معرض الجثث.. انجيل المسيح العراقي
العدد 183 | 21 تشرين الثاني 2015
زياد عبدالله


“الأصالة أن تحادث الآخرين رغم كوابيس الرعب والآلم” اقتباس لا بأس به للانقضاض على كتاب “معرض الجثث” للكاتب العراقي حسن بلاسم (إصدار دار المتوسط – ميلانو 2015) ولعل الأمر مغرٍ باقتباس المزيد من مفتتح قصة “عادة التعري السيئة” وتحديداً أن فيما يلي معبر لمقاربة آليات بلاسم في مجموعته القصصية “.. في الحقيقة لم أزمع الزهد، ولا الخلاعة في أن أكون عارياً باستمرار. فأنا تعريت في مخيلتي وأبديت الآراء والأفكار، ورسمت صوراً فنية وحياتية مثل من يمارس جنساً لذيذاً. فكل شيء مسموح به: المص، العض، التلوي، الشم، الانقضاض، التشنج، الرعشات، الذوبان، الحر والربيع، الجلد والصفع، الفحيح والزحف، التكبر والإذلال، التأوهات والخرمشة، البلوغ والميوعة، والاختفاء (..) كنت أتعرى لأغازل ذهني مثل من يدلل امرأة. أتعرى للمواساة. أو لعلي كنت أخلط بين فكرة الصدق والجرأة”.

لكم أن تضعوا ما تقدم في أذهانكم حين تقرأون قصص بلاسم، ولكم أيضاً أن تعتبروا ذلك حقيقة تجسدها القصص، وليكون فعل التعري فعلاً متصلاً بالمخيلة أولاً، وأنا بدوري سأحرّف العبارة التي افتتحت بها هذه القراءة لأقول: الأصالة الأدبية والفنية هي أن تقاسم الآخرين مخيلتك رغم كوابيس الرعب والألم، أن تكون المخيلة بحجم الرعب والألم، لا أن تسرد الألم والرعب، وتكتفي بتقديم رواية موازية للحدثي والتاريخي، إذ إن حسن بلاسم في قصصه مصرّ على أن يبدع مخيلة موازية، لها أن تكون وعاء للرعب العراقي كون هذا الرعب يتخطى المخيلة، ينافسها ويجاريها ويكاد يتفوق عليها، كذلك هو الألم، وكمعادل أدبي لذلك فإن بلاسم في قصصه وافق أولاً على أن يخوض هذا الصراع مع واقع يتخطى الخيال وأن يلحق الهزيمة به مؤكداً – ولا دليل لدي على انتصاره سوى قصصه – أن هكذا فداحة تستدعي فتح الباب على مصراعيه أمام الخيال، خيال منبعه الرئيس واقع من الوحشية والألم والرداءة والبذاءة. 

وهكذا يمكن للشاب أن يتحول إلى ذئب رمادي حين يخرج من “شاحنة برلين”، كما أن الأرنب يبيض في المنطقة الخضراء، ويكفن طفل بالخراء، ويدخل شرطي في جسد معد الكلمات المتقاطعة جراء انفجار عبوة ناسفة في مبنى المجلة التي يعمل بها، وللجنة أن تكون قرية تتنظر الاجتياح  ولا أحد فيها سوى أم وابنتها وكلاب مسعورة، والأم تنقع ابنتها في الشمس لكي تسمر بشرتها فقد تناهى إليها أن الجنود يحبون اغتصاب النساء البيض.

سيشكل “المسيح العراقي” أو  “المسيح أبو علج المهووس بالرادارات”  مجازا لتاريخ العراق الحديث وحروبه، هو الذي يستظله الجنود العراقيون لأنه منجاتهم ومخلصهم من القذائف فهو يتكهن بالمخاطر قبل وقوعها، لكن صلبيه لن يكون إلا حزاماً ناسفاً حين يأخذه عن الشاب الذي سيفجر نفسه في مطعم كباب فادياً أمه. وتأتي”معرض الجثث” القصة التي يحمل الكتاب عنوانها كمجاز لبغداد وقد تحولت إلى معرض للجثث وليس الانسان إلا جثة يجب التنويع في عرضها والقصة تبدأ بالتالي “قال لي قبل أن يخرج السكين: بعد دراسة ملف الزبون تكون ملزماً بتقديم نبذة مختصرة عن الطريقة المقترحة التي ستقتل فيها زبونك الأول وطريقة إشهار جثته في المدينة..”.

تلتقي في قصص الكتاب مستويات متعددة من السرد ، وهي متناغمة مع جماليات اللغة التي يستخدمها الكاتب في سرده، وهي لغة مشدودة ومشحونة على الدوام ولها أن تحدث قفزاً حراً لكنه صارم كون تلك القفزات لا تفرّط بخط السرد ولا تحط إلى على أرضية حكائية مصاغة بحنكة، ولها أن تخرج بخلاصات تأملية بالغة الذكاء، قوية ودامغة، وتعدد مستويات السرد بين قصة وأخرى يأتي دائما من انشغال دائم بكيفية سرد القصة، وتموضع الراوي، تقديم الأحداث وتأخيرها بما في ذلك الموت، وفي مرات كثيرة للراوي أن يكون ميتاً.

تتمتع القصص بقدرة تصويرية سينمائية حيث تتداخل صيغة المتكلم مع الرواي ولعل صيغة السرد تبدو من وجهة نظر كاميرا (كاميرا ذاتية وموضوعية)، ففي بداية قصة “الملحن” يقول راوي الحكاية ابن جعفر المطلبي “نحن نبيع السمك منذ أن عدنا إلى بغداد، دعني أساعدها في إفراغ صندوق السمك، ثم نذهب إلى مقهى قريب ونتحدث”، إذا أنه في المقهى سيروى كل ما سنقرأه كما لو أن كاميرا فيلم وثائقي تأخذ شهادة الابن عن والده، كذلك الأمر مع “الأرشيف والواقع”، وفي قصة “أغنية الماعز” فإن سنكون أمام بشر ينتظرون أمام مبنى الإذاعة ليروا حكاياتهم بعد سقوط الديكتاتور، إلا أن نصل ذروة تلك القصص مع صاحب أغنية الماعز.

صدر “معرض الجثث” بأكثر من عشر لغات عالمية، ومنها صدوره عن “دار بنغوين” باللغة الإنكليزية وتصنيفه كواحد من أفضل عشرة كتب صادرة في أمريكا. وقد حاز على جائزة الإندبندنت العالمية 2014 ومع ذلك فإن ناشره بالعربية الشاعر والسينمائي خالد سليمان الناصري يحذرنا منه قائلاً “ومع أني الناشر لكني أنصحكم بألا تشتروا هذا الكتاب. وإذا لم تسمعوا نصيحتي فكونوا حذرين في قراءته خشية أن يفسد ما تبقى من حياتكم”.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.