مـتــون الأحـلام
العدد 225 | 15 كانون الثاني 2018
أحمد الزناتي


في أكتوبر سنة 1964 قرر الروائي الأمريكي، الروسيّ الأصل فلاديمير نابوكوف (1899 – 1977)، ولمدة ثلاثة شهور متواصلة، كتابة أحلامه فور الاستيقاظ مباشرةً بهدف إنقاذها من الفناء على حد تعبيره. يعترف نابوكوف في مذكراته أنّه، شأنه شأن أي إنسان، كان يعاني مشكلات، من بينها الأرق المُزمن. فقرّر تحويل الأرق إلى تجربة أدبية، لكنها تجربة محكومة بمنهج علميّ صارم. جمع نابوكوف هذه الأحلام، وعددها أربعة وستون حُلمًا في كتاب صدر مؤخرًا تحت عنوان Insomniac Dreams، وقد ظهـر الكتاب مزوّدَا بصور البطاقات الأصلية التي حرّرها بخطّ يده، مُـسجلًا عليها أحلامه أثناء التجربة التي بدأت في 14 أكتوبر 1964 واستمرتْ حتى 3 يناير 1965، أي قبل عيد ميلاد زوجته فيرا نابوكوف بيومٍ واحد. الطريف أنّ نابوكوف أشرك زوجته في هذه التجربة، وطلب منها تدوين أحلامها فور الاستيقاظ لتبادل الأحلام المكتوبة. 

دونما تأثّر بسيجموند فرويد ونظرياته، كان الهدف من هذه التجربة هو رغبة نابوكوف في مراقبة مسار الزمن. كان يؤمن بنظرية مضمونها أنّـه في وسع الأحلام إعادة الزمن إلى الوراء، والتذكير بأشياء منسيّة، أوالتنبؤ بأحداث آتية، مشيرًا إلى واقعتيْن طريفتيْن لتأكيد فكرته، الأولى تُروى عن الإمبراطور الروماني أغسطس، الذي أخذ الأحلام على محمل الجدّ، لدرجة أنّه أصدر قانونًا أنّ كل من يحلُم حُلمًا متعلقًا بشأن الامبراطورية عليه أن يروى ذلك في الساحة على مرأى ومسمع من الناس، والثانية عن ابن جلدته، مخترع جدول العناصر الدوري، عالم الكمياء الروسي الشهير ديمتري مندلييف، الذي يروي في مذكِّراته: “رأيت في الحُلم جدولاً، حيث جميع العناصر اصطُّـفـتْ في مكانها كما هو مطلوب، فصحوتُ وسجلته فورًا على قصاصة ورق.”

جاءت الفكرة نابوكوف بعد قراءة كتاب تجربة مع الزمن”، للفيلسوف البريطاني جون دون، قرأه نابوكوف في سنوات الصبا. في هذا الكتاب رأى جون دون أنّ الأحلام ليست مُـنـتجًا من منتجات العقل الباطن، يفرزها اللاوعي أثناء النوم، بل قد تكون رؤيا لأحداث ستقع مستقبلًا، وهي فكرة ليست جديدة، لكنها رسختْ في عقل نابوكوف.

تراوحت الأحلام التي سجّلها الرجل بين أضغاث لا تفسير لها، ومشاهد إيروتيكية مع زوجته فيرا، ومشاهد عنف ضد جنود الجيش السوفييتي، إلا أن بعضها تنبّا بأحداثٍ وقعتْ له بالفعل بعد مرور أسابيع من حُلمه بها، لكنه لم يكشف عن طبيعة تلك الأحداث. يروي نابوكوف في كتابه المشار إليه  Insomniac Dreams (الفصل الأول، ص 2) الواقعة التالية: في ليلة من ليالي شهر مارس سنة 1951، وكان نابوكوف قد بلغ الثانية والخمسين، حـلُـم حلمًا غريبًا بأبيه في بيت العائلة القديم في سان بيترسبرغ في روسيا، الأب يجلس على البيانو، يعزف سوناتا لموتزارت، وتبدو على وجهه ملامح الذعر الشديد، ثمّ ينتهي الحُلم. 

