تزوج “مَرْمَرَة”.. وهناك من تزوجته امرأة. مَرْمُورِيَّة، حْرِيزِيَّة[1] أو مَدْكُورِيَّة![2]

هناك من يغتسل لأنه متزوج.. وهناك من لا يغتسل لأنه مْكَوَّزْ.. وهناك من أتى جانب المْكَوْزِين وكَوَّزَ… والتَّكْوَازْ يعني الانحناء بالرأس تجاه القدمين دون ثني الركبتين مع تقويس بسيط للظهر وترك المؤخرة مشرعة على الهواء!

هذا بعض من محكيات سلالة غير المغتسلين في رمضان.. فصيلة منقطي الأنوف!

-5-

كانت النساء اللائي يتزوجن الرجال ونساء المْكَوْزِين يقمن بعادة التَّكْوَازْ أثناء الخصومات والمشاداة والتلاسن بالكلام الفاجر والفاضح الطافح باستعراض المناقب وتعداد المثالب وإبراز المدخرات!

تَبْعُدُ الواحدة عن الأخرى بمسافة محترمة. تضع رأسها بين ركبتيها إلى أن ترى غريمتها من بين ساقيها. تُكَوِّزُ تجاهها مُزِيلَةً سروالها الشاسع كَاشِفَةً عن بياض عجيزتها التي لا تستطيع امتصاص أشعة شمس الصيف اللاهبة فينعكس الضوء كاشفا عن سوادات الثقوب وغابات الشعر.. مفصحا بجلاء عن مكتنزات سراويل فصيلة المُكَوِّزَات[3] في رمضان… وتلك كانت عاداتهن أثناء كل شنآن (التْرَمْضِينَة)!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- نسبة إلى قبيلة أولاد حريز.

[2]- نسبة إلى قبيلة “لَمْدَاكْرَة”.. وتفيد كلمة “لَمْدَاكِرْ” (المداكر) في العربية المغربية الأعضاء التناسلية للرجل.

[3]- والكوز يا سادة، هو الكأس، والكأس هو الكُسُّ، والكس يا سادة، هو الفرج، والانفراج هو الطاقة، والطاقة هي الكوة التي من خلالها يُرَى الكون جملة وتفصيلا…

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القصص من مجموعة قصصية بعنوان “الكراطيط” صدرت مؤخراً عن منشورات المتوسط في ميلانو (يمكنكم التعرف عليها أكثر في زاوية “صدر  حديثاً”)

*****

خاص بأوكسجين


محمد اشويكة قاص، سيناريست، وناقد سينمائي من المغرب. صدر له في القصة: "الحب الحافي""2001. ""النصل والغمد"" 2003. ""خرافات تكاد تكون معاصرة"" 2004. ""احتمالات"" (سيرة كائن من زماننا) 2006. كما صدرت له دراسات عديدة، منها: ""الصورة السينمائية: التقنية والقراءة"" 2005. ""السينما المغاربية.. قضايا الفرادة"" 2017. ""العرض السينمائي .. تصوراً للعالم"" 2018 . ""الصورة السينمائية .. مستويات الفهم والتأويل"" 2018. كتب سيناريوهات عدة أفلام قصيرة وطويلة، منها: ""بيدوزا""، و""الاحتضار""، و""قفل على القلب""، و""المشردون"".rn"