بعد اليقظة وتسجيل الحُلم، يتذكّر نابوكوف (وكأنه قد نسي ذلك) أنّ والده، الضابط ديميتريفيتش نابوكوف، قد قُتِلَ رميًا بالرصاص حين كان في الثانية والخمسين أيضا؛ بل أنّ الحُلْم أتاه في ذكرى الليلة التي قُتِل فيها والده. كان الحُلم هنا تذكرةً بحدث طالما حاول نابوكوف إسقاطه من الذاكرة.

حُلمٌ آخر؛ يحلُم نابوكوف يأنّه يأكل ثلاثة أنواع مختلفة من تُربة الأرض. يدوّن نابوكوف الحُلم دون محاولة تأويله. وبعد مرور ثلاثة أيام، يشاهد نابوكوف بمحض الصدفة فيلمًا وثائقيًا، تظهر فيه أنواع التُربة التي سبق أن رآها في حُلمه، كان الحُلم دليلًا على صدق نظرية نابوكوف أنّ الزمن شريط تسجيل يُمكن إعادته للوراء ودفعه إلى الأمام. 

يعارض الكاتب الألماني فالتر بينيامين (1892-1940) هذه النظرية. ففي كتاب “شارع ذو اتجاه واحد”، (ت: أحمد حسان، مكتبة الأسرة 2016)، يورد بينيامين نصًا نثريًا يقول فيه:” يحذّر تقليد شعبي من حكي الأحلام في الصباح على الريق، ففي هذه الحالة يكون الشخص المستيقظ ما زال خاضعًا لسلطان الحُلم.” يورد بينيامين نصوصًا هي أحلام عن جوته وعن سوق مدينة فايمار، لكنّه لا يقول إن كان قد كتبها بعدما استيقظَ مباشرةً أم لا.

في أحوال أخرى يصير الحُلْم مرادفًا للتجربة الإبداعية، “قماشةٌ خام” قابلة للقـصّ لتفصيل ثوبٍ سرديّ، للأرجنتيني العظيم خورخي لويس بورخيس تجربة طويلةٌ مع الحُلْم بوصفه ينبوعًا لا ينضب للكتابة، ومواصلة الحياة، بل تكاد تتحوّل تجربته الأدبية إلى حُلْم مكتوب، أو حُلم مُـوجّه على حد تعبيره.

ففي قصة “نمور الأحلام” ينجذب الطفل إلى النمور في حدائق الحيوان، ويشغف بموسوعات التاريخ الطبيعي لروعة النمور المصوّرة فيها، لكن فقدان البصر يحيل رغباته إلى أحلام، نقرأ الاقتباس التالي من (المرايا والمتاهات، ترجمة إبراهيم الخطيب، توبقال 1987):  

“انقضت الطفولة وراحت، وكبرت النمور وكبر تعلّقي بها، لكنها مازالت في أحلامي، ففي تلك الجبهة الخفية أو العمائية ظلت تنتشر. وهكذا ما أن أنام ويداهمني حُلم، حتى أعرف فجأة أنني كنت أحلُم. فأفكر: هذا حُلْم، ومجرد انحراف في إرادتي، ولأن لدي قوة لا حد لها، فأنا عازم على اجتراح نَمر.”

وأحيانًا تصبح الأحلام ذاتها مادةً لكتابة سيرة ذاتية روحية، تحاول تأويل العالم والحياة، كما فعل عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ في الكتاب الأحمر (دار الحوار- 2015). موضوع الكتاب الضخم، الذي أفرِجَ عنه للجمهور للمرة الأولى سنة 2009، أي بعد خمسين عامًا من وفاة يونغ، هو كيف تمكّن الرجل من استعادة إيمانه من خلال الدخول في نقاشات مُتخيّلة طويلة مع أخيلة ورموز دينية وأسطورية، كان يراها في أحلامه، فكان يكتب الأحلام بعد الاستيقاظ، ثمّ يجلس إلى مكتبه محاولًا فهم ما رأى وتأويله. ثمّ يناقش، من خلال سرد هذه الأحلام، طبيعة الدين، وطبيعة الرموز المستمّدة من الأساطير، والروح، والموت والحياة، وقيمة الثقافة والتعلّم، إلخ..الطريف أنّ يونغ عنّون أول أجزاء الكتاب باسم: “الطريق لما هو آتٍ”، وكأنّ الكلمات والأوراق لم تعد كافية بالنسبة إليه. يقول يونغ في بداية الكتاب “لقد منحتني هذه التجربة مواجهةً ثريّة لفهم الحياة، فكرة الطواف حول المركز.

أما في التراث الشرقي، القديم والحديث، كان الحُلم مِـنّـة إلهية، أو منحة ربّانية لها وظيفة تنبؤية. نقرأ في ملحمة جلجامش:”..استراح انكيدو، نهض وروى أحلامه، وتحدّث إلى جلجامش.”

كما أنّ الطريق للانتصار على الأعداء يبدأ بحُلم أيضًا، ففي اللوحة الخامس من ملحمة جلجامش تتحدّث الحكاية كيف كان جلجامش وإنكيدو في طريقهما للقضاء على “شامبابا” مُرعب المدينة، فابتهلا أمام إله الشمس كي يمنّ عليهما بحُلمٍ، لمعرفة ما إذا كانت حربهما ستنتهي بالنصر أم بالهزيمة، يقول جلجامش: أيها الجبل أحضر حُلمًا، أيتها الشمس دعي جلجامش يرى أحلامًا.”

وفي الليلة التالية يحلُم جلجامش حُلمًا، يفسره له إنكيدو: جلجامش..حُلمك طيّب..تفسيره سارّ، سيكون الصراع قاسيًا، لككنا سنقضي على الوحوش.”

في التراث الصوفيّ الإسلامي يصير الحُلْم مادةً خام أساسية لبلوغ درجات المعرفة التي تحدّث عنها أهل العرفان. نقرأ في مقدمّة كتاب فصوص الحِكم للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي (ت: أبو العلا عفيفي) العبارة التالية:

“..إنّ قلب النائم يُصبِح وقد اتّصل بالعالم العُلوي، هذا الاتصال أشبه شيء بمجرى غير مضّطرب من الماء الصافي، ينعكس عليه جميع ما هنالك من صور الحقائق النورانية، أما هذه الصور فليست إلا أشباحًا وظلالًا أو رموزًا لتلك الحقائق التي ورائها.”

فيتحوّل قلب النائم، أو قلب الحالم لدى الشيخ الأكبر إلى موضع المعرفة، والمرآة التي تتجلّى فوقها معاني الأشياء. يقول بن عربي أنّه كتب الفصوص تحت تأثير “مبشرة منامية”، رأى فيها النبيّ الأكرم، الذي طلب منه إخراج الفصوص إلى الناس ليتعلّموا منها. وهي تجربة خاصّة تستلزم تهيئة خاصّة، أو بتعبير بن عربي:”تجربة تقتضي إخلاص النيّة وتجريد القصد والهِمّة”، أي استعدادٍ صارِم، يقترب مِن مفهوم التجربة العلمية الذي اتخذها نابوكوف منهجًا لتدوين أحلامه، وتبنّاها يونغ في الكتاب الأحمر، بالطبع مع اختلاف الرؤية والهدف.

العلاقة بين الحُلْم والكتابة أشبه بالعلاقة بين المتن والهامش. فالحُلم هو المتن المتين، والمتن وفقًا للسان العرب هو ما صلُب ظهره، وما ارتفع عن ظهر الأرض، بينما الكتابة هي الهامش الهشّ، والهامش- بحسب ابن منظور- هو الثرثرة وكثرة الكلام بغير صوابٍ، فيُـقـال هـَمَشَ الرجل أي تكثّر بالكلام. فلا يتبقّى للإنسان طوال حياته سوى الحُلم، المتن.

كان بورخيس دائم الإشارة إلى بيت شعري جميل للشاعر النمساوي القروسطي فالتر فون دير فوجيلفايده يقول فيه: “هل حلُمتُ بحياتي أم كانت حقيقة..؟”

*****

خاص بأوكسجين


روائي وقاص من مصر. من رواياته "البساط الفيروزي: في ذكر ما جرى ليونس السمّان"" 2017، و""ماضي"" 2017